20 أبريل,2024

الجفاف الروحي (8)

اطبع المقالة اطبع المقالة

كيف يكون للذكر فاعليته في حياتنا:

هناك نوعان من الذكر:

الأول: الذكر الراكد الجاف الذي لا يكون له أي أثر في حياة الإنسان.

الثاني: الذكر الفاعل الذي له أثره ومعطياته في حياة الإنسان.

متى يكون الذكر فاعلاً:

هذا ولكي يكون الذكر فاعلاً، بحيث يترك أثراً في حياة الإنسان، لابد من توفر مجموعة من الشروط:

الأول: صدوره من قلب حاضر:

إذا مارس الإنسان الذكر، لكنه مارسه بقلب مشغول، بقلب غائب، بقلب منصرف عن الله سبحانه وتعالى، فلا ريب في أنه لن يكون للذكر حينئذٍ أي أثر في حياته، بخلاف ما إذا كان يمارسه بقلب حاضر، متوجه إلى الله، فإن الذكر حينها سوف يحقق أهدافه، وينـتج آثاره.

وهذا المعنى الذي ذكرناه يمكن تطبيقه على كافة العبادات، فالسبب الرئيس في عدم وجود دور فاعل لها في حياة الإنسان يرجع إلى أنها تمارس بقلب غائب، وهذا يعني أنه لا يكون لها دور فاعل، إلا إذا مارسها الإنسان بقلب حاضر، ولذلك ورد في غير واحد من النصوص: أن الصلاة لا يقبل منها إلا بمقدار ما يحضر فيها العبد قلبه.

فالصلاة والدعاء، والذكر، وتلاوة القرآن، كلها عبادات تحتاج إلى حضور القلب.

ولهذا لكي نعطي للذكر فاعليته، لابد أن نعيش الإحساس بذكر الله في قلوبنا، قبل أن ينطلق الذكر على ألسنتنا، قال أمير المؤمنين(ع): من عمّر قلبه بدوام الذكر حسنت أفعاله في السر والجهر[o1] .

فاستقامة الأفعال وحسنها مرتبط بأن يعمر الذكر القلب، وإلا كان هذا الذكر لقلقات لسان باردة، لا أثر لها في حياة الإنسان.

الثاني: أن يصدر الذكر عن عقل واعٍ:

فلابد لكي نستفيد من الذكر، بحيث نعطيه فاعليته، لابد أن يملك الذاكر وعياً للذكر، بأن يستوعب معانيه ومضامينه ودلالاته، فمتى ما توفرنا على هذا الوعي وهذا الفهم، أمكن للذكر أن يتحرك، وأن يعطي وأن ينتج.

الفهم الواعي للذكر:

ويكون الفهم الواعي للذكر من خلال الترجمة الواعية للذكر، والتطبيق الواعي إليه، بأن تـتحول المضامين والأفكار إلى ممارسات متحركة في حياة المكلف.

أما إذا فقد الإنسان الفهم والوعي لمعاني الأذكار فسوف لن نملك القدرة على أن نترجمها إلى واقع عملي متحرك وإلى سلوك ملتـزم.

الثالث: أن يصدر الذكر عن توجه صادق:

فلابد من أن يكون الذكر صادقاً مخلصاً منقطعاً إلى الله سبحانه وتعالى، فمن خلال هذا الصدق والإخلاص والانقطاع يمكن أن نعيش بركات الذكر وفيوضاته.

نماذج من ذكر الله سبحانه:

هذا ولنشر لبعض نماذج الذكر الذي يمكن للمؤمن ممارسته، وقد يكون من النوع الأول من الذكر، كما يمكن أن يكون من النوع الثاني، ومن الواضح أن انطباق أي من النوعين عليه، أمره بيد المكلف نفسه، فهو الذي يحول الذكر إلى مصداق من مصاديق النوع الأول، وإلا جميع الأذكار في الحقيقة هي من النوع الثاني، كما لا يخفى.

النموذج الأول: التكبير:

ونعني بالتكبير قول(الله أكبر) كم مرة تردد هذه الجملة؟… من المعلوم الذي لا ريب فيه أننا نرددها يومياً، ولا أقل من خلال الفرائض الخمس الواجبة التي نؤديها، ونحن نرددها أكثر من ثلاثمائة وثلاثين مرة. فلو تمت ممارسة هذا الذكر بشكل واعٍ، وبشكل حقيقي، كم ستكون له آثار مذهلة جداً في الحياة الإنسانية؟…

ما هي دلالات هذا الذكر:

الأول: عندما نقول(الله أكبر) مجردة عن كل المتعلقات، فهي تعني أن الله سبحانه وتعالى هو الأكبر المطلق، الأكبر من كل شيء، الأكبر من الشيطان، من الهوى، من المال، من الأهل، من الأولاد، من النفس، من الدنيا بكل ما فيها، لأن كل هذه الموجودات من صنع الله، ومن عطاءه، فهي مرهونة لقبضته، ولحكمه، وهي صغيرة حقيرة ضئيلة أمام عظمته سبحانه وتعالى، وجبروته وعزته، وقدرته، فحينما نردد كلمة(الله أكبر) فنحن نقرّ ونعترف لله سبحانه بالعظمة والملك والجبروت، والقدرة والعزة، التعالي والكبرياء.

الثاني: عندما نقول(الله أكبر)فإنها تبرز شعار التحدي والصمود، لأنها متى صدرت من الإنسان المؤمن، فهي تعبر عن صمود العقيدة وصلابة الإيمان، وشموخ المبدأ في مواجهة كل التحديات التي تحاول أن تقهر إرادة الإنسان المؤمن، أن تسقط عزيمته، أن تضعف عنفوانه، إنه يواجه هذا التحدي بـ(الله أكبر) والتي تملأه صموداً وإصراراً وثباتاً وقوة وشموخاً، فتـتهاوى أمامه كل قوى الدنيا مهما تفرعنت وتجبرت وتعملقت، وتغطرست، إنها صغيرة حقيرة، ذليلة، أمام شموخ الإيمان وكبرياء العقيدة المعبئة بحب الله، وبعظمته، وبجبروته.

الثالث: عندما نقول(الله أكبر) فهي تحصن الإنسان في مواجهة الشيطان:

هذه الكلمة، تعني الانتصار على الشيطان، وعلى الهوى، الغواية، الفساد، الانحراف. ولو أن قائلاً قال: إننا نردد هذه الكلمة مئات المرات في اليوم والليلة، لكننا نعيش الانهزام أمام الشيطان، وهوى النفس، وإغراءات الحياة.

أيها الأحبة، ليست المسألة هي مجرد عملية ترديد لكلمة، إنما القضية تكمن في كيفية ترديدها، فتارة نرددها من دون وعي ولا صدق، وأخرى يتم ترديدها بوعي وصدق.

فإذا رددنا الكلمة بوعي وصدق، وبصيرة وإيمان، عندها سوف نجد فعلها وتأثيرها، وإلا فكيف نوفق بين قولنا(الله أكبر) وصدور المعاصي والذنوب؟!!!….

الظالم عند إقدامه على ظلمه، لا يكون الله(أكبر) في قلبه، بل إن نزوة الظلم ونزوة الاعتداء والقهر هي الأكبر في داخله حينـئذٍ.

عندما يقدم الإنسان على الغيـبة، أو على البهتان، أو يقترف الكذب، فليس الله هو الكبر في قلبه، بل الأكبر في قلبه هو هوى النفس.

وكذا عندما يقدم الإنسان على أكل الحرام، أو عندما يضعف أمام التحديات، أو حين يقوم بمداهنة أهل المعاصي، وعندما يعمد إلى المساومة على المبدأ

ففي جميع هذه الحالات وأمثالها، لا يكون الله هو (الأكبر) في قلب الإنسان وعقله، وعواطفه، وحياته، وإنما الأكبر هو الدنيا والشيطان والهوى.

النموذج الثاني: البسملة(بسم الله الرحمن الرحيم):

مما ورد في مسألة البسملة، والتشديد عليها والاهتمام بها، قوله(ع): كل أمر ذي بال لم يـبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر.

ما هي دلالات البسملة:

للبسملة مجموعة دلالات:

الأولى: البسملة شعار الإنسان المسلم:

البسملة شعار المسلمين، مما يستوجب علينا طرحه بقوة، وبلا مداهنة، ولا مساومة، وبلا مداراة، وبلا خجل، خصوصاً ونحن اليوم في زمان التحديات التي تحاول أن تحاصر إيماننا، وتصادر انتماءنا، وتغيّب هويتنا. نحن في هذا الزمان بحاجة إلى أن نؤكد(الانتماء والهوية)، وإلى أن نعلن بقوة شعارنا الإيماني، قال تعالى:- ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا)[o2] ، لاحظ قوله تعالى:- ( قالوا ربنا الله) أعلنوا شعار الانتماء، لا يكفي أن نمارس الانتماء، بل لابد أيضاً أن نرفع شعار الانتماء، قال تعالى:- ( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين).

هذا ولا يخفى أن الانتماء يتحرك ضمن مسارات ثلاثة:

الأول: التعبير عن الانتماء، (وقال إنني من المسلمين).

الثاني: التجسيد العملي للانتماء، (وعمل صالحاً).

الثالث: تحريك الانتماء، (دعا إلى الله).

فالبسملة تعبير عن شعار الانتماء إلى الله تعالى، لا يصح التنازل عنه تحت أي عنوان، ومهما كانت الدعاوي والمبررات.

الثانية: البسملة تحدد المنطلق:

يمكن تحديد المنطلق من خلال البسملة، لأن المؤمن ينطلق من خلال الله سبحانه في كل مواقع الحركة، سواء كان في الموقع العبادي، أم كان في الموقع الأخلاقي، أم كان في الموقع الاجتماعي، أم كان في الموقع الثقافي، أم في غير ذلك من المواقع، فهو ينطلق باسم الله سبحانه، لا باسم الإنسان، أو باسم الحاكم، أو باسم الشعب، أو غير ذلك.

ومتى انطلقنا باسم الله، فسوف نكون مع قضايا المجتمع، وهموم الناس، ومع قضايا المحرومين والبائسين والمحتاجين، مع كل قضايا الإنسان.

هذا وقد يُسأل ما هو الفارق بين من يكون منطلقهم الله سبحانه وتعالى، وبين من يكون منطلقهم غير ذلك، بل يكون منطلقه أمراً آخر؟…

يكمن الفارق بين النوعين، في أن من يكون منطلقهم الله سبحانه وتعالى، لن تـتحول في حسابته قضايا الإنسان إلى قضايا للتجارة الاجتماعية، أو غيرها، كما يفعل أولئك الذين لا يرتبطون بالله، ولذلك نراهم يتاجرون بقضايا الناس، وهمومهم، وآلامهم، وهذا بخلاف المؤمنين المرتبطين بالله سبحانه، فهم يمارسون مسؤولياتهم في خدمة قضايا الإنسان من منطلقات عبادية ربانية يستشعرون من خلالها لذة الطاعة والعبادة والاستجابة لأوامر الله تعالى، وأن أي تفريط أو تهاون، فضلاً عن الخيانة، هو عصيان يعرضهم إلى عقوبة الله سبحانه وعذابه وغضبه.

الثالثة: تحديد البسملة للموقف الشرعي:

إن الابتداء بالبسملة في كل عمل يفعله الإنسان ويقوم به، حتى لو كان عملاً صغيراً كما لو ابتدأ الإنسان بالخروج بالبسملة من بيته، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، فهذا يعني أن الهدف المشروع من هذا الخروج هو هدف مشروع، لأنه لا ينسجم مع الابتداء بالبسملة كون العمل الصادر عملاً غير مشروع، فابتداء الحركة باسم الله، تعبير واضح عن كون الحركة التي صدرت من الإنسان حركة مشروعة، وأنها حركة في اتجاه هدف يرضي الله تعالى.

وكذا حينما يقدم الإنسان على تناول طعامه ويبدأ بالبسملة، فيقول: أمام كل لقمة: بسم الله الرحمن الرحيم، ولا أقل أمام أول لقمة يريد أكلها في مفتـتح طعامه: بسم الله الرحمن، فهذا يعني أن هذا الأكل كله خالٍ عن شائبة الحرام، وليس في دائرته، وإلا لما صح أن نبدأه بـ(بسم الله الرحمن الرحيم) وكذا حينما يقدم الإنسان على الأكل.

ومثل ذلك عندما يرغب الإنسان الكلام أو يرغب في الكتابة، فإذا افتـتح ذلك بالبسملة كان ذلك كاشفاً عن كون ما يصدر منه عمل مشروع ومرضي لله سبحانه وتعالى.

——————————————————————————–

[o1]غرر الحكم .

[o2]سورة فصلت الآية رقم 30.