الرؤية المعصومية للوحدة:
إن مقتضى كون النظرية الاسلامية تمثل منظومة واحدة يستدعي أن لا تكون رؤية أهل البيت(ع) حول الوحدة الإسلامية مختلفة عما تضمنته الرؤية القرآنية حولها، نعم ما لا ينكر أن الواجبات الإسلامية ليست كلها على مستوى واحد من الأهمية، بل لبعضها من الاهتمام ما ليس للبقية، وهذا يدل على وجود أولويات بين المفردات والواجبات الإسلامية يعنى بها أهل البيت(ع)، ويمكن حصرها في التالي:
1-العقيدة الإسلامية. 2-الدولة الإسلامية. 3-الوحدة الإسلامية.
العقيدة الإسلامية:
وليس المقصود منها المفردات العقدية، أو القضايا ذات الطابع الفقهي، بل نقصد منها قضية الأساس العقائدي للإسلام والمتمثل بالإيمان بالله تعالى والرسالة واليوم الآخر. ومن الواضح أنه متى تعرضت قضية الإيمان بالله إلى الخطر، تصبح هذه القضية هي الأولى والمقدمة على جميع القضايا والتي يصح التنازل من أجلها عن جميعا لحقوق والتخليع ن جميع الواجبات ما عداها.
وقد كانت هذه الأولوية تحكم فعاليات الأئمة(ع) في جميع عصورهم، ويمكننا عرض نماذج من سيرتهم(ع):
امتناع أمير المؤمنين(ع) عن المطالبة بالخلافة:
من الواضحات وفقاً لحديث الغدير المروي في المصادر الإسلامية، أن رسول الله(ص) قد نصب أمير المؤمنين(ع) خليفة من بعده، إلا أن بعض المسلمين ارتدوا عن بيعته، وبايعوا غيره، وقد كان عدم مطالبته(ع) بحقه في الخلافة المجعولة له من قبل الله سبحانه وتعالى محط استغراب وتعجب الكثير، ما أوجب أن تذكر مجموعة من التفسيرات لموقفه(ع) المتخذ تجاه الأحداث والانقلاب الذي وقع من الأمة:
منها: احساس الإمام(ع) بعدم قدرته على مواجهة التخطيط والإعداد الجيد المسبق لتنصيب الرجل الأول، فقد استفاد القوم من انشغاله(ع) بتجهيز رسول الله(ص)، والمحافظة على الأمانات الموجودة في عنقه، وأحكموا عملهم، ما يجعل إقدامه على المخالفة عملاً انتحارياً.
ومنها: قناعة الإمام(ع) بعدم جدوى المقاومة، بل بسلبيتها على الكيان الإسلامي الجديد، ما يمنعه من قيامه بمسؤولياته الكبرى وواجباته الخطيرة أما أعداء الرسالة، أو في نشرها وإبلاغها للبشرية.
ومنها: الاحساس بالخطر الذي يتهدد الرسالة الإسلامية، فقد أدرك(ع) أن الحركة السياسية المضادة قد تؤدي إلى تعرض الرسالة الاسلامية إلى الخطر، خصوصاً إذا لاحظنا الأجواء السياسية والأمنية التي كانت تحيط هذا الكيان السياسي الجديدة مضافاً إلى الحركات الداخلية المضادة كحركة مسيلمة الكذاب، وحركات الردة، نعم لا يعني ذلك تأيـيده(ع) للسلطة القائمة، وإنما أبرز جانب المعارضة، باتخاذه موقفاً سياسياً صريحاً وواضحاً، تمثل في امتناعه عن البيعة، وعدم تحقيقها. وهذا المحتمل يستفاد من بعض النصوص، ففي نهج البلاغة أنه(ع) قال: فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون محق دين محمد(ص)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل[1].
ولا يخفى أن الأمر يدور بين التفسيرين الثاني والثالث، مع أنه يمكن جعلهما تفسيراً واحداً، فتأمل جيداً.
وكيف ما كان، فإن للتفسير الثاني مجموعة من الشواهد، كوجود مجموعة من الفرص السياسية والمعنوية والمادية للإمام(ع) ما يجعله قادراً على القيام بحركة ناجحة لزعزعة الكيان واضعافه، والاحتفاظ بنفوذ قوي في مجمل الأوضاع السياسية، نعم سوف يكون هذا على حساب قوة الكيان السياسي الاسلامي العام.
وما يثير الانتباه أنه ومع وجود مقومات النجاح للقيام بالحركة العسكرية المضادة ضد النظام في ذلك الوقت متمثلة في:
1-ما كان يمتلكه أمير المؤمنين(ع) من مواهب قتالية فريدة.
2-تأريخ أمير المؤمنين(ع) الجهادي، وبطولاته.
3-الصفات النفسانية التي يمتاز بها على القوم، من فضل وعلم، وقرب من رسول الله(ص) مضافاً للنصوص الكثيرة الصادرة في حقه(ع) عنه(ص).
4-توفر مجموعة من الصحابة ذات مكانة متميزة في الوسطة الإسلامي، كعمار وحذيفة بن اليمان، وسلمان، والمقداد، مضافاً إلى العباس بن عبد المطلب، والزبير، وموقف شيخ الخزرج سعد بن عبادة.
5-الموقف البطولي الصادر من مولاة الزهراء(ع) واعتراضها العلني في خطبتها الفدكية المشهورة.
6-العرض الذي قدمه أبو سفيان واستعداده أن ينضم للإمام(ع) في المعركة، بعيداً عما كان يحويه من نوايا خاصة.
إلا أننا نجد الإمام(ع) يتخذ موقفاً آخر مغايراً لمما كان متوقعاً ومتصوراً منه، وما هذا إلا لأنه كان يرى أن هناك شيئاً أكثر أهمية من المطالبة بحقه، استدعى أن يلتـزم التفسير الثالث.
نهضة الإمام الحسين(ع):
وتبرز أهمية العقيدة الإسلامية في سيرتهم(ع) أيضاً في نهضة الإمام الحسين(ع) ضد يزيد بن معاوية، عندما تولى أمور المسلمين، فإن هذا التولي سوف ينذر بقضايا خطيرة جداً على الإسلام وأهله، من الارتداد عن الإسلام بالشكل الذي يهدد العقيدة والرسالة الإسلامية، لذلك لم يكن بد من أن ينهض أبو عبد الله الحسين(ع) حفاظاً على العقيدة الإسلامية ومراعاة لمصالحها.
جهاد الإمام الصادق(ع) العلمي:
ولقد قام أبو عبد الله الصادق(ع ) بدور لا يقل عن دور سابقيه من الأئمة الأطهار(ع) في الحفاظ على العقيدة الإسلامية، وجعلها في أول الأولويات، عندما واجه حركات الارتداد والزندقة التي أخذت تنمو بسبب انشغال المسلمين بشكل عام بالنشاطات السياسية الحادة، والقومية خلال الفترة الانتقالية ما بينا لعهد الأموي والعهد العباسي.
الدولة الاسلامية:
والمفردة الثانية في سلم الأولويات عند أهل البيت(ع) هي قضية الكيان السياسي الاسلامي، المتمثل في الدولة الإسلامية، وقد حض أهل البيت(ع) على الحفاظ عليه، وعلى قوته ومنعته مع ما كان لهم عليه من مؤاخذات كثيرة على مجمل الأوضاع التي كانت تعيشها الكيانات في مختلف العهود، إلا أنهم كانوا ينظرون إلى هذه المؤاخذات في اطار ضرورة المحافظة على الكيان الاسلامي في مقابل الأعداء الخارجيـين والتهديدات التي كانت تواجهه.
وهذا يعني أن لأهل البيت(ع) دوراً مزدوجاً فهم من جهة يسعون للحفاظ على هذا الكيان، إلا أنهم في نفس الوقت لا يريدون إعطاء السلطة الحاكمة شرعية، وقد استدعى ذلك الحفاظ على موازنة دقيقة وحساسة، تمثل في ناحيتين:
الأولى: ضرورة المحافظة على الكيان الاسلامي، ليبقى قادراً على أداء وظائفه الاساسية في حفظ الأمن والاستقرار والدفاع عن الوجود الإسلامي أمام التهديد الخارجي. وقد برز ذلك في مجموعة من الأعمال:
1-امتناعهم(ع) عن القيام بأية عملية مسلحة ضد الكيان الإسلامي، وعدم تشجيعهم أو تأيـيدهم لأي شيء منها إلا في حالات خاصة جداً[2].
2-نصح شيعتهم بعدم الانضمام للحركات العسكرية ومحاولات الانقلاب التي كانت تقوم ضد كيان الدولة الإسلامية، وعرض جملة من آثارها الوخيمة، بوقوع البلاد في حالة من الفوضى والاضطراب، وضعف أمام الأعداء.
3-حث شيعتهم على المرابطة في الثغور الإسلامية لحمايتها والدفاع عنها أمام الأعداء الغزاة، حتى أن الإمام زين العابدين(ع) دعى لأهل الثغور[3].
4-دعوتهم الشيعة لأن يتعاملون مع المراسم العامة الاسلامية الصحيحة لهذا الكيان الإسلامي على أنها مراسم مشروعة، كقضية دفع الزكاة، والاشتراك في مراسم صلاة العيد، والجمعة، والجماعة، وغيرها.
الثانية: سلب الشرعية من السلطة الحاكمة في نفسها لا بلحاظ الكيان الإسلامي، لوجود الانحراف في الحكم وكونه لا يتطابق وتصوراتهم، لا في أصل حق الولاية والحاكمية، ولا في تفاصيل الممارسات الظالمة والجائرة، التي كان يقوم بها الحكم في كثير من الأدوار تجاه الأمة، واستهتاره بمصالحها لحساب المصالح الشخصية. فاستعملوا مبدأ النقد والإدانة أحيانا تجاه الحكم، ولم يكن ذلك بمستوى واحد، بل كان يتفاوت بحسب وتيرة الانحراف والطغيان الذي كان يمارسه الحكام. وقد برز هذا الرفض والسلب للشرعية في أبعاد:
1-التأكيد على أحقيتهم بالولاية والخلافة[4]، لأنهم كانوا يتعايشون مع السلطة الحاكمة، فلو لم يؤكد على ذلك أوجب ذلك إما اشتباه الأمر على الناس، أو ضياع الحقيقة.
2- منعهم شيعتهم من المشاركة في الحروب التوسعية التي كان يمارسها الحكام في ذلك الوقت.
3-منعهم شيعتهم من التعاون مع الحكم ولو بخيط ابرة في بعض الأدوار لحرمة المعونة، وخوفاً عليهم من الانزلاق في منحدرات الظلم والطغيان والشهوات، خصوصاً وأن الإغراءات كانت متوفرة فيها.
4-منعهم شيعتهم من الترافع والتحاكم إلى حكام الجور وقضاة السلطة، وكانوا يشبهون ذلك بالمحاكمة إلى الطاغوت.
الوحدة الاسلامية:
وهي المفردة الثالثة في نظرهم(ع) من حيث الأولويات، ولقد أولاها(ع) أهمية خاصة، وقدموها على الكثير من الحقوق والواجبات الخاصة بهم.
منهجهم أهل البيت في الوحدة:
ويستفاد من دراسة سيرة المعصومين(ع)، والتأمل في النصوص الصادرة عنهم، أن منهجهم الوحدوي يتمثل في عناصر أربعة:
الأول: تطبيق الرؤية القرآنية للوحدة:
وهو يعتمد على الإحاطة بالأطروحة القرآنية فيها، فإنه مع الالتفات لمنهج القرآن في ذلك، يمكن للإنسان معرفة منهجهم(ع) في إرساء هذه القواعد والأسس القرآنية، سواء في المنهج الوقائي، أم المنهج العلاجي، فلاحظ. نعم قد تضمنت هذه الرؤية المعصومية في المقام شيئاً إضافياً في بيان المفاهيم الكلية التي وردت في القرآن الكريم، فلزوم طاعة القيادة الإسلامية، التي عرضها القرآن الكريم، تضمنتها النصوص الشريفة، وأكدت على رفضها لكل ما هو دخيل على الإسلام، من العمل بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة، كما تضمنت رفض الاجتهاد مقابل النص، وأكدت على أن مبدأ دور طاعة الرسول(ص)، كحاكم وولي لأمور المسلمين، وأن امتداد هذه الطاعة يكون في منصب الإمامة والولاية والذي يقوم على مبدأ النص، والعصمة. وهكذا.
الثاني: تبنى قضايا الأمة الكبرى:
بدلاً من تبني القضايا الجزئية أو الفئوية أو المذهبية وتحويلها إلى قضايا أساسية في الاهتمام والصراع، ولعل هذا أحد أهم الخطوط الرئيسية التي تميز بها مذهب أهل البيت(ع) في معالجة القضايا التي كانت تثير الخلاف والجدال والاهتمامات في الأمو الإسلامية، فقد كانت الأمة تتعرض إلى مختلف المستجدات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومن الطبيعي أن تثير هذه المستجدات الكثير من الاهتمام والخلافات وتواجه العديد من الاجتهادات.
ولم تكن هذه المستجدات على مستوى واحد من حيث القيمة ودرجة اهتمام الناس بها، وعلاقتها بمصالح الأمة بشكل عام. فيجد قارئ التاريخ أنه كان يهتم ببعض القضايا الجزئية ويتم التركيز عليها حتى تنال درجة كبيرة من الاهتمام في بعض الأوساط، وتصبح كأنها القضية الأساسية والأولى في الأمة، مع أنه ليس لها علاقة بمصالحها وقضاياها، وتصبح بعض القضايا الأساسية في الظل بسبب الصراعات والمعارك الجانبية ذات الأهداف المحددة، أو الغايات السياسية المخططة.
وهنا يبرز دور أهل البيت(ع) فإنهم كانوا يركزون على القضايا الأساسية ذات المصالح الكبرى للأمة، فإن النهضة المباركة التي قام بها المولى أبو عبد الله الحسين(ع) كانت حرصاً على العقيدة الإسلامية وحفاظاً على المعالم الأساسية للشريعة الإسلامية، كما أشرنا لذلك سابقاً، لأن الأمويـين أرادوا تحويل الحكومة الإسلامية إلى حكومة كسروية، يكون الحكم فيها للطاغوت والهوى والرأي. ولم يكن الأمر خافياً على جميع المسلمين، فضلاً عن كبار الصحابة في ذلك الوقت كعبد الله بن عباس، وابن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر، إلا أنه لم يتحمل أحد منهم المسؤولية، ولم يتحملها إلا الإمام الحسين(ع).
وقد وجد الإمام زين العابدين(ع) المجتمع المسلم بعد واقعة الطف يعيش حالة من الانحلال الأخلاقي والقيمي، ويعاني فراغاً روحياً وزيادة ارتباط بالدنيا، وتكالب عليها، فكان الإصلاح الأخلاقي يمثل القضية الكبرى للأمة، فأبدع(ع) أساليب تربوية مميزة من خلال منهج الدعاء، والمناجاة ودروس مكارم الأخلاق، والسلوك العرفاني العالي.
وقد عمد الإمام الباقر(ع) إلى احياء السنة الشريفة، ومدارسة الحديث والتشجيع على تدوينه ونشره، كما أنه قام بتحرير المجتمع المسلم في اقتصاده باقتراحه سك النقود الإسلامية، في القصة المعروفة.
وقد واجه الإمام الصادق(ع) الثقافة الغربية التي أخذت في غزو المجتمع الإسلامي بعد انتشار عملية الترجمة للكتب الهندية واليونانية والرومانية، وقد أبهرت تلك الفلسفات التي تضمنتها تلك المصادر عقول المسلمين، فتصدى(ع) لهذا التيار الإلحادي خصوصاً المجالات العلمية، فعرف عنه(ع) أنه ملهم الكيمياء، وقد تخرج عليه ثلة رائدة في المعارف الإسلامية.
ولما فتحت الحياة السياسية ذات اللون التعددي على مصراعيها في عصر الإمام الكاظم(ع)، واتسم ذلك العصر بشيء من الحرية الفكرية والسياسية، كانت هذه تمثل قضيته الكبرى التي عنى بها. ولا ينحصر الأمر في خصوص من ذكرنا من الأئمة الأطهار(ع)، بل إن الأمر حاصل في البقية أيضاً، كما يلحظ ذلك القارئ لسيرة أي واحد منهم(ع).
الثالث: التعايش الاجتماعي بين جماعات المسلمين:
وقد دعى له الأئمة الأطهار(ع) بشكل خاص، وأكدوا على لزوم إلغاء الفوارق القومية والقبلية والاجتماعية بين فئات المجتمع، كما يظهر ذلك من النصوص الصادرة عنهم(ع)، وقد مارسوا ذلك بأنفسهم عملياً تأسياً برسول الإنسانية(ص)، ولا يبعد أن هذا كان له أبعد الأثر في حفظ وحدة المسلمين، وعدم تحول الحكم الاسلامي إلى حكم قومي. فمن النصوص التي تضمنت دعوتهم إلى التعايش بين أبناء لمذاهب الإسلامية، ما أوصى به الإمام الصادق(ع) زيد الشحام المعروف بأبي أسامة، فقد روى شيخنا الكليني(ره) بسند صحيح عن أبي عبد الله(ع) أنه قال: اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله عز وجل والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث وأداء الأمانة وطول السجود وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد(ص) وأدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها براً أو فاجراً، فإن رسول الله(ص) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط.
صلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفري، فيسرني ذلك، ويدخل علي منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل علي بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جعفر، والله لحدثني أبي(ع) أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي فيكون زينها أداهم للأمانة وأقضاهم للحقوق وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول: من مثل فلان إنه أدانا للأمانة وأصدقنا للحديث[5].
ودلالة هذا النص على المدعى واضحة جداً في أنه(ع) بصدد الحديث عن علاقة التعايش التي يلزم أن تكون بين أبناء المذاهب الإسلامية والتي يجمعها مقومات الوحدة التي تقدم ذكرها، ولا ينحصر الأمر في خصوص هذه النصوص، بل هناك النصوص المتضمنة لبيان حقوق المسلم على المسلم، ولا يتوهم أحد اختصاصها بالشيعة، لأن هناك نصوصاً أخرى تضمنت التعبير بالمؤمنين، والفرق بينهما واضح. ومن الجميل جداً أن يرجع القارئ العزيز لما ذكره شيخنا المظفر(ره) في عقائده حول هذا الجانب، فإنه مفيد للغاية[6].
الرابع: التقية:
ولست بصدد الحديث عن هذا الموضوع ذي الأبعاد المتشعبة، فإن ذلك يخرجنا عن المقصود، وإنما نركز على مدى علاقته بموضوع الوحدة، ويتجلى ذلك بالتوجه إلى الخيارات التي كانت موجودة أمام الأئمة(ع) في علاقة شيعتهم في المجتمع الإسلامي مع الناس[7]، وهي خيارات:
الأول: دعوة شيعتهم إلى الانعزال عن المجتمع الاسلامي والانكفاء على النفس من خلال اللجوء للجبال أو الغابات فلا يتواجدون في أماكن وجود الناس.
ويكفي لرفض هذا الخيار وجود الحاجة منهم إلى الناس وعدم قدرتهم على الاستغناء عنهم، مضافاً لما لهم من دور في التأثير في عملية تبليغ الرسالة، وتعريف الأمة طريق الحق.
الثاني: الدخول في مواجهة علنية ومستمرة مع الناس في جميع تفاصيل الحياة، أو لا أقل في خصوص القضايا الأساسية كقضية الولاية والحكم والشعائر العبادية، وبعض تفاصيل العقيدة المهمة.
ولهذا الخيار أثران سلبيان، أحدهما استئصال الوجود الشيعي، والثاني انحراف البقية الباقية بسبب حالة القمع والإرهاب الممارسة عليهم. ومن الطبيعي سوف يسبب هذا سلب المقبولية عن هذا الخيار.
الثالث: الالتـزام بقانون التقية، لكن ليس من منطلق الجبن أو الخوف، كما قد يتوهم البعض، فإن الشيعة هم أهل التضحية والفداء، وكما كان كذلك أئمتهم(ع)، وإنما من مبدأ التعايش الاجتماعي الذي أكدته النصوص المباركة عنهم(ع) حفظاً للكيان الإسلامي وحماية للإسلام وتقوية له أمام الصراعات الأخرى المعادية، والحضارة الغربية.
خاتمة:
ولنختم الحديث بالإشارة إلى أن رؤية أهل البيت(ع) لموضوع الوحدة، لا تعني إلغاء الاختلاف أو الفوارق، بل قد أكدنا سابقاً على أن الوحدة في الرؤية الإسلامية لا تعني ذلك، ويشهد لهذا ما نجده في أطروحتهم(ع) في الوحدة من وجود هامش للاختلافات والتعدد بين المسلمين، يستوعب الاختلاف في الفهم والاجتهاد والمواقف، مع قطع النظر عن مدى صحة هذه الاجتهادات والمواقف، وانسجامها مع الحق والصواب. وقد تمثل ذلك في مجالات متعددة:
منها: الحرية الفكرية والعقدية.
ومنها: فتح باب الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية والفقهية.
ومنها: القبول بالتعددية السياسية.
ولا يذهب عليك أن هذا كله قد وضع على وفق ضوابط محددة وموزونة لا تنافي ما جعل لحفظ الوحدة والتماسك الاجتماعي[8].
[1] نهج البلاغة الكتاب رقم 62.
[2] كنهضة الإمام الحسين(ع)، وبعض الحركات الثورية التصحيحية التي كانت تحصل عندما يبلغ الظلم درجة عالية من القسوة والاستهتار بالحقوق الانسانية.
[3] لابد من التفريق بين الدفاع الذي نتحدث عنه بالمرابطة في الثغور للدفاع عن الدولة الإسلامية بصد أي هجوم عليها من الأعداء وبين الحروب التوسعية التي يقوم بها الخلفاء، وحديثنا عن الأول، دون الثاني، فلاحظ.
[4] لا ينقض بأن هذا لا يتناسب والدعوة للوحدة، فإنه يندفع بأن الغاية من هذا التأكيد هو حفظ الحقائق للمسلمين وتعريفهم بالحقيقة، خصوصاً وأن هناك استغلالاً سيئاً كان من العباسيـين عندما رفع شعار الرضا من آل محمد(ص).
[5] وسائل الشيعة ب 1 من أبواب العشرة ح 2.
[6] عقائد الإمامية الباب الثامن والثلاثون عقيدتنا في حق المسلم على المسلم.
[7] هذا التعبير يرد على ألسنتهم(ع) غالباً إشارة إلى أبناء المذاهب الأخرى.
[8] اعتمدنا كثيراً على كتاب الوحدة الاسلامية من منظور الثقلين. دعوة إلى الاصلاح الديني والثقافي ص 449. رسائل ومقالات الشيخ السبحاني ج 1 المقالة الثانية ص 421، المقالة الثالثة ص 432، عقائد الإمامية الباب السابع والثلاثون عقيدتنا في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية.