20 أبريل,2024

أصحاب رسول الله (4)

اطبع المقالة اطبع المقالة

عدالة الصحابة:

ثم إن الآية محل البحث ربما تمسك بها بعضهم فجعلها دليلاً على المقالة المتداولة بين جمع من أن جميع أصحاب رسول الله(ص)، عدول ثقات، مما يعطيهم بُعدَ امتياز دون بقية البشر، ذلك لكونهم شخصيات معصومة، طاهرة نقية، مؤمنة، صالحة، لا يتصور فيها الزلل ولا الخطأ، وأن كل ما يصدر منهم صحيح، بل قد ابتعد الأمر أكثر حتى قيل، بسنّة الصحابي في مقام استنباط الأحكام، فكما أن سنّة المعصوم(ع) تعدّ مرجعاً يرجع إليها في استنباط الحكم الشرعي، فكذا سنّة الصحابي تعدُّ مرجعاً أيضاً يرجع لها في استنباط الحكم الشرعي.

وفي مقابل هذا المبدأ التـزم أبناء المذهب الجعفري، بأن الصحابة ليسوا شخصيات مميزة على بقية أفراد البشرية، بل هم كغيرهم لا فرق بينهم وبين عامة الناس، فلا تعطيهم الصحبة نقطة امتياز على غيرهم، بمعنى أن صحبتهم لرسول الله(ص) لن تعطيهم صفة إضافية غير ما لهم، ولن توجب لهم ما لا يستحقون، بل سوف يكونون على ما هم عليه من الصفة والمنـزلة.

كما أنهم يصنفونهم إلى صنفين:

الأول: من بقى على الإسلام، من خلال التمسك بالتعاليم التي جاء بها المصطفى محمد(ص)، وبلغها عن الله سبحانه وتعالى للأمة.

الثاني: من أرتد على عقبـيه، وحرّف وبدل، وغير وصحف، وخالف الأوامر الصادرة من النبي(ص)، وبدل شريعته السمحاء، فكانت منه اجتهادات متعددة، ومخالفات غير قليلة.

بل تمادى بعضهم، فأظهر العداوة لأهل البيت(ع) الذين أمر الله سبحانه وتعالى بمحبتهم، وأشار إلى طهارتهم من كل رجس ودنس.

ومن الواضح أن أصحاب القسم الثاني، لا ريب في لزوم معادتهم، وإظهار البراءة منهم، ولا مجال لإبراز بُعدَ الولاء لهم ومحبتهم أصلاً، كل ذلك لأنهم مخالفون للشريعة السمحاء في تعاليمها كما لا يخفى.

وكيف ما كان، فلا بأس بالإشارة إلى هذا المعنى، والتعرض لمدى صحة هذه المقالة، وهي التعويل على عدالة كافة الصحابة من دون فرق بين أحد منهم، وأنهم عدول جميعاً بقول مطلق.

الصحابة في القرآن الكريم:

هذا وقبل التعرض لذلك أشير إلى أن القرآن الكريم قد تعرض للحديث عن الصحابة الذين كانوا مع رسول الله(ص) من خلال بيانه لمجموعة من الأمور التي صدرت عنهم، وترتب على ذلك جملة من الأحكام.

وقد صنف القرآن الكريم الصحابة من حيث ما يملكونه من الوصف إلى صنفين:

الأول: الصالحون، المتبعون لرسول الله(ص)، وأشار إليهم من خلال تعداده لمجموعة من صفاتهم، فذكر أنهم السابقون الأولون، وأنهم المبايعون تحت الشجرة، وأنهم المهاجرون، وأصحاب الفتح.

الثاني: غير المؤمنين برسول الله(ص) إيماناً صحيحاً، إما لكونهم منافقين، وهم على قسمين، منهم من كان متظاهراً بالنفاق بشكل علني وواضح، ومنهم من كان متخفياً تحت ستار آخر.

أو لكونهم مرضى القلوب، أو خلطوا عملاً صالحاً بآخر سيء، وهكذا.

ومن الواضح أن هذا الحديث القرآني يمنع من القبول بقول مطلق بالنظرية السابق، والالتـزام بصحتها.

كما أن كتب الحديث قد تضمنت الإشارة إلى عدم صحة هذه المقالة، فقد ورد في البخاري عن أبي وائل قال: قال عبد الله: قال النبي(ص): أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن معي رجال منكم، ثم ليختلجن دوني، فأقول: يا رب أصحابي؟! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك[1].

فإن المستفاد منه أن هناك عملاً قد صدر من بعض الصحابة بعد رسول الله(ص) لا ينسجم مع الدعوة الإسلامية وتعاليمها التي جاء بها.

ولو قيل بأن هذا الحديث لا يشمل من كان معاصراً لرسول الله(ص) لأنه ربما توسع في مفهوم الصحابي، أو لو كان معاصراً لرسول الله(ص)، إلا أنه لم يكن معه في المدينة، بل ربما كان في البدو وما شابه.

دفعنا ذلك بحديث آخر في البخاري نفسه، إذ روى عن سهل بن سعد، أنه قال: قال النبي(ص): إني فرطكم على الحوض، من مر عليّ شرب، ومن شرب منه لم يظمأ أبداً، ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم.

وزاد أبو سعيد الخدري: فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي[2].

ودلالته على ما تقدمت الإشارة إليه أوضح من سابقه، إذ لا يرد عليه الاحتمال السابق، لأنه (ص) يخبر أنه يعرفهم، ومن الواضح أن هذا يتجلى في الموجودين معه في المدينة.

وعلى أي حال، فقد استدل القائل بعدالة جميع الصحابة بمجموعة من الآيات الشريفة، نقتصر على ذكر بعضها.

السابقون الأولون:

منها: قوله تعالى:- (السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لعم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم)[3].

لكن من الواضح أن الآية الشريفة لا تصلح دليلاً للمدعيـين ذلك، وذلك لعدة أمور:

أولها: إن الآية الشريفة لا تخص خصوص الصحابة، بل إنها تشمل التابعين، حيث تضمنت:- (والذين اتبعوهم بإحسان) ولا ريب في أن المقصود منهم التابعون، ومقتضى ذلك عدم تخصيص العدالة بقول مطلق بخصوص الصحابة، بل هو شامل للتابعين أيضاً، بل حتى الذين يكونون موجودين اليوم، لأن من المفروض أنه يصدق عليهم(والذين اتبعوهم بإحسان)، ومن الواضح أن هذا لا يمكن أن يلتـزم به أحد، حتى القائلين بالدعوى المذكورة.

ثانيها: إن مقتضى ما سبق وذكرناه من أن القرآن الكريم زاده الله عزة وشرفاً، قد تحدث عن الصحابة مصنفاً إياهم إلى صنفين بحسب ما كانوا عليه من المواصفات، يمنع من القبول بهذه المقالة، وكون الآية الشريفة دالة على ذلك.

ثالثها: لا ريب في أن التاريخ قد نقل لنا جملة من القضايا التي تتضمن ارتداد الصحابة وانقلابهم على أعقابهم، ولو بعد رحلة رسول الله(ص) عن عالم الدنيا، ومن المعلوم أن هذا يفيد أن هناك انحرافاً منهم، يمنع من الحكم بكونه على طريق العدالة والصلاح، وهذا يمنع من البناء على كبرى كلية مفادها عدالة جميع الصحابة، لأن انحراف جملة منهم ولو بعد وفاة رسول الله(ص) مانع من ثبوتها، وداعٍ لكونها بمثابة القضية الجزئية، فلا تستقيم دعوى المدعي.

رابعها: لقد قرر القرآن الكريم أن الميزان الذي يتم على أساسه إبراز عنصر الافتخار والتفاضل، هو مادة التقوى، والإيمان بالله سبحانه وتعالى والعمل والصالح، ومن الواضح أن كل من لم يكن محصلاً لهذه الصفات، لن يكون داخلاً في دائرة المؤمنين، فضلاً عن أن يكون شخصية مقبولة ومرضياً عنها بقول مطلق.

ولو رجعنا التاريخ، وقرأنا الآيات القرآنية الشريفة لوجدناها ملئ بالحديث عن المنافقين الذين كانوا يعيشون في عصر رسول الله(ص)، وكانوا مندسين في وسط المسلمين، بل كانوا ينسبون أنفسهم للإسلام.

خامسها: وهو قضية عقلية، وحاصلها: أن التاريخ قد نقل لنا جملة من وقوع الاختلاف

فيما بين الصحابة أنفسهم، بل قد وصلت إلى القتال بينهم، فقتل بعضهم بعضاً، فهذه قضية مناداة عائشة بلزوم قتل عثمان، وتكرارها الدعوة لقتل نعثل لأنه كفر، وهذه حرب الجمل قد دارت بين أمير المؤمنين(ع)، وبين مناوئيه طلحة والزبير، وقتل يومها الزبير، وهذه حرب صفين قد تضمنت قتل الفئة الباغية لعمار بن ياسر، فكيف يمكننا بعد هذا كله أن نحكم بعدالة جميع الصحابة، وأنهم كلهم على خير وإلى خير!!!.

بل قد نقل لنا التاريخ وقوع بعض الصحابة في الفاحشة، كما اتهم بذلك المغيرة، وكيف أن الخليفة الثاني عمد إلى درأ الحد عنه.

وهذا أبو ذر(رض) يقف حجر عثرة في طريق الاستبداد الأموي، ويرفض المنهج الإقطاعي الذي اتبعه الرجل الثالث، وما كان يحبو به أسرته، كيف أنه أرجع طريد رسول الله(ص).

أوبعد هذا كله، لا زال هناك من يرضى بمقالة العدالة المطلقة لكافة الصحابة!!!.

سادسها: لقد حدثنا التاريخ عن أن بعض الصحابة قد ارتكب مجموعة من المخالفات التي تـتنافى والأطروحة الدينية، ولا تنسجم مع الشرع الشريف، فهذا صلح الحديبية قد حمل لنا كيف أن الصحابة قد اعترضوا على رسول الله(ص) ولم يقبلوا بالصلح الذي صدر منه، بحيث امتنع بعضهم عن الإحلال من الإحرام، وظهر منهم العصيان، بل دعى ذلك رسول الله(ص) إلى المطالبة بتجديد البيعة.

وهذا جيش أسامة، وما صدر من بعض الصحابة من التخلف عنه، بل ما صدر من بعضهم من التخلف عن تنفيذ أمر رسول الله(ص) حتى دعى ذلك رسول الله(ص) إلى أن يقول: لعن الله من تخلف عن جيش أسامة.

ومع ذلك لم يستجيبوا لأمر رسول الله(ص)، بل عادوا وخالفوا أوامره من جديد، وامتنع منهم من امتنع.

سابعها: المتتبع للآيات القرآنية الشريفة، يلحظ أن هناك مجموعة من القيود هي المناط في مدح المهاجرين والأنصار، وهذا في القرآن الكريم كثير، لكننا نذكر بخصوص الآية محط البحث، حيث أنها قد تضمنت الحديث عن مجموعة من الصفات التي ينبغي أن يتصف بها أصحاب رسول الله(ص)، وقد عرفت من خلال ما قدمنا يتضح أن هذه الصفات مما لا ريب فيه لا تجتمع في كافة الصحابة، وبالتالي لا يمكن القبول بالكبرى المذكورة في المقام كما لا يخفى.

——————————————————————————–

[1] صحيح البخاري الباب الأول من كتاب الفتن، ح 157.

[2] المصدر السابق ح 167.

[3] سورة التوبة الآية رقم 100.