28 مارس,2024

التخصص رؤية قرآنية

اطبع المقالة اطبع المقالة

التخصص رؤية قرآنية

نتداول على ألستنا دائماً كلمة: الرجل المناسب في المكان المناسب، وعادة ما يكون ذكرها في أحد موقفين، إما تأكيداً على حسن الاختيار، عندما يتم اسناد الأمر إلى فرد ما، فيكون التعقيب على الإسناد المذكور بأنه في محله، وإما استنكاراً على الإسناد والاختيار، على أساس عدم أهلية المسند إليه في ما أسند له، وأنه ليس جديراً بالموضع الذي قد جعل فيه.

وعند تحليل كلا الأمرين، نجد أنهما يشيران إلى ما يعرف بالتخصص، بإعطاء كل فرد مجاله الحقيقي الذي ينبغي أن يكون فيه، وهذا يكشف عن وجود ارتكاز عقلائي عند كافة الأفراد بهذا القانون والتعويل عليه، وجعله الميزان الذي يلزم أن تسير الأمور في الحياة على وفقه.

داء اجتماعي:

ومع ما لمسألة انتخاب الرجل المناسب، كيما يكون في مكانه المناسب أهمية عظمى، إلا أننا نجد غلبة عنصر الأهواء والرؤى الشخصية في عمليات التصدي، فقل أن تجد قيام عملية التحديد لأصحاب الأدوار معتمدة على ما يملكه هؤلاء من مواصفات وما لديهم من مقومات ومؤهلات عملية ومعرفية مثلاً أو غير ذلك، بل إن الغالب أن يكون تحديد أدوارهم قائماً على الأهواء والرغبات الشخصية، وهذا ما يوجب كثرة التدخلات من قبل العديد من الأفراد في غير مجالاتهم وتخصصاتهم، وعوضاً أن يكون الحديث صادراً من العالم، نجد أن المتصدي للحديث من لا يملك العلم ويفتقر للمعرفة، ويكون العالم ساكتاً مبتعداً عن الحديث.

ومن أجلى ما يشاهد في هذا المجال، تدخلات العديد من المثقفين في الشأن الديني، من خلال المطالبة بأمور عديدة، كالمطالبة بتجديد الخطاب الديني، أو المطالبة بإعادة النظر في الخطاب نفسه، أو توجيه التهم إلى عالم الدين بوسائل شتى، بل نجد أن هناك تهكماً حتى على الحوزة الدينية، من خلال مجموعة من التهم التي توجه إليها، ككونها لا تواكب الواقع الحياتي، أو أنها تفتقر إلى العملية التنظيمية والتوجيهية، وأنها بعيدة عن مواكبة الواقع المعاش، وقدرتها على تلبيات الاحتياجات الخاصة للحياة البشرية، وهكذا.

ونجد مثل هذه التدخلات في الشأن السياسي أيضاً، ذلك أن المتابع للمجتمع يجد تدخلاً من أفراده في الوضع السياسي العام، سواء ما كان يرتبط به، أو ما كان يرتبط بالواقع الإقليمي، من خلال تقديم قراءات مختلفة من بعض الأفراد، وعرض جملة من التحليلات ونقد بعض الرؤى والتصرفات، وكأن هؤلاء في ما يقدمون يملكون أعلى مستويات الدراية والمعرفة بالشأن السياسي العام، ويبرزون التخطئة للساسة المخضرمين في هذا المجال.

وقد يجد المتابع هذه التدخلات أيضاً في المجالات الأخرى، كالتدخل في مجالات التاريخ، أو في مجالات الأدب، أو المجال الطبي، أو غير ذلك.

وبالجملة، إن القراءة الموضوعية للمجتمع تكشف عن وجود مشكلة اجتماعية وداء اجتماعي منتشر بين الأفراد يتمثل في عدم الاعتناء بالمسألة التخصصية، وفتح المجال أمام كل أحد بحيث يتسنى له التدخل سواء كان ما يتدخل فيه من اختصاصه، ويحيط بجوانبه، أم كان ما يتدخل فيه أجنبي تماماً عن مجاله ولا ربط له به.

ومثل هذه الشمولية المبعثرة التي يعيشها المجتمع توجب هشاشة فيه، وضعفاً في أركانه، وموانع من نجاحه ورقيه وتقدمه.

العلاج القرآني:

ومع وقوف المجتمع على وجود مثل هذا الداء، وملاحظة أثاره السلبية عليه، وأنه يمثل عنصر إعاقة له عن الرقي والتقدم، يتبادر إلى الأذهان سؤال، عن كيفية العلاج المتصور لمثل هذا الأمر، خصوصاً وأنه أصبح وجود مثل هذا الداء يمثل أزمة دعت إلى فرقة، بل إلى عزلة وخصام في بعض الموارد، كالعزلة، بل الفرقة التي وقعت بين المثقف وعالم الدين مثلاً، فضلاَ عن المجالات الأخرى.

وربما يتصور البعض عدم وجود رؤية قرآنية في مثل هكذا مجال، ما يستدعي أن يبحث في المجالات الحديثة، فيلحظ ماذا يقدم علم الاجتماع مثلاً، أو ما يقدم علم النفس الحديث في هكذا موارد.

إلا أن الصحيح، أن الرجوع للآيات القرآنية والتأمل في آياته المباركة، والتدقيق فيها، يشير إلى أن أحد الموضوعات التي أولاها الشارع المقدس في آياته المباركة، كان موضوع التخصص، وأنه قد دعى إلى ذلك بجعل الرجل المناسب في المكان المناسب، ويلحظ هذا كما قلنا من غير واحدة من الآيات المباركة.

منها: قوله تعالى:- (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم)[1]. واستفادة أهمية موضوع التخصص والتأكيد عليه في الأطروحة القرآنية من خلال الآية المباركة يتوقف على الإحاطة بموضوعها الذي تتحدث عنه، وهذا وإن كان يستوجب عرضاً للقصة التي تتحدث عنها، إلا أننا نقصر الأمر على خصوص ما يكون مرتبطاً بمحل البحث، فيقال:

إن الآية الشريفة تتحدث عن قصة أحد الأنبياء الذين كانوا في بني إسرائيل، وقد كان ذلك في عصر نبي الله داود(ع)، وقد اختلف في اسمه، فذكر أن اسمه هو وقيل أن اسمه هو أرميا النبي، وقيل أنه يوشع بن نون، وقيل أنه شمعون، والمشهور أنه اشموئيل وهو معرب صموئيل[2]. وليس تحديد الاسم في المقام مهماً، لعدم مدخليته في المعنى المراد تحصيله من الآية الشريفة.

ويستفاد من الآية الشريفة أن هناك تفكيكاً بين منصبين في ذلك العصر، يمكننا أن نعبر عنهما بالسلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، بمعنى أن تكون هناك جهة تتصدى للبعد الديني والتشريعي، ويلقى على عاتقها عملية تربية الأمة وقيادتها من الناحية الدينية وفي كافة المجالات دون استثناء، كما أن هناك سلطة أخرى تتولى عملية الحكومة والتنفيذ لمقررات السلطة التشريعية، كما تقوم بالقيادة العسكرية في المواجهات الحربية.
وقد تمثل البعد الديني في ذلك النبي الذي كان في ذلك العصر، وأما البعد العسكري، أو القيادي التنفيذي، فهو الذي عرض الآية المباركة من خلاله الحرص على قانون التخصص، بجعل الرجل المناسب في المكان المناسب، وقد كان ذلك من خلال اختيار شخصية طالوت التي تحدثت الآية الشريفة عنها.
ومن الطبيعي أن لا يلقى انتخاب طالوت ملكاً على الاسرائيليـين مقبولية عندهم، وحتى يبرروا الاعتراض الصادر منهم، أدعوا فقدانه أهلية القيادة، بسبب فقره وعدم وجود القوة الاقتصادية لديه، فهو لا يملك المال، ومن المعلوم ما للمال من مدخلية في مثل هكذا مجالات.

وهنا يقدّم القرآن الكريم أطروحته التي تركز على أن لكل مجال من المجالات ذويه وأصحابه المختصين به الذي يقومون به دون غيرهم، وليس لأحد مزاحمتهم في ذلك.

فعرض القرآن المقومات التي أهلت طالوت لمثل هذا المنصب، وجعلته جديراً به، ويملك القدرة على القيام به بالصورة المطلوبة.
والحاصل، إن المستفاد من الآية المباركة، أنه يلزم أن لا يفسح المجال لكل أحد في أن يمضي حيثما شاء، وإنما يلزم أن يكون لكل مجال من المجالات أهله وأصحابه الذين يملكون المعرفة والدراية به، ويحيطون بشؤونه.
كواشف الاختصاص:
واستكمالاً للرؤية القرآنية في أطروحة التخصص، يمكننا أن نستلهم من النموذج القرآني الذي عرضناه الكواشف التي يلزم ملاحظتها كمقومات أساسية في العملية التخصصية، والتي يتم على وفقها معرفة ذوي الاختصاصات.
وتختلف الكواشف حسب الموضوع الذي يراد إبراز المختص فيه، فليست كواشف المختص في العلوم الدينية، هي عينها الكواشف التي يقاس عليها المختص في علم الطب، كما أن الكواشف للمختص الأدبي، تختلف عن كواشف المختص في مجال التاريخ، وهكذا.
نعم قد تكون هناك عناوين أولية كبروية عامة، يمكن انطباقها على الجميع، مع مغايرة في مصاديقها الإنطباقية خارجاً.
وكيف ما كان، فقد عرضت الآية الشريفة، ثلاثة أنواع من الكواشف، يمكن جعلها عناوين كلية كبروية، مع ملاحظة الاختلاف في المصاديق، وكيفية الانطباق. وتلك الكواشف:
المقومات الخارجية:
ويراد بها الأدوات التي يحتاج المختص في أي مجال من المجالات إليها كيما يتسنى له إدارة عمله الذي يود الدخول، فرجل الدين، سوف يحتاج إلى مجموعة من القيم والأخلاقيات وحسن التعامل مع الآخر، حتى يتمكن من التأثير وجذب الناس إليه، فيلزم أن تبرز لديه عدة صفات أخلاقية من الابتسامة، والحلم، والتواضع، وما شابه.
وقد يحتاج بعض الأفراد إلى الموارد المالية، لأنها تكون أحد السبل التي يمكنه من خلالها الوصول إلى الله سبحانه وتعالى، ويتسنى له أن يبلغ أعلى مدارج الكمال.
ومع ما لهذه المقومات من أهمية تعين في المجال، لجعل الرجل المناسب في مكانه المناسب، إلا أنها نعم زائلة غير دائمة، لا تبقى بعد زوال الإنسان، بل ربما زالت عنه وهو في عالم الدنيا.
وربما يكون هذا عاملاً مشيراً إلى أنها عوامل تكميلية مساعدة، وليست عوامل أساسية جذرية في الأمر، فيمكن للإنسان أن يكون ناجحاً في مجاله، وإن لم تكن الأمور المذكورة لديه، نعم هي تساعد على ذلك، وتعين بصورة عظمى.
المقومات المعرفية:
ويقصد بها ما لديه من رصيد معرفي وعلمي، مما يكون مرتبطاً بخصوص المجال الذي يتعلق به، فعالم الدين يبرز دوره في مجال اختصاصه بما يكون له من حصيلة علمية معرفية، تميزه على الآخرين، بحيث تعطيه تميزاً توجب اختصاصه بمجاله، دون البقية، وكذا بقية المجالات.
ولا يبعد عدّ هذا الكاشف هو الأصل والأساس في كواشف المختص والاختصاص، ذلك أنه الميزان الذي يسوغ للفرد الدخول في شيء ما، أو يحول بينه وبين الدخول فيه، إذ أن مقدار ما يملك من محصل معرفي يفسح له المجال للورود في الأمر.

وهذا هو الذي أشرنا إليه في مطلع البحث، إذ نجد التدخل في المجالات والتخصصات المختلفة من كل أحد دون أن يكون المتدخلون فيها من أهل الاختصاص والفن فيها.
والحاصل، إن هذا الكاشف هو العمدة والميزان في التصدي والدخول في أي مجال من المجالات، وبمقدار ما يملك الإنسان فيه من محصلة، يمكنه أن يرد، أو أن يمتنع.ومن الواضح، أن المقصود من وجود الإحاطة والدراية، امتلاك الفرد للأدوات الدخيلة في هذا المجال، فكما نعلم أن هناك أدوات خاصة لعلم الفقه، لا يمكن لأي أحد الإحاطة بها، فليست هناك القدرة لأي فرد على التصدي لاستنباط الحكم الشرعي من مداركه المقررة، وليس مجرد اقتناء مصدر من المصادر الروائية مثلاً يعطي للمكلف القدرة على القيام بذلك، لأن عملية الاستنباط لا تنحصر في خصوص عملية وجود الكتاب، بل إن الأمر أبعد من ذلك، لأن هناك أدوات عملية أخرى لابد من توفرها حتى يمكنه ذلك.
ومثل ذلك يجري في مجال التاريخ، لأن المختصين يعلمون أن هناك عملاً كبيراً يحتاج المؤرخ أن يقوم به حتى يقبل بقضية من القضايا المنقولة، ليسجل حدثاً تاريخياً، أو يرفض ذلك.

ولو سألنا الأدباء وأهل الأدب، لوجدنا أيضاً أن لهم أدواتهم الخاصة التي تعطيهم المجال للنقد والتقيـيم، وهكذا ما يعني أنه ليس لكل أحد الولوج في هذا المجال ما لم يكن مختصاً.
المقومات البدنية:وهذا الكاشف يختلف حسب المورد الذي يلزم وجود المختص فيه، ففي مثل قصة طالوت كان وجوده أمراً مطلوباً لأن المورد يستدعي ذلك، لكنه لا يكون مطلوباً في موراد أخرى، فالمثقف الذي يريد أن يرقى بمجتمعه في تعاملاته، ويجعله يعيش حالة من المدنية والحضارة، لن يكون بحاجة إلى القوة الجسمانية، لأنه لن يدخل حرباً، نعم يحتاج إلى قوة، لكنها قوة عقلية وقدرة على المحاورة، حتى يتمكن من الإقناع والتأثير.
والحاصل، إن هذا الكاشف يختص بمورده، وهو الذي قد تمت الإشارة والتنويه إليه في مطلع الحديث.

——————————————————————————–

[1] سورة البقرة الآية رقم 143.

[2] مواهب الرحمن ج 4 ص 135-136.