20 أبريل,2024

الجفاف الروحي (2)

اطبع المقالة اطبع المقالة

السبب الثالث: الأكل الحرام أو المشتبه بالحرام:

إذ يعدّ أحد أسباب الجفاف والكسل الروحي الأكل الحرام أو الأكل من الأطعمة المشتبهة بالحرام، فقد ورد في الحديث عن النبي(ص) قال: يا علي من أكل الحرام أسود قلبه، وضعفت نفسه، وقلت عبادته، ولم تستجب دعوته.

وورد أيضاً: من ترك أكل الحرام أربعين يوماً، أجرى الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.

السبب الرابع: الإسراف في الأكل والشرب وفي الملذات:

قال تعالى في كتابه الكريم:- ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا)[o1] . وجاء في الحديث الشريف عن النبي(ص): لا تميتوا قلوبكم بكثرة الطعام والشراب، فإن القلوب تموت كالزرع إذا كثر عليه الماء.

وورد عن أمير المؤمنين(ع): إياكم والبطنة فإنها مقساة للقلب، مكسلة عن الصلاة[o2] .

وجاء في بعض وصايا لقمان الحكيم: إذا امتلأت المعدة، نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وتراخت الأعضاء عن العبادة[o3] .

السبب الخامس: الغفلة عن ذكر الله سبحانه:

وهذا يبتلى به كثير من الناس، إذ كثير منهم ينسون ذكر الله تعالى، فينسون أنفسهم، فيكون مصيرهم التيه والضياع، والضلال والانحراف، والبؤس والشقاء، والحرمان من عطاءات الله تعالى وفيوضاته وألطافه.

قال تعالى:- ( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون)[o4] . وقال عز من قائل:- ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى)[o5] .

هذا وليس الذكر مجرد التكرار باللسان، فإن الذاكرين بهذه الكيفية كثر، حيث أن الكثيرين يذكرون الله سبحانه وتعالى بألسنتهم، ولكنهم ينسون الله في حياتهم، بل ربما يذكرون الله بألسنتهم، ولكنهم ينسون الله حينما يحركون الأفكار، مما يجعل أفكارهم تكون بعيدة عن الله سبحانه وتعالى.

ربما يذكرون الله بألسنتهم، ولكنهم ينسون الله حينما يحركون الكلمات، مما يجعلها كلمات بعيدة عن الله سبحانه، وعن دينه.

فمثلاً الممارسون للكذب، نسوا الله سبحانه في كلماتهم، فنجم عنه صدور الكذب منهم، والممارسين للغيبة والبهتان نسوا الله في كلماتهم مما جعلهم يقعون في ممارسة الغيبة، والمتاجرين بالشعارات الكاذبة نسوا الله في كلماتهم.

فجميع هؤلاء وغيرهم، ربما يمارسون ذكر الله بألسنتهم، ولكنهم ينسون الله حينما يحركون عواطفهم، فتأتي هذه العواطف بعيدة عن الله، وعن دينه.

ومن أجلى المصاديق لمن نسوا الله في عواطفهم، الذين يحبون ويبغضون في غير الله، فلا يكون حبهم وبغضهم لشخص ما في الله.

وقد نجد أشخاصاً ربما يكونوا من الذاكرين لله تعالى، ولكنهم حينما يحركون سلوكهم الاجتماعي أو غيره يكون سلوكهم بعيداً عن الله سبحانه وتعالى، وعن دينه.

وهكذا كثيرون ينسون ذكر الله تعالى حتى في الصلاة، والدعاء، وفي تلاوة القرآن، ذلك لأنهم حينما يصلون أو يدعون أو يتلون القرآن، لا يعيشون حالة( حضور القلب) وحالة (التوجه لله).

من هنا تصاب العبادة بالجفاف، وتكون الغفلة ونسيان الله من أخطر أسباب الضمور والكسل الروحي.

علاج الجفاف الروحي :

بعدما تعرفنا الأسباب التي تؤدي إلى وجود مثل هذه الحالة، وتسبب حصولها، صار لزاماً علينا الآن أن نبحث عن العلاج الناجع الذي يمكن الركون إليه في محاولة منا لعلاج مثل هذا الداء، وإزالته، ورغبة منا لرفع هذه الحالة من الضمور والكسل الروحي.

هذا ولمعالجة الجفاف الروحي نحتاج إلى طي ثلاث مراحل:

الأولى: التخلص من أسباب الجفاف الروحي.

الثانية: ممارسة الشحن الروحي.

الثالثة: الحفاظ على الوهج الروحي.

المرحلة الأولى: التخلص من أسباب الجفاف الروحي:

وهو ما يمكننا أن نصطلح عليها بـ(التهيئة الروحية)، وهذه التهيئة يمكن تحصيلها من خلال ثلاث خطوات أساسية:

الخطوة الأولى: عبارة عن تنقية القلب من الشوائب والتلوثات.

الخطوة الثانية: تكمن في تنقية البطن من الحرام، أو الأكل المشتبه بالحرام.

الخطوة الثالثة: وهي تتمحور في تنقية الجوارح من الذنوب والمعاصي.

الخطوة الأولى: تنقية القلب من الشوائب والتلوثات:

تعتبر عملية تنقية القلب شرطاً أساسياً في مقام البناء الروحي، فما لم يكن القلب نقياً طاهراً فإن الإنسان لا يستطيع المثول بين يدي رب العزة، لأن هذا المثول يحتاج إلى استعداد روحي.

ومن المعلوم أن النقاء القلبي يشكل أحد أهم الأسباب الرئيسة للاستعداد الروحي، قال تعالى:- ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)[o6] .

فالقلب السليم المملوء بحب الله تعالى، والخوف منه سبحانه، والخالي من كل الشوائب والتلوثات هو الذي يؤهل المرء لشرف الوقوف بين يدي الله سبحانه، في ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون.

عملية تنقية القلب:

لكن الأمر الذي يخطر في الأذهان بمجرد الاستماع للحاجة إلى القيام بعملية تنقية القلب وتطهيره من الشوائب العالقة به هو: كيف الطريق لتنقية القلب وتخليته من الشوائب العالقة به، وما هو العمل الذي علينا أن نتبعه كي نتمكن من ذلك، ونصل إلى القلب النقي؟…

لكي يتمكن الإنسان من القيام بتنقية القلب من كل الشوائب والتلوثات التي علقت به، فإنه يحتاج إلى مرحلتين:

الأولى: تفريغ القلب من الشوائب والتلوثات:

فإن عملية التنقية والتطهير لا يمكن لها أن تكون مجدية وناجعة وناجحة ما دامت الشوائب والتلوثات جاثمة في داخل القلب، فلابد من القيام بعملية غسل القلب كمرحلة أولى تنطلق إلى المرحلة التي تليها، وهي التي تـتمثل في الشحن الروحي، وإلا لن يكون لعملية التنقية أثراً ولن تحصل الفائدة المرجوة منها، ولنوضح ذلك بمثال عرفي قريب إلى الأذهان: هل يمكن أن نملأ كأساً ملوثاً بماء نقي دون أن يتلوث الماء؟…

من الواضح أنه لكي نحتفظ بنقاء الماء ونظافته، لابد أن نبدأ أولاً بتنقية الكأس من الأوساخ، وإلا كان الجهد ضائعاً، في الحفاظ على نظافة الماء.

إن القلب هكذا تماماً، إنه وعاء للمضامين الروحية، فإذا أردنا لهذه المضامين أن تبقى نقية طاهرة، فيجب أن يكون الوعاء طاهراً ونقياً، والفارق كبير وكبير بين (الغسل المادي) و (الغسل الروحي)، حيث أن عملية الغسل المادي لا تحتاج إلى كثير من الجهد والعناء، بخلاف الغسل الروحي، فإنها عملية تخـتزن الكثير من المعاناة والصعوبات.

وربما نجد في التوجيهات الدينية محاولة إعطاء بعض الممارسات ذات الشكل المادي، مضامين ومعاني روحية، فالوضوء والغسل في شكلهما الظاهر، ممارسات مادية حسية، ولكنهما يحملان مضموناً روحياً كبيراً يتجاوز النظافة الظاهرية إلى نظافة القلب والروح.

ولعلنا نجد نموذجاً عملياً في الحديث الذي دار بين الإمام زين العابدين(ع) وبين الشبلي لما عاد من أداء فريضة الحج، قال له(ع): يا شبلي نزلت الميقات، وتجردت من مخيط الثياب، وتنظفت، واغتسلت؟ قال الشبلي: نعم يا ابن رسول الله….

قال (ع): فحين نزلت الميقات نويت أنك خلعت ثياب المعصية ولبست ثوب الطاعة؟ قال الشبلي: لا يا ابن رسول الله…

قال(ع): فحين تجردت من مخيط الثياب نويت أنك تجردت من الرياء والنفاق والدخول في الشبهات؟ قال الشبلي: لا يا ابن رسول الله…

قال(ع): فحين تنظفت نويت أنك تنظفت بنور التوبة الخالصة لله؟…

قال الشبلي: لا يا ابن رسول الله…

قال(ع): فحين اغتسلت نويت أنك اغتسلت من الخطايا والذنوب؟…

قال الشبلي: لا يا ابن رسول الله….

فقال له الإمام زين العابدين(ع): فما نزلت الميقات، وما تجردت من مخيط الثياب، وما تنظفت، وما اغتسلت….

هكذا أراد الإمام زين العابدين(ع) أن يعطي لهذه الممارسات مضامينها ودلالاتها الروحية الكبيرة.

والحاصل: إن تنقية القلب عملية أساسية في البناء الروحي، كما أنها تمثل صياغة المحتوى الداخلي للإنسان، فلا قيمة لكل التحسينات والتزويقات الخارجية إذا كان المحتوى الداخلي يحتضن القذارة والقبح والتلوث، ولا قيمة لكل الإنتفاخات الظاهرية إذا كان الباطن باهتاً.

ورد عن إمامنا الباقر(ع) قوله: من كان ظاهره أكبر من باطنه خف ميزانه يوم الحساب، ومن كان باطنه أكبر من ظاهره ثقل ميزانه يوم الحساب.

وهذا يعني أنه ليس المدار كون الإنسان كبيراً عند الناس، وإنما المهم ما هو عند الله سبحانه، فلو كان كبيراً عند الناس، لكنه لم يكن كذلك عند الله سبحانه فلا أثر لذلك، ولا قيمة.

فالمهم أن يكون الإنسان كبيراً عند الله سبحانه وتعالى، لأنه لن يجديه جاهه وشهرته وكثرة أمواله ومكانته الكبيرة بين الناس، ما دام حقيراً عند الله.

جاء في بعض الكلمات: إن العبد لينشر له من الثناء ما بين المشرق والمغرب، ولا يساوي عند الله جناح بعوضة.

فإذن أول الطريق لتحصيل عملية البناء الروحي، والصياغة الروحية، هو تطهير القلوب والأرواح، بتنقية الباطن والداخل.

ولا يخفى أن هذه المرحلة الأولى تعدّ صعبة للغاية وتحتاج إلى مجاهدة صعبة، كما تحتاج إلى برنامج مكثف للمحاسبة الذاتية، وتحتاج إلى صبر ومواظبة.

المرحلة الثانية: ملأ القلب بالفضائل وبالشحنات:

وهذا ما يمكننا أن نصطلح عليه بعملية(الشحن الروحي)، والاستمرار على ممارسته. لأنه بعد الفراغ عن المرحلة الأولى وهي التي يصطلح عليها علماء الخلاق والسلوك بعملية التخلية أو التخلي، يأتي دور المرحلة الثانية، وهي عملية التحلية، أو التحلي، لأن كلا العمليتين مكمل للعملية الأخرى، فلا تنفع التخلية إذا لم تـتبعها تحلية، كما أنه لا تنفع التحلية إذا لم يسبقها تخلية.

والحديث عن كيفية التخلية، ومن ثم عن تحقق التحلية، ليس هذا محط الحديث عنه، بل ينبغي أن يفرد له حديث مستقل.

إلا أن الأمر الذي نركز عليه في هذا المضمار، هو التشديد في عملية المحاسبة للنفس، وزيادة الاتعاظ بمواعظ القرآن الكريم، ومواعظ المعصومين(ع)، مضافاً إلى الإكثار من قراءة كتب الخلاق، والإطلاع على سير الأخيار والصالحين.

——————————————————————————–

[o1]سورة الأعراف الآية رقم 31.

[o2]غرر الحكم : 2742.

[o3]مجموعة ورام ج 1 ص 102.

[o4]سورة الحشر الآية رقم 19.

[o5]سورة طه الآية رقم 124.

[o6]سورة الشعراء الآيتان رقم 88-89.