19 مارس,2024

آيات الصوم (2): دراسة تفسيرية فقهية

اطبع المقالة اطبع المقالة

الذين من قبلكم:

يستفاد من الآية الشريفة أن الصيام المكتوب على هذه الأمة ليس من التشريع الجديد، وإنما هو تشريع ثابت، فقد كتبه الله سبحانه وتعالى على الذين من قبلنا، وقبل العمد إلى بيان المقصود من الذين من قبلنا، ينبغي الإشارة إلى أن الموجب للحديث عن ثبوت هذا التكليف على السابقين، غايته رفع جنبة الاستيحاش المتصورة من مشقة التكليف المجعول، لأن الصوم تكليف شاق، ومن الطبيعي أن النفس البشرية قد تعيش حالة من الرفض وعدم القبول، فمن أجل أن لا تصاب بذلك، عمد الباري سبحانه إلى بيان أن هذا التكليف المجعول، لم ينحصر جعله فيكم أنتم فقط، وإنما كان مجعولاً قبل ذلك على من كانوا قبلكم. ومن المعلوم أنه متى شعر المكلف بالتكليف الشاق، أن هناك من شاطره مشقة التكليف وصعوبته أوجب ذلك تطيـيباً لخاطره، وجبراً لنفسه، فيحصل له رغبة في الفعل. نعم لم تتعرض الآية لبيان من هم الذين من قبلنا، وهذا أوجب خلافاً بين المفسرين في تحديده، فذكرت أقوال فيه:

الأول: أن المقصود بالذين من قبلنا، هم الأنبياء والأمم السابقة من لدن آدم(ع) إلى يومنا هذا. وهذا يفيد أن هناك اشتراكاً في التكاليف بيننا وبين الأمم السابقة علينا، وبالتالي يمكن القول أن للعبادات حقائق شرعية، وليست من الألفاظ المنقولة، فلاحظ.

الثاني: أن يكون المقصود منهم أهل الكتاب اليهود والنصارى، وقد يضاف إليهم المجوس بناءً على أنهم أهل كتاب، وكذا الصابئة بناءً على أنهم كذلك.

الثالث: أن يختص الأمر بخصوص النصارى، فلا يشمل غيرهم، وهذا يعني أن الصوم لم يكن مكتوباً على اليهود مثلاً.

الرابع: أن يكون المقصود بالذين من قبلنا، هم خصوص الأنبياء فقط دون الأمم.

ولا يخفى أنه لو كنا وظاهر الآية لن نستطيع تحديد أي من الأقوال الأربعة هو المتعين، وذلك لأنه لا يستفاد منها أكثر من ثبوت التكليف محل البحث أعني الصوم في الأمم السابقة دونما تحديد لهوية تلك الأمم، فهل هم جميعاً، أم خصوص فئة معينة منهم. نعم نص غير واحد من المفسرين على أن الصيام من العبادات المعروفة عند جميع البشر حتى غير المتدينين بدين، فقدماء المصريـين كانوا يصومون، كما كان معروفاً أيضاً عند الهنود واليونانيـين والوثنيـين، وكذا كان معروفاً بين أهل الكتاب اليهود والنصارى، نعم هل كان ذلك عندهم بنحو الفريضة منه سبحانه وتعالى، بحيث يكون من أحكام شريعتي الكليم موسى، والمسيح(ع)، أم أنه كان من التطوع، دون الإلزام.

هذا ويمكن تشخيص المقصود بالذين من قبلنا من خلال الرجوع للنصوص الشريفة، فقد ورد عن المفضل بن عمر، قال: قلت لأبي عبد الله(ع): كم للمسلمين من عيد؟ فقال: أربعة أعياد. قال: قلت: قد عرفت العيدين والجمعة. فقال لي: أعظمها وأشرفها يوم الثامن عشر من ذي الحجة، وهو اليوم الذي أقام فيه رسول الله(ص) أمير المؤمنين(ع)، ونصبه للناس علماً. قلت: ما يجب علينا في ذلك اليوم؟ قال: يجب عليكم صيامه شكراً لله وحمداً له مع أنه أهل أن يشكر كل ساعة. وكذلك أمرت الأنبياء أوصياءها أن يصوموا اليوم الذي يقام فيه الوصي يتخذونه عيداً. ومن صامه كان أفضل من عمل ستين سنة[1].

ودلالته على ثبوت الصوم في الأمم السابقة واضحة، عمدة ما كان خص ذلك بالأنبياء، ومن ثمّ الأوصياء، لكن ليس فيه ما يشير إلى ثبوت ذلك في شأن الأمم، فلاحظ.

ومنها: ما رواه كثير النوا عن أبي عبد الله(ع) قال: إن نوحاً(ع) ركب السفينة أول يوم من رجب فأمر(ع) من معه أن يصوموا ذلك اليوم، وقال: من صام ذلك اليوم تباعدت عنه النار مسيرة سنة، ومن صام سبعة أيام أغلقت عنه أبواب النيران السبعة، ومن صام ثمانية أيام فتحت له أبواب الجنان الثمانية، ومن صام خمسة عشر يوماً أعطي مسألته، ومن زاد زاده الله عز وجل[2].

ودلالته على ثبوت التكليف بالصوم في الأمم السابقة، وأنه غير مختص بالأنبياء واضحة لا تنكر.

ومنها: ما رواه محمد بن مسلم عن أبي عبد الله(ع) قال: كان رسول الله(ص) أول ما بعث يصوم حتى يقال: ما يفطر، ويفطر حتى يقال: ما يصوم، ثم ترك ذلك وصام يوماً وأفطر يوماً، وهو صوم داود(ع)، ثم ترك ذلك وصام الثلاثة الأيام الغر[3].

وهذا وإن دل على ثبوت الصوم في السابقين، إلا أنه يحصر ذلك في الأنبياء من خلال حديثه عن أن صيامه(ص) مثل صيام داود، فإنه يستكشف منه أن الصوم كان لداود، ولا يحرز أنه كان في أمته، فتدبر.

ومنها: ما رواه الإمام الحسن الزكي(ع) أنه قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول الله(ص)، فسأله أعلمهم عن مسائل فكان فيما سأله أنه قال له: لأي شيء فرض الله عز وجل الصوم على أمتك بالنهار ثلاثين يوماً، وفرض الله على الأمم أكثر من ذلك؟ فقال النبي(ص): إن آدم(ع) لما أكل من الشجرة بقي في بطنه ثلاثين يوماً ففرض الله على ذريته ثلاثين يوماً الجوع والعطش، والذي يأكلونه بالليل تفضل من الله عز وجل عليهم، وكذلك كان على آدم(ع) ففرض الله ذلك على أمتي، ثم تلا هذه الآية:- (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم)[4].

والإنصاف تمامية دلالته على المدعى، فإنه تضمن أن هناك فرضاً للصيام على الأمم السابقة، ولا يختص ذلك بخصوص أنبيائهم، نعم جاء فيه أن هناك فرقاً من حيث الكمية المفروضة على هذه الأمة، وعلى الأمم السابقة، مما يعني أن المماثلة بين تكليف هذه الأمة، وبين تكليف الأمم السابقة ليس في كمية الصيام، وإنما في شيء آخر كما سيتضح عند الحديث عن ذلك، فأنتظر.

ويعارض هذا النص موثق حفص بن غياث، قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: إن شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الأمم قبلنا، فقلت له: فقول الله عز وجل:- (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) قال: إنما فرض الله صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم، ففضل به هذه الأمة، وجعل صيامه فرضاً على رسول الله(ص) وعلى أمته[5]. فإنه يدل على عدم ثبوت التكليف بالصوم على الأمم السابقة، وإنما اختص الصوم فيها بخصوص الأنبياء، كما يتضح ذلك من جوابه(ع) على سؤال السائل. بل مقتضى ما جاء في ذيل الموثق أن الصوم الصادر من الأنبياء في الأمم السابقة ما كان فرضاً، بل ظاهره التطوع، وإنما انحصر الفرض في خصوص النبي الأكرم محمد(ص)، وأمته.

والحاصل، مقتضى التأمل في النصوص هو البناء على القدر المتيقن، وهو يقضي بأن المقصود بالذين من قبلنا، هم خصوص الأنبياء، نعم يمكن البناء على ثبوت ذلك في أممهم، والمسألة تحتاج تأملاً وبحثاً وتدقيقاً أكثر، ليس هذا مجاله، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق الأمور.

هذا وتوجد نصوص أخرى تضمنت أن صيام شهر رمضان من مختصات هذه الأمة، بمعنى أنه سبحانه وتعالى قد خص هذه الأمة بصوم هذا الشهر، فقد روى الشيخ الكليني مرسلاً عن أبي جعفر(ع) قال: قال رسول الله(ص) لما حضر شهر رمضان، وذلك في ثلاث بقين من شعبان، قال لبلال: ناد في الناس، فجمع الناس ثم صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن هذا الشهر قد خصكم الله به وحضركم، وهو سيد الشهور[6]. وهي بهذا المقدار لا تخالف النصوص السابقة الدالة على ثبوت التكليف بالصوم في الأمم السابقة، عمدة ما كان تضمنت أن صيام شهر رمضان مختص بهذه الأمة، وهذا يعني أن المماثلة بيننا وبين الأمم السابقة، ليست في الزمان أيضاً، فليست المماثلة في المقدار، وليست المماثلة في الزمان، فلاحظ.

ومثل ذلك ما جاء في الصحيفة السجادية، فقد ورد في دعائه(ع) في وداع شهر رمضان، أنه قال: وآثرتنا به على سائر الأمم، واصطفيتنا بفضله دون أهل الملل[7].

——————————————————————————–

[1] الخصال ج 1 ح 145 ص 264.

[2] من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 55.

[3] الكافي ج 4 ص 90.

[4] من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 43.

[5] من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 61.

[6] الكافي ج 4 ص 67.

[7] الصحيفة السجادية من دعائه(ع) في وداع شهر رمضان.