قال تعالى:- (وسخر لكم ما في السماوات والأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)[1].
تمهيد:
لقد تعرض الدين الإسلامي ومنذ أن بعث الله سبحانه وتعالى أنبيائه إلى المجابهة والمعارضة من قبل المجتمعات البشرية، ويتضح ذلك من خلال متابعة المواجهات التي كانت تجري بين الأمم والأنبياء(ع)، وما كانوا يلاقونه من عناء في ذلك.
وأكثر من عانى هو نبينا المصطفى محمد(ص) حيث كانت المواجهة من قومه له شديدة، وقد كان الداعي لقومه للوقوف أمامه وأمام دعوته ودينه السماوي الذي جاء به، هو تعارض ذلك مع مصالحهم الخاصة، ولذا كانوا يطلبون أن يكون الدين المعروض عليهم وفق مشتهياتهم ورغباتهم، ولذا كانت منهم المواجهة للدين.
ولم تقتصر المواجهات للدين الإسلامي في السابق، بل حتى اليوم والمواجهات له لا زالت مستمرة، ولذا نجد بين فينة وأخرى تخرج علينا جملة من تلك الادعاءات أو الإساءات للدين، ومحاولة توجيه التشويه والسهام وغير ذلك.
نعم يمكن القول بأن أسلوب المواجهة بين الأمس واليوم قد اختلف، إذ بينما كانت المواجهات في السابق لرسالة السماء تتمثل في الوقوف أمامها والسعي للحد من انتشارها ووأدها قبل ولادتها، أو خنقها في أول أيام الولادة، نجد اليوم أن أسلوب المواجهة قد اتخذ أسلوباً آخر، إما من خلال طرح عدم فاعلية الدين، ومواكبته للحياة العصرية للعنصر البشري، بحيث أن معطياته وتقنيناته لا تتماشى والحاجة البشرية اليوم، أو أنه لا يلبي كل ما يحتاجه البشر، أو أنه بعيد عن واقعهم، وهكذا، تختلف الصور وإن كانت في المؤدى كلها تصب في مصب واحد، وهو الوقوف ضد الدين والعمد إلى مواجهته.
وواحدة من تلك المواجهات التي عمد إلى مواجهة الدين من خلالها والأساليب التي استخدمت ضد الدين الإسلامي، ما نادى به بعضهم وهو الدعوة للحداثة، والتعامل مع هذا المنهج، لما ينطوي عليه من أمور تنفع الإنسان في كافة مجالاته.
هذا ونحن بحاجة إلى وقفة مع هذا المصطلح والتعرف عليه، لأن القبول بأي أمر من الأمور أو رفضه رهين التعرف على حقيقته، فما لم يكن الإنسان محيطاً بحقيقة ذلك الأمر، فلا ريب لن يتسنى له الإيمان به أو رفضه، وإن رفضه أو قبله والحال هذه لم يكن ذلك أمراً موضوعياً.
وعلى أي حال، فلابد إذن من التعرف على حقيقة هذا المفهوم قبل الحكم عليه.
تعريف الحداثة:
المذكور في كلمات من كتب حول الحداثة أن لها معنيـين:
الأول: أن يكون معنى الحداثة عبارة عن الحديث والجديد. فكل ما يكون جديداً، وكل ما يكون حديثاً ينطبق عليه الحداثة.
وبناءً على هذا التعريف يمكن القول بأن الحداثة تشمل الأمور التالية:
1-حرية التفكير.
2-تحكيم العقل بالإنسان وكل ما يعرض له.
3-الدعوة إلى العلم ومناهجه.
ولا يخفى أن الحداثة بهذا المعنى تتفق والأطروحة الإسلامية، ذلك لأنها تمثل بعض مناهج الإسلام، وذلك:
1-إن الإسلام قد نادى بحرية التفكير، وعلى وفق هديه سار علماء الإسلام ومفكروه، فلاحظ القرآن الكريم تجده قد تضمن الدعوة إلى ذلك صريحة في غير واحدة من آياته، وواحدة منها الآية الشريفة التي جعلناها مستهل حديثنا وبحثنا.
ثم إنه يترتب على ما ذكرنا حرية الاجتهاد والبحث العلمي.
بل نجد أن الإسلام قد جعل الخطأ مغتفراً في مجال البحث عن الحقيقة متى خلصت النية، ولم يتعمد التضليل، يقول سبحانه وتعالى على لسان المخطئين:- (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)، وجاء في الحديث عنه(ص) قوله: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان.
2-ومما نادى به الإسلام أيضاً تحكيم العقل في كل ما يتصل بالإنسان وكل ما يعرض له، وهذا المعنى كثير في آيات القرآن الكريم ربما تجاوزت السبعمائة آية، وكلها تحث المسلم على التأمل في الطبيعة واستعمال العقل لفهمها واستعمال المهارة لتسخيرها.
بل تضمنت آياته المباركة آيات تنـتهي بما يتصل بألفاظ العقل خمساً وأربعين آية، هذا غير الآيات التي تخص التفكير وتنـتهي بما يتصل بألفاظ التفكير.
نعم هذا لا يعني إطلاق سراح العقل في جميع المجالات بحيث يستغنى به عن الشرع، بل للعقل مجالات خاصة لا يصلح له الكشف إلا فيها. ولذا قال علمائنا، بأن معنى أن العقل حجة، أي أنه كاشف عن الحكم، وليس مشرعاً.
3-كما أن الإسلام حث على إتباع منهج العلم بأوسع معانيه، حتى جعل إتباع الظن طريقة غير صحيحة، قال تعالى:- (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً)، وكذا قوله تعالى:- (إن الظن لا يغني من الحق شيئاً)
وما يؤكد ذلك أنه جعل أحد الأهداف التي بعث من أجلها النبي الأكرم محمد(ص) هي التعليم، قال تعالى:- (هو الذي بعث في الأميـين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)، وغير ذلك من الآيات الشريفة التي تصب في هذا المنحى.
كما أننا نجد أنه(ص) مارس هذا الدور وهو رفع الأمية وبث التعليم في الوسط الإسلامي يوم أسر بعض أسرى معركة بدر، إذ جعل فداء بعضهم تعليمهم صبية المسلمين القراءة والكتابة.
ولا ينحصر هذا الأمر في النبي(ص) بل إن هذا المعنى هو أطروحة سماوية جاء بها الأنبياء والمرسلون جميعاً.
والحاصل، إذا كان مراد المنادين بالحداثة هذا المعنى، فعليهم بالإسلام، والتقدم نحوه، وجعله إماماً لهم، لأنه حديث دائماً وعصري كذلك، وتعاليمه وقوانينه صالحة لكل زمان ومكان، من دون فرق.
الحداثة والعلمانية:
الثاني: أن يكون المقصود من الحداثة ومعناها هو التالي: أنها منهج فكري ومذهب اجتماعي في الحياة ضد الله سبحانه والدين الذي أرسله الله للبشر.
وبعبارة أخرى: إن الحداثة تعني تحرراً فكرياً من سيطرة الله في الأرض.
هذا ولو تأملنا هذا التعريف لوجدنا أنه يتقوم بكونه يقف أمام السماء والقضية الإلهية، ذلك لأنه يعمد إلى إبعاد الناس عن الباري سبحانه وتعالى، والوقوف أمام الدين الذي جاء به الأنبياء والمرسلون.
ومع التأمل في التعريف المذكور نجد التقاءً واضحاً بين مصطلح الحداثة ومصطلح العلمانية، لأن العلمانية تعني نبذ الدين والأخذ بما يقوله العقل بعيداً عن السماء، وهذا هو نفس المعنى الذي تبناه أصحاب التعريف الثاني للحداثة كما بينا.
وقفة:
هذا وربما قيل إن النـتيجة التي ذكرتموها من وحدة المصطلحين لا يمكن القبول بها ولا التسليم، ذلك لأن المتحدث من رجال الدين ليس من أهل الفن والاختصاص، وبالتالي لا يمكن الركون للنـتائج التي يصل إليها، وعليه ما لم يكن في البين ما يصلح دليلاً وشاهداً على وحدة المصطلحين، فلن يقبل بما ذكر.
والجواب عما ذكر-بعيداً عن عدم صحة النسبة لرجال الدين من عدم القدرة على الخوض في مثل هذه الأمور-من خلال أمرين:
الأول: إن الرجوع للمصادر التي تحدثت عن كلا المصلحين تعطي هذه النتيجة التي ذكرناها، حيث أن المراجع لتلك المصادر يلحظ وبوضوح حالة الخلط الموجودة في تلك المراجع التي تعرضت للبحث عن الحداثة والعلمانية وبعض صفاتهما، ومرتكزاتهما، وآثارهما، إذ جعلتهما لفظين مترادفين لمعنى واحد.
الثاني: التعرف على كيفية نشوء الحداثة المنادى بها بالتعريف المذكور في المعنى الثاني لها. فإننا عندما نعود للتعرف على سبب ظهور الحداثة يتضح لنا ذلك من خلال دراسة المنهج المتبع للكنيسة في الغرب ورجالها، ذلك أنها كانت مسيطرة على المجتمع، ومحتكرة للعلم والمعرفة مضطهدة للعلماء من غيرهم.
وقد جعلوا أنفسهم وسطاء بين الله والناس، فأخذوا يحكمون على الناس بالحرمان من الجنة أو بقبول التوبة، ومنح صكوك الغفران.
وفي الأثناء ظهرت حركات دينية إصلاحية ثارت على الكنيسة ومنهجها، ثم اتسعت لتثور على الدين المسيحي نفسه وعلى الباري سبحانه.
إذن من خلال هذا العرض الموجز يتضح لنا أن هناك خلفية دعت إلى ظهور هذا المبدأ والمنهج مؤداه أن هناك رفضاً لمنهج ما، أو طريقة معينة، نجمت من خلال خطأ في تطبيق رؤية خاصة، وتلك الرؤية هي الدين المسيحي، المطبق خطأ والمستغل من قبل رجالات الكنيسة.
عناصر الحداثة:
هذا ووفقاً لما قدمناه في بيان التعريف الثاني للحداثة، يمكننا القول أن عناصرها هي التالي:
1-حرية التفكير والتعبير والشك فيما هو قائم، وإعادة التساؤل فيما هو مسلم به، ونزع المقدس من أي فكرة تعتقدها البشرية.
2-تحكيم العقل فيما يتصل بالإنسان وما يعرض له، فيقبل ما يقبله العقل، ويرفض ما يرفضه، فالعقل هو الميزان الأساس الذي يعول عليه ويعتمد، ومن الواضح أن الالتـزام بهذا مدعاة لتأليه العقل.
3-الأخذ بالعلم ومناهجه بعيداً عن تعاليم الدين وأحكامه التي لا تخضع للعلم والتجربة، وكان هذا نتيجة تحرر العقل الأوربي من قيود الكنيسة والتقدم العلمي والتكنولوجي.
4-الإيمان بفكرة التقدم، بمعنى أن الإنسانية تسير دائماً إلى الإمام وأن كل عصر أفضل للناس من العصر الذي سبقه، فالحاضر أفضل من الماضي، والمستقبل أفضل من الحاضر.
5-تمجيد الفردية كمفهوم مقدس، بمعنى أن للفرد السعي نحو تحقيق مصالحه بغض النظر عن الوسائل المستخدمة لتحقيق هذه المصالح.
ومتى تعارضت مصلحة الفرد والمجتمع، قدمت مصلحة الفرد على غيرها من المصالح.
ومن الواضح أن هذا سيترتب عليه أمر، وهو ما حصل بالفعل حيث برز الفكر الرأسمالي، وأدى ذلك إلى بروز الفكر الشيوعي.
مناقشة عناصر الحداثة:
هذا ولا يخفى أن الحداثة بالتعريف الثاني لن تكون مقبولة أصلاً، ذلك لما يترتب على مقوماتها التي ذكرناها من آثار سلبية، أشير إلى بعض منها:
مثلاً إن حرية التفكير والتعبير والشك فيما هو قائم، لابد أن يكون في حدود معينة، ضرورة أن الخروج عن تلك الحدود مدعاة ربما إلى المروق من الدين والكفر، وقد أشير إلى ذلك في نصوص أهل البيت(ع)، ولأضرب لذلك مثالاً التفكير في الخالق قد ورد النهي(ع) عنه، لما يترتب عليه من آثار سلبية، نعم التفكير في قدرته وعظمته، سبيل يقود إلى التوحيد والشكر من خلال العبادة.
مع أن المنادين بالحداثة بمعناها الثاني، لا يرون بأساً في أن يعمد الفرد إلى التفكير في ذاته المقدسة، انطلاقاً من أن هذا مقتضى حرية التفكير.
كما أنهم يخولون لأنفسهم التشكيك في كل مقدس، فيحق للإنسان أن يشك في وجود ولي الأمر الإمام صاحب العصر(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، وفقاً لمبدأ الشك في كل شيء والتساؤل عن كل ما هو ثابت، وهكذا.
كما أن رفض كل مقدس بقول مطلق يترتب عليه جملة من الآثار السلبية، إذ أنه يفتح باباً واسعاً من خلال الجرأة على المقدسات الدينية، كالجرأة على مقام المرجعية، أو الجرأة على القيادات الدينية، أو الجرأة على طلبة العلوم الدينية.
فمقام المرجعية في الحقيقة هو امتداد لمنصب الإمامة، ذلك لأن طريقنا إلى المعصوم(ع) يتمثل في مقام المرجعية، فلابد من الاحترام والتقديس لهذا المقام، وعدم الجرأة عليه، ومجرد ضيق الأفق البشري عن الوصول إلى حقائق الأمور أو عدم قدرته على استيعابها لا يخول للفرد الجرأة عليها.
وكذا الكلام حول طلبة العلوم الدينية، لأنهم يمثلون التمثيل الحقيقي للمرجعية، نعم لا ينكر وجود بعض أخطاء جزئية، ربما لا تكون من طلبة العلوم الدينية، وإنما من المندسين بينهم، وهم من القلة بمكان، لا يكاد يلتفت إلى وجودهم.
وأشكل من ذلك العنصر الثاني، وهو تحكيم العقل، إذ عرفت أن مقتضى ما ذكر سوف يستلزم تأليه العقل، وهو مما لا يمكن القبول به، إذ أن العقل البشري قاصر عن إدراك جملة من الحقائق، ويصعب عليه إدراك الكثير من علل التشريعات، فمجرد عدم قدرة العقل البشري على إدراك تلك الحقائق لا توجب رفض التشريع، فمثلاً عدم قدرتنا على معرفة السبب الموجب لجعل نصيب الأنثى في الميراث نصف الذكر لا يعني ذلك ظلماً من الشارع للمرأة، إذ لا ريب أن هناك موجبات دعت إلى ذلك، وهكذا كافة التشريعات.
وهكذا نجد العديد من المناقشات التي يمكن إيرادها على هكذا أطروحات من الحداثيـين.
الآثار السلبية للحداثة:
هذا ولم تنحصر الملاحظة على أطروحة الحداثة من خلال الإسلاميـين فقط، بل إن الداعين للحداثة أيضاً وجدوا جملة من الآثار السلبية المترتبة على أطروحة الحداثة بالمعنى الثاني، ولذلك رفضوها، فمن جملة الآثار السلبية التي يمكن التعبير عنها بالجانب المظلم للحداثة، هو حصول الكوارث للبشرية، من انتشار المجاعات والأمراض، ونشوب الحروب، والغلو في المادية، وتفكيك الأسرة، وأنواع الظلم والاستعباد.
ولم تكن هذه الآثار السلبية المترتبة على الحداثة خافية على المنادين بها، لكنهم لم يكونوا يتصورا وصول الأمر إلى هذه الناحية، إذ كانوا يعتقدون أن هذه الآثار إنما هي مجرد مرحلة انتقالية، ومن الطبيعي أن أية مرحلة انتقالية تصاحبها جملة من المشكلات، لكنه سرعان ما يتم التغلب عليها، وتزول، إلا أن هذه الأوهام التي كان يأملون تحققها وحصولها، لم تتحقق.
ولهذا فقد نودي بإعادة النظر في الحداثة، وذلك لأن الغاية التي أرادتها من تهميش الدين والأخذ بالحديث، أدت بالنـتيجة إلى الالتـزام بالدين، ونبذ الحديث بعدما ظهرت مساوئه للعيان.
——————————————————————————–
[1] سورة الجاثية الآية رقم 13.