18 أبريل,2024

الحرية الفكرية

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال الإمام الرضا(ع): صديق كل امرئ عقله، وعدوه جهله[1].

مدخل:

نعيش هذا اليوم ذكرى ميلاد الإمام ثامن الأئمة، وضامن الجنة لزواره، الإمام علي بن موسى الرضا(ع)، ولا بأس ونحن نعيش هذه المناسبة السعيدة، أن نستقي شيئاً من عطاء هذا الإمام العظيم.

ومن ذلك العطاء، نجد العبارة التي افتـتحنا بها المقام، إذ يشير فيها(ع)، إلى مدى أهمية العقل في الحياة الإنسانية، ومدخلية في الوجود البشري الحيوي.

إذ لا يخفى على أحد أن العاقل، يعمل فكره وممارسته لحريته في التفكير بما يكون خادماً لهدفه، سواء كان ذلك الهدف هدفاً فردياً شخصياً بحتاً، أم كان الهدف هدفاً اجتماعياً.

ومن المفترض أن يكون هذان الهدفان متلائمان مع بعضهما البعض بعد تحقق الاقتناع بهما.

وهذا يعني أنه لا ينبغي أن يفرض على الفكر هدف معين، أو أن يمنع من التفكير في هدفه المراد بالنسبة إليه.

بل لابد بمقتضى ما ذكرناه من وجود حرية عند العقل في عملية التفكير على مستوى تحديد الهدف، ومتى تحصل له ذلك، فلا ريب في أن العقل عندها سوف يقرر وجود مجموعة من القيود لابد من توفرها للقبول بالهدف المراد من عدمه.

ولذا لو كانت الحرية الفكرية مؤدية إلى ما يضر بالهدف، فإن المشرع الحكيم سوف يتدخل ويمنع من هذه الحرية.

نظرة الإسلام للحرية الفكرية:

وعلى أي حال، فقد وردت نصوص عديدة تشير إلى الحرية الفكرية، كالنص الرضوي الذي افتـتحنا به المقام، وهو ما روي عن أبي الحسن الرضا(ع)، وهو امتداد لما جاء عن جده أمير المؤمنين علي(ع)، إذ يقول: العقل عقلان، عقل الطبع، وعقل التجربة، وكلاهما يؤدي إلى المنفعة، والموثوق به صاحب العقل والدين، ومن فاته العقل والمروءة فرأس ماله المعصية، صديق كل امرئ عقله، وعدوه جهله، وليس العاقل من يعرف الخير من الشر، لكن العاقل من يعرف خير الشرين، ومجالسة العقلاء تزيد في الشرف، والعقل الكامل قاهر الطبع السوء، وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساويها في الدين والرأي والأخلاق والأدب فيجمع ذلك في صدره، أو في كتاب ويعمل في إزالتها.

وكذا ما جاء عن الإمام الصادق(ع) من قوله: من كان عاقلاً كان له دين، ومن كان له دين دخل الجنة.

وفي القرآن الكريم ما يشير إلى ذلك أيضاً، وهو كثير، فلاحظ قوله تعالى:- (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)[2].

وقال سبحانه وتعالى:- (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب)[3].

المرجعية الفكرية:

إلا أن في البين سؤالاً يمكن أن يطرح، وهو: هل أن العقل له القدرة دائماً على معرفة الهدف، أم أنه بحاجة إلى من يعينه، ويرشده في عملية التفكير، من دون أن يكون ذلك المعين متسلطاً عليه، ومسيطراً عليه سيطرة تامة، وإنما هو بمثابة المرشد والموجه له، فيكون مرشداً له، وهو ما يمكن أن يعبر عنه بالمرجعية الفكرية؟… فهل هناك حاجة إلى هذه المرجعية الفكرية، أم لا.

وبعبارة موجزة، ينصب السؤال حول قدرة العقل على المعرفة، ومدى سعتها وضيقها.

لا يخفى على أحد أن القرآن الكريم وكذا السنة المباركة، قد أظهرا كثيراً من الاحترام والتقدير للعقل، كما يستفاد ذلك من غير واحدة من الايات القرآنية الشريفة، وكذا من خلال التأمل في النصوص الصادرة عن المعصومين(ع)، فمن الايات القرآنية المشيرة لما ذكرنا الآيات المتعرضة لإثبات وجود الباري سبحانه وتعالى، وإثبات وحدانيته، وإثبات صفاته الثبوتية، قال تعالى:- ( لو كان فيهما آله إلا الله لفسدتا)[4]، وقال سبحانه وتعالى:- ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت)[5].

نعم قد يتصور بعضهم أن هاتين الآيتين وأضرابهما مندرجتان في الآيات المتعلقة بالتشريع الديني، وهو ما يتوقف الأخذ به على الإقرار بالنبوة والرسالة.

لكن الصحيح خلاف ذلك، إذ أن هاتين الآيتين مندرجتان في الخطابات الموجه للعقل، من خلال صور القضايا البرهانية التي متى توجه العقل إليها فإنه يأخذ بها حينئذٍ من باب القناعة، وليس من باب التعبد.

وعلى أي حال، فعند إرادة الإجابة على التساؤل السابق، نجد أن المشرع الإسلامي قد مارس في بعض الأحيان دور المرشد الفكري للعقل دون انتظار من العاقل في الإشارة إلى وجود حاجة إلى مرشد من عدمه.

وهذا المعنى-وجود المرجعة الفكرية-قد أشارت له مجموعة من النصوص الإسلامية، فمن القرآن الكريم توجد مجموعة من الآيات الشريفة:

منها: قوله تعالى:- (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيـين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمونا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)[6].

ومنها: قوله تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً)[7].

ولا يخفى أن التنازع المشار له في الآية الشريفة لا ينحصر بحسب الظاهر في خصوص المنازعات بمعنى الخصومة التي تكون محتاجة إلى القضاء، بل الظاهر أن اللفظ مطلق، وبالتالي يكون شاملاً أيضاً للتنازع في القضايا الفكرية، وعليه تكون الآية دالة على ما ذكرناه من وجود المرجعية الفكرية للعقل، فلاحظ.

والنصوص في هذا المجال كثيرة، يمكن للمتأمل الإطلاع عليها بالمراجعة للمصادرة الحديثية المعروفة، والمتداولة.

القراءات المتعددة للدين:

هذا وقد يتوهم أن من الحرية الفكرية ما انتشر اليوم من الدعوة إلى قراءاة الدين بقراءات متعددة.

تعريف النظرية:

والذي يـبدو أن القائلين بهذه النظرية يريدون من الدين في قولهم: القراءات المتعددة للدين، هو النص الديني، الأعم من القول والفعل والتقرير، وسيرة أئمة الدين، والمراد من تعدد القراءات، تعدد التفسيرات والتلقيات للنص الديني.

وبما أن الثقافة الإسلامية بخاصة، مقتبسة من النصوص الدينية، لذلك فإن هذه الثقافة تدور حول محورية النص، وللنص تأثيره الكبير فيها، فكل نظرية تطرح فهم النص، أو النص الديني، يكون لها أثرها الكبير والمباشر في الثقافة الإسلامية.

هذا ومن الحقائق الواضحة التي لا يمكن إنكارها، وجود الاجتهادات والآراء والتفسيرات المختلفة للنصوص الدينية، كما يلاحظ في اختلاف آراء الفقهاء والمفسرين والمتكلمين وأمثالهم. وكما يلاحظ وجود هذه التعددية في الفهم والتفسير في مجال تفسير النصوص الأدبية من النثر والشعر.

بل يمكن أن يقال بأن من الشروط اللازمة لتطور العلوم وجود اختلاف الآراء والتفسيرات، لذلك ربما يبرز هذا السؤال إلى الأذهان، وهو: إذا تقبلنا وجود الاجتهادات والتفسيرات المختلفة، حتى في النصوص الدينية كحقيقة واضحة، وأصل موضوعي، فلماذا هذا التحسس، بل النقد والرفض والمعارضة الشديدة لها من قبل أنصار المنهج التقليدي والصحيح في فهم النص، ومن قبل علماء الدين، والمفكرين المتدينين؟…

فإذاً لا مانع من وجود قراءات متعددة للدين، ينطلق فيها كل واحد بحسب مفاهيمه ومعطياته في فهم الدين.

والجواب عن هذه النظرية يتضح من خلال أمور عديدة نقتصر على ذكر بعضها:

الأول: ما هو الطريق للجزم بأن الحكم لا يلائم أطروحة الإسلام وأهدافه، وهل يمكن الاعتماد في ذلك على الظنون والأذواق، ثم ما هو البديل الذي نضعه بدلاً عن الحكم، فمثلاً لو حذفنا سهام الإرث، أو الحدود والديات فما هو البديل لها، إذ لا يمكن بقاء المال بلا وريث، أو بقاء المجتمع بلا قوانين جزائية، فهل القانون الجزائي الذي يضعه البشر أفضل مما وضعه الله سبحانه وتعالى؟…

ولعله لهذا نهى القرآن الكريم عن الظنون، والتي قصد بها خضوع الإنسان لأهوائه وقبلياته والأدلة غير العقلائية في أحكامه وعقائده، وكذلك نهت الروايات عن التفسير بالرأي، وهو فرض الإنسان لقناعاته وأحكامه المسبقة على النص، وكذلك نهت عن اعتماد الظنون غير المعتبرة في تفسير النص أو استنباط الأحكام، وقد صرح بهذا المعنى القرآن الكريم، قال تعالى:- ( لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض).

الثاني: ومما يدل على ثبات الشريعة وبقاء أحكامها، خاتمية الرسول(ص) وشريعته، وأنه لا تنسخها شريعة نبي من الأنبياء، بصريح القرآن الكريم، قال تعالى:- ( وخاتم النبيـين) والأحاديث الشريفة، وأنها من ضروريات الدين.

هذا وقد وضع الشارع المقدس قواعد وأحكاماً كلية تعالج جميع التغيرات والمستجدات في كل زمان ومكان، منها قواعد العناوين الثانوية، مثل( لا ضرر ولا ضرار) وأمثالها، وهذا كله يدل على أن الشارع المقدس من خلال جعله للأحكام الثابتة دون نسخها، قد جعل شريعته بصورة تلائم أهدافه لإصلاح البشرية وهدايتها وسعادتها في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة.

الثالث: إن القول بنظرية القراءات المختلفة للدين والنصوص الدينية ومشروعيتها بمعناها الشامل بالتفسير السابق، يعني القول بمشروعية تغير الشريعة، حسب الزمان والمكان، وأن جميع المذاهب والتيارات على حق، مع ما في بعضها من نسخ وتحريف وأحكام ومعتقدات باطلة، بل هدامة للفرد والمجتمع، وأن جميع الآراء والتفسيرات للنصوص على حق والإسلام لا يوافق بذلك، لأن الأحكام الشرعية عندنا ثابتة لا تـتغير.

من هو أكثر المتضررين من فقد الحرية الفكرية:

هذا ولو أردنا أن نخرج عن الإطار التنظيري للحديث عن الحرية الفكرية، بأن عمدنا إلى معايشة الواقع الخارجي بملاحظة تطبيق الحرية الفكرية وجوداً وعدماً، وملاحظة مدى استيعاب الأفراد لها وتطبيقها في حياتهم وشؤونهم، سوف نجد أن هناك فئة متضررة، تعاني معاناة شديدة يصعب على الفرد تصورها، وذلك جراء فقد الحرية الفكرية، وهم الشيعة الإمامية، إذ لا زال المنتسبون لهذا المذهب يعيشون حالة من الحصار الفكري، فهم لا يملكون القدرة على بث أفكارهم وتعريف الآخرين بها، بل نجد أن أغلب من أطلع على هذا المذهب، فإن طريقه إلى معرفة ذلك هو الآخرون، مما يجعل المعلومات الواصلة إليه لا تخلو عن تشويش واضطراب.

بل مما يزيد الأمر سوءاً، أن يقيس البعض المذهب الشيعي على بقية المذاهب السنية، دونما ملاحظة منه إلى أن هناك فرقاً واضحاً في المنهجية والطريقة، وكيفية التعامل مع القضية الشريعة بكافة أبعادها.

ويكفي في التدليل لعى ذلك، المنهج الحديثي، إذ أن السنة يعتمدون على مجموعة من الكتب يعبرون عنها بالصحاح الستة، وهذا يعني أن كل ما جاء فيها فهو صحيح، ومحرز صدوره عن النبي(ص)، وبالتالي لا مجال لرده، ولا المناقشة فيه، بل يتعبد به على أنه أٌرب ما يكون إلى القرآن المنـزل.

بينما على العكس تماماً منهج أتباع مدرسة أهل البيت(ع)، فإنهم لا يلتـزمون بهذه الأطروحة من القول بوجود مصدر حديثي واحد أو أكثر يحكم بصحة جميع ما جاء فيه.

نعم ورد هذا عن بعض مشائخنا الإخباريـين، لكنهم(رض) خصوا ذلك بخصوص الكتب الأربعة، وقد تعرض هذا القول الصادر منهم استناداً للشهادة الموجودة في ديباجة كل واحد من تلك الكتب، إلى نقد ومناقشة.

بل حتى لو أننا التـزمنا بصحة ما جاء عن مشائخنا الإخباريـين، إلا أن ذلك لا ينسجم مع أطروحة العامة، ضرورة أننا نعتقد بفتح باب الاجتهاد في علم الرجال، كما هو في بقية الأبواب، وبالتالي نتيجة الاجتهاد الموجود عند جملة من مشائخنا الإخباريـين، حكموا بصحة الكتب المذكورة للشهادة الصادرة من مؤلفيها، لكن هذا لا يكون حجة على غيرهم من الفقهاء، لأنه مثل أي قضية من القضايا الأخرى الاجتهادية.

وعلى أي حال، ما قيل من أن الشيعة لا يملكون كتاباً حديثياً صحيح الأسناد كله، كما عليه أبناء العامة، لا يعد إشكالاً في الحقيقة علينا نحن الشيعة، بل في الواقع منشأ الكلام المذكور جهل القائل بمنهجية الشيعة في التعامل مع الأحاديث، وعدم معرفته بكون باب علم الرجال مفتوحاً عندنا لم يغلق كما هو عند أبناء العامة.

والحاصل، مجرد وجود رواية من الروايات في مصدر من مصادرنا الحديثية، ولو كان من المنـزلة والتقدير عندنا بمكان، إلا أننا لا نحكم بصحة جميع ما جاء فيه، بل يخضع لدراسة سندية، ربما اختلفت نتائجها من فقيه لآخر.

ولذا يمكننا القول بأنه يمكن أن نوجد كتاب حديث صحيح، لكن على وفق مباني فقيه من الفقهاء، لا أنه صحيح على وفق مباني جميع فقهاء الشيعة.

بل ن إيجاد كتاب بمثل هذه الكيفية يتنافى مع فتح باب الاجتهاد في علم الرجال عند الشيعة الإمامية.

مجالات الحرية الفكرية في الإسلام:

هذا وقد حددت مجالات الحرية الفكرية في الإسلام في عدة مجالات نشير إليها:

في مجال العقيدة:

إذ حث الإسلام على الوصول إلى معرفة الله سبحانه ووحدانيته، وصدق دعوى مدعي الرسلالة والحاجة لخليفة له ولزوم المعاد، من خلال تفعيل العقل، ومحاولة تحريكه للوصول إلى تلك النتائج التي دعى لها الشرع الشريف، ولذا نراه قد رفض التقليد في العقيدة، بل ذم كل من كان منتهجاً نهج الآباء والأجداد دونما إعمال منه للعقل والفكر، ودونما سعي منه لتحريكهما وتحريرهما.

نعم هنا ما ينبغي الالتفات له أن الحرية في العقيدة، تستوجب مراعاة من يقوم بممارستها بملاحظة قدراته الذهنية، فلو لم يكن قادراً فلا ينبغي له الخوض في مجال البحث العقدي، كي لا يقع في ما لا يحمد ولا يرغب في حصوله.

في مجال الفقه:

ومع أن الإسلام يرى عدم قدرة الإنسان بمفرده على وضع التقانين التي يحتاج إليها في حياته، فلا قدرة له على وضع الشريعة التي توصله إلى هدفه، إلا أنه دعاه إلى التفكير في الوصول إلى أن هناك تكاليف موجهة إليه لابد عليه من امتـثالها وتحقيقها في الخارج، لتفرغ ذمته مما اشتغلت به.

وقد أتضح من خلال ما قدمنا أن الحرية الفكرية في الجانب الفقهي مشروطة أيضاً بقدرة الإنسان على ممارستها، وهذا يعني أنه ليس لكل أحد ممارسة التشريع والتقنين.

——————————————————————————–

[1] أصول الكافي.

[2] سورة محمد الآية رقم 24.

[3] سورة الزمر الآية رقم 18.

[4] سورة الأنبياء الآية رقم 22.

[5] سورة الغاشية الآية رقم 17.

[6] سورة القرة الآية رقم 213.

[7] سورة النساء الآية رقم 59.