28 مارس,2024

كثير الشك

اطبع المقالة اطبع المقالة

من القواعد الفقهية الامتنانية التي جعلها الشارع المقدس تخفيفاً على المكلفين، ومراعاة للظروف الطارئة عليهم أثناء امتثالهم للتكاليف الموجهة إليه، قاعدة عدم الاعتناء بالشك لمن أتصف بكثرة الشك، فإنه قد يخرج بعض المكلفين عن الحالة المألوفة في الإصابة بالشكوك، ما يوجب له حرجاً في إفراغ ذمته مما اشتغلت به، لأنه كلما وقع في حالة الشك، ربما أحتاج إلى إعادة الصلاة، لكون الشك موجباً لبطلانها، أو ربما كان الشك مستوجباً الاتيان بصلاة الاحتياط، أو غير ذلك مما يكون في كلفة ومشقة عليه، فجاءت هذه القاعدة الامتنانية لتكون بمثابة التخفيف في هذا الجانب.

والظاهر أنها من القواعد الموافقة للمرتكز العقلائي، ذلك أن العقلاء لا يعتنون بالشكوك الواقعة في الأعمال حال أدائها إذا كان الشخص الشاك خارجاً عن المألوف والمتعارف.

معنى القاعدة:

ويمكننا توضيح القاعدة، وشرح المقصود منها بهذا البيان:

لا ريب في ترتيب الشارع المقدس آثاراً على وقوع الشك في الصلاة من قبيل لزوم الإعادة، أو لزوم التدارك، أو البناء على عدم المشكوك، وهكذا. إلا أن الشارع المقدس قد استثنى من هذه الضابطة المقررة ما إذا كان المكلف متصفاً بصفة خاصة، وهي كثرة الشك، فإذا أصبح ممن كثر عليه الشك في الصلاة، فإنه لا يعتني بما يصيبه من الشكوك، ولا يرتب عليها شيئاً من الآثار المقررة في العمل، حتى وإن كان بعدُ لا زال في محل الشك لم يتجاوز عنه، فلو احتمل حصول الزيادة منه الموجبة لبطلان الصلاة مثلاً، إما لكونه قد زاد ركناً، أو لكونه قد زاد جزءاً زيادة عمدية، كسجدة مثلاً، أو ما شابه، ما يكون مانعاً عن صحة الصلاة، أو أنه احتمل حصول النقيصة منه في أداء الصلاة تامة الأجزاء، جراء عدم إتيانه ببعض الأجزاء، لسجوده سجدة واحدة مثلاً، أو لتعمده ترك القراءة، أو عدم إتيانه بالذكر الواجب في الركوع متعمداً، فإن المفروض وفقاً للقانون الشرعي أن يبنى على بطلان هذه الصلاة في كل مورد لم يمكنه تدارك الخلل الواقع فيها سواء بالزيادة، أم بالنقيصة، إلا أنه لما كان متصفاً بصفة كثرة الشك، كانت وظيفته عدم الاعتناء بهذا الاحتمال، فيبني على تمامية العمل الصادر منه، ولا يرتب أي أثر من الآثار.

وبالجملة، إن المقصود من قاعدة عدم اعتناء كثير الشك بشكه، يعني أنه لا يرتب شيئاً من الآثار على الشك الحاصل إليه شرعاً،، بل يبني على ما يقتضي صحة العمل الصادر دون كلفة أو مشقة.

ونعني بعدم وجود كلفة أو مشقة في البناء على الصحة، ونفي ترتيب آثار الشك على ما وقع فيه كثير الشك، هو الحكم بصحة الصلاة وإن كان الشك الذي وقع فيه يوجب البناء على بطلانها، فلو شك في صلاة الصبح بين الأولى والثانية، فإن هذا من الشكوك المبطلة، إلا أن الحكم ببطلان الصلاة، ولزوم إعادتها يعدّ كلفة زائدة على كثير الشك، فإنه يحكم بصحة صلاته، وعدم وجوب الإعادة عليه.

وكذا لو كان شكه في صلاة المغرب بين الثانية والثالثة، فإنه يبني على صحة الصلاة، ومقتضى ذلك الحكم بكونه قد حقق الثانية، إلا أن البناء على ذلك يستوجب إتيانه بالركعة الثالثة، وفي هذا كلفة ومشقة بالنسبة إليه، فيلزم حكمه بأنه قد حققها أيضاً، لتكون النتيجة هي البناء على صحة الصلاة، وهكذا.

ومثل ذلك لو كان الشك الحاصل يستوجب الاتيان بصلاة الاحتياط بعد البناء على الأكثر، وفي ذلك كلفة زائدة عليه، فإن وظيفته عندها هو البناء على الأقل، وتصحيح الصلاة الصادرة دون حاجة إلى اتيانه بصلاة الاحتياط.

وكذا لو كان شكه في وجود جزء وعدمه، فإن نفي الكلفة يقضي بالحكم بكونه موجوداً، أو كان شكه في وجود شرط وعدمه، فإن الأمر يقضي بكونه موجوداً. نعم لو كان شكه في وجود الجزء الزائد، وعدمه، كان مقتضاه البناء على عدم وجوده، لأن وجوده يستوجب الكلفة للحكم ببطلان الصلاة عندها.

ومثل ذلك لو شك في وجود القاطع وعدمه، فإن الأمر يقضي بعدمه، لأن وجوده يقضي بالكلفة، فلاحظ[1].

وكما تكفل البيان السابق بيان معنى القاعدة، وتوضيح المقصود منها، تكفل أيضاً توضيح المقصود من كونها إحدى القواعد الامتنانية، فتدبر.

والموجب إلى عدم ترتيب آثار الشك من قبل كثير الشك، يعود إلى أن هذه القاعدة الامتنانية قد تصرفت في جميع الأدلة التي تضمنت لزوم العناية بالشك الحاصل للمكلف، من خلال تضيـيق دائرة جريانها، لتخرج من كان متصفاً بصفة كثير الشك من ضمنها، وهو المعبر عنه في البحوث الأصولية بالحكومة.

تحديد الشك المنفي بالقاعدة:

ومن المعلوم أن الشك الذي يصيب الإنسان نوعان:

الأول: الشك الذي يكون منشأه الشيطان من خلال سيطرته على الإنسان، وتحكمه فيه بتـزيـين بعض الأشياء إليه، وإيهامه أن ما يقدم عليه يناسب العبادة والطاعة.

الثاني: ما يكون ناجماً من بعض الظروف والعوارض الطارئة على الإنسان اتفاقاً، والتي تزول بمجرد زوال ذلك العارض، مثل الشكوك التي يصاب بها المكلف جراء ابتلائه بخوف، أو ابتلائه بهمّ، أو نتيجة اصابته بمرض أفقده القدرة على التركيز، أو اصابة بعض المتعلقين به بذلك أوجبت حصول ذلك عنده، أو انتابه فرح شديد أفقده السيطرة والتحكم في ذهنه، وأصابه بكثرة الشرود، وغير ذلك.

ويختص جريان قاعدة عدم اعتناء كثير الشك بشكه، بخصوص القسم الأول، فلا تشمل القسم الثاني، لأن الظاهر من الأدلة أن غاية تشريع هذه القاعدة هو نحو من أنحاء المعالجة لسيطرة الشيطان على الإنسان، وسعيه للتحكم فيه، حتى يحوله إلى عبادته عوضاً عن عبادة الباري سبحانه وتعالى، ومن المعلوم أن الطريق لنفي سيطرة الشيطان، ورفع سلطانه عن المكلف يحصل من خلال عدم الاستجابة إليه، والامتناع عن مطاوعته في ما يطلب بعدم الاعتناء بتزيـناته في الشك الصلاتي، حتى يصاب باليأس من الإنسان، ويبتعد عنه.

أما الشك الطارئ وهو القسم الثاني، فإنه لا ربط للشيطان به، وهو يزول بمجرد زوال موجباته، فالمريض الذي سبب المرض له فقدان التركيز، يعود إليه تركيزه بمجرد البرء من هذا المرض، وذلك الذي يعيش حالة فرح عارم، يتمكن من ضبط مشاعره والسيطرة عليها عندما يهدأ من ثورة الفرح الموجودة لديه، وهكذا. وهذا لا يزول بعدم الاعتناء، وعدم المتابعة، فلاحظ.

موضوع القاعدة:

وتجري القاعدة المذكورة إذا كانت كثرة الشك في أجزاء الصلاة وركعاتها، فلا تجري لو كانت كثرة الشك في أصل وجود الصلاة وأدائها، بأن كان المكلف يشك في أنه صلى أو لم يصل، وكان الشك في المحل بحيث كان الوقت باقياً لم ينقض، فتطبق عندها ما تقتضيه الأدلة، من لزوم اتيانه بالصلاة حينئذٍ.

وأما جريانها في شرائط صحة الصلاة، التي يتوقف الحكم بصحتها على وجودها، كالمقدمات الخارجية للصلاة والتي تعتبر قيداً في صحتها، كالطهارة، فلو كان كثير شك في الوضوء، أو كان كثير الشك في الغسل مثلاً، فهو موضع خلاف بين الأعلام، فيلتـزم بعضهم بجريانها فيها، فكما أنها تجري في أجزاء الصلاة وركعاتها، تجري في شرائطها أيضاً، بينما يلتـزم آخرون بعدم الجريان في المقدمات الخارجية، وعليه سوف تكون وظيفة المكلف حينئذٍ هي الحكم على وفق ما تقتضيه الأدلة، من لزوم الاعتناء بالشك، فلاحظ.

وربما يكون في البين قول ثالث، مفاده البناء على عدم جريانها في الطهارة، وجريانها في بقية الشرائط المرتبطة بالصلاة، فتدبر.

حصول العلم بالخلاف:

ثم إن ما ذكرناه من عدم الاعتناء بالشك، وعدم ترتيب أثر عليه إذا لم يحصل للمكلف علم بخلاف ما عليه مفاد القاعدة، بحيث لو تبين له نقصان صلاته واقعاً، كانت وظيفته إعادة الصلاة التي أجرى فيها قاعدة كثير الشك، وهكذا.

الفرق بين القاعدة والقواعد الأخرى:

وقد يتصور البعض عدم وجود فرق بين قاعدة عدم اعتناء كثير الشك بشكه، وبين بعض القواعد الفقهية الأخرى ذات البعد التصحيحي للعمل الصلاتي، كقاعدة الصحة في عمل الإنسان نفسه، أو قاعدة التجاوز، فيعتقد أن المحصلة من القواعد المذكورة، وربما غيرها أيضاً واحدة، فما هو الموجب لجعل هذه القاعدة حينئذٍ.

ويتضح عدم تمامية التصور المذكور عند الإحاطة بموضوع كل واحدة من القواعد، فإن بينها اختلافاً، ومقتضى ذلك اختلاف الأحكام المترتبة على ذلك، لأن الأحكام كما هو معروف، تابعة إلى موضوعاتها، كما قرر في محله.

فإن موضوع قاعدة صحة عمل الإنسان نفسه عند الشك في صحته، والتي يعبر عنها بقاعدة الفراغ، إنما هو الشك بعد الانتهاء من العمل والفراغ منه، وهذا يعني أنه لو حصل للمكلف شك أثناء أدائه للعمل، فإنه لا يمكن أن يطبق القاعدة المذكورة للبناء على صحة العمل الصادر منه، ما يوجب تخصيص جريانها بما إذا كان الشك الحاصل بعد الفراغ من العمل. بينما موضوع قاعدة عدم اعتناء كثير الشك بشكه هو حصول الشك أثناء العمل، وقبل تحقق الانتهاء منه، ما يكشف عن وجود مغايرة بين موضوعي القاعدتين يستوجب ذكرهما معاً كل على حدى.

وأما قاعدة التجاوز، فإنها وإن كانت تشترك مع قاعدة أن كثير الشك لا يعتني بشكه في أن موضوعهما حصول الشك أثناء العمل، وليس بعد الفراغ منه، لتختلف القاعدتان بذلك عن قاعدة الفراغ، إلا أنها أيضاً تختلف عن القاعدة محل البحث، في أن جريانها معلق على حصول التجاوز عن محل الشك من خلال الدخول في شيء بعده، على خلاف بين أعلامنا، في أنه لابد وأن يكون شيئاً واجباً، أو يكتفى بكونه شيئاً مستحباً، فما لم يتحقق الدخول في الغير، لم يتحقق التجاوز، وعدم تحققه يمنع من جريان القاعدة المذكورة، ما يوجب تخصيص دائرة جريانها بذلك.

وهذا بخلاف قاعدة كثير الشك لا يعتني بشكه، فإن جريانها ليس معلقاً على حصول التجاوز عن موضع الشك، بل إنها تجري حتى حال وجود المكلف في نفس موضع الشك، وعدم حصول التجاوز إليه، فيبني على عدم ترتيب شيء من الآثار على ذلك الشك.

عدم الاعتناء عزيمة وليس رخصة:

وقد اختلف في تحديد الأمر بعدم الاعتناء بالشك، وعدم ترتيب الآثار عليه، الوارد في القاعدة، وأنه على نحو العزيمة أم على نحو الرخصة، فلو بني على أنه رخصة، كان مقتضى ذلك كون المكلف مخيراً بين العمل على وفقها، فلا يرتب أي أثر من آثار الشكوك الحاصلة إليه، ولا يطبق ما تقتضيه قواعدها، وبين العمل على وفق القواعد المذكورة، من تحكيم قواعد الشك. أما لو بني على كونه عزيمة، فإن ذلك يستوجب عدم الاعتناء بالشك، ولو أعتنى به، أوجب ذلك بطلان صلاته، فمن شك في أنه سجد سجدة واحدة، أم أنه سجد سجدتين، وكان كثير شك، وظيفته البناء على سجوده سجدتين، فلو بنى على أنه سجد سجدة واحدة، فأتى بالسجدة الثانية، كان ذلك موجباً للحكم ببطلان صلاته، لأنه يكون قد زاد فيها جزءاً متعمداً.

المعروف والمشهور بين أعلامنا، هو البناء على كون الأمر الوارد فيها عزيمة، وليس رخصة، وبالتالي يكون ملزماً بالعمل على وفقه والتقيد بمؤداه، كما عرفت، فلاحظ.

معيار كثرة الشك:

وكما تم تحديد المقصود من الأمر الذي ورد في القاعدة، تبقى الحاجة ملحة لتحديد المعيار وبيان الضابطة في كثرة الشك، فمتى ينطبق على فرد من الأفراد أنه كذلك، وما هو الميزان في دخوله تحت هذا العنوان، ووصفه بهذا الوصف؟

إن من الواضح أن الموضوعات إما أن تكون موضوعات إمضائية، أو اختراعية، ونقصد بكونها إمضائية، أن الشارع المقدس لم يتدخل في تأسيس وجعل لها، وإنما يمضي ما هو المعروف والمتداول بين العقلاء وعند العرف، وهذا مثل مفهوم البيع، فإن الشارع المقدس لم يؤسس حقيقة جديدة له تغاير الحقيقة العقلائية الموجودة عند العرف من المبادلة، نعم أضاف الشارع المقدس قيوداً إضافية معتبرة في تحققه خارجاً.

وهذا مثل عنوان السفر، فإن الشارع المقدس لم يأت بشيء جديد فيه، وإنما قام بإضافة بعض القيود الإضافية إلى ما هو الموجود عند العرف.

أما الموضوعات الاختراعية، فهي التي يكون جعلها وإبراز حقيقتها ومعناها من قبل الشارع المقدس، مثل عنوان الفقير، وتحديد أنه من لا يملك قوت سنته، أو حقيقة الصلاة، وأنها عبارة عن الأفعال الخاصة، وكذا يمكن القول في الحج، وهكذا، فإن هذه العناوين جميعها اختراعات من قبل الشارع لم تكن معروفة من قبل.

ولا يخرج عنوان كثير الشك عن هذين العنوانين، فهو إما أن يكون من الموضوعات الامضائية، لما هو المعروف عند العرف، وهذا يعني أن تحديده يكون من قبل العرف، فما يقرّه العرف معياراً لصدق عنوان كثير الشك، يكون متبعاً في ذلك. أو أن يكون من الموضوعات الاختراعية، بحيث يكون للشارع المقدس تأسيس وجعل لبيان حقيقته.

وطبقاً لذلك أختلف في تحديد معيار كثرة الشك، على أقوال ثلاثة:

الأول: أن الضابطة في تحديد المقصود منه، يرجع فيها إلى العرف، وأنه الميزان في ذلك، فمتى أقر العرف انطباق العنوان على فرد من الأفراد، بني على صدقه عليه.

الثاني: إن المقصود من كثير الشك هو كل مكلف يقع منه الشك ثلاث مرات في كل صلاة. فلا يصدق العنوان لو كان يقع منه في الصلاة الواحدة الشك مرة، أو مرتين. كما لا ينطبق على من كان يتكرر منه الشك مرة واحدة في صلوات متعددة، كما لو كان يشك في الصلوات اليومية أربع مرات مرة واحدة في كل صلاة.

الثالث: كثير الشك هو من يقع منه الشك في كل ثلاث صلوات متواليات مرة واحدة، بأن يقع الشك منه مرة واحدة في ثلاث صلوات من الصلوات الخمس اليومية، فلا تخلو ثلاث صلوات منها عن وقوع حالة شك لديه، سواء كنا الصلوات متواليات، كالصبح والظهرين، أو العصر والعشائين، أم كن متفرقات. ويشمل ما لو كان يشك في الثلاث الصلوات المتوالية مرتين، أو كان يشك فيها ثلاث مرات، أو أكثر. نعم لا ينطبق عليه العنوان لو كان يشك في كل أربع صلوات، أو في كل خمس منها مرة واحدة، كما لا يخفى.

ولا يخفى البعد بين القولين الثاني والثالث، فإن مقتضى التعويل على الثاني منهما، يكون تحقق المصداق لكثير الشك من الأفراد النادرة جداً، إذ يصعب البناء على توفر شخص يحصل منه الشك مكرراً في الصلاة الواحدة ثلاث مرات، بخلاف الثالث منهما، فإن ذلك من الأمور المتيسرة، والمعروفة.

قد يدعى أن الشارع المقدس قد عمد إلى تحديد ضابطة كثير الشك ومعياره، فيكون من الموضوعات الاختراعية، استناداً إلى معتبرة محمد بن أبي حمزة عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: إذا كان الرجل ممن يسهو في كل ثلاث فهو ممن كثر عليه السهو[2]. لتضمنها تحديد الضابطة في صدق عنوان كثير الشك من خلال تكرر ذلك ثلاث مرات، والمقصود من السهو في النص هو الشك، لما هو المعروف من استعمال ذلك في ألسنة النصوص.

وهذا البيان وجيه، إلا أن المشكلة تكمن في تحديد المقصود من الثلاث، لأن في ذلك احتمالات تضمنتها كلمات الأعلام، نشير لبعضها:

منها: إن المقصود من الثلاث هو الشك ثلاث مرات في الصلاة الواحدة، وهو عين القول الثاني من الأقوال الثلاثة التي تقدمت. وهذا الاحتمال يعتمد على تقدير كلمة(صلاة) لتكون متعلقاً لكلمة(كل) الواقعة في المعتبرة، فيكون معناها: إن كثير الشك الذي لا يعتني بشكه هو من يشك في كل صلاة ثلاث مرات.

وقد قرر في محله أن التقدير على خلاف القاعدة، فلا يلجأ إليه إلا مع عدم إمكانية تصور محتمل آخر في الكلام، وأما مع وجود احتمال متصور فيه، لن يكون مقبولاً، فلاحظ.

منها: إن المقصود من الثلاث هو الشك في ثلاث صلوات مرة واحدة، كما هو مقتضى القول الثالث. وهذا الاحتمال يحتاج كسابقه إلى تقدير محذوف، وهو كلمة(صلوات) تكون تميـيزاً لكلمة(ثلاث) الموجودة في النص، فيكون معنى المعتبر: كثير الشك الذي لا يعتني بشكه هو الذي يشك في كل ثلاث صلوات مرة واحدة.

ولا يختلف حال هذا المحتمل عن سابقه كما عرفت في توقفه على وجود تقدير، وهذا يعني أن الموجب للقبول به فرع عدم وجود معنى آخر متصوراً في المقام، نعم لا ريب أن هذا المحتمل أولى من سابقه بلحاظ أن السابق يجعل مضمون القاعدة فرداً نادراً ما يتنافى وكونها من القواعد الامتنانية التوسيعية من الشارع المقدس على المكلفين، بخلافه في هذا الاحتمال، ولعل هذا يكون موجباً لترجحه عليه لو دار الأمر بينهما، فلاحظ.

ومنها: أن يكون المستفاد من المعتبرة هو عين المحتمل السابق، إلا أن المقصود من الصلوات المقدرة في النص، هي خصوص الصلوات الخمس، وليس مطلق الصلوات، ما يعني أخذ قيدية التوالي بينها.

وهذا المحتمل كسابقيه سوف يكون محتاجاً إلى تقدير الصلوات اليومية، ليكون المعنى أن كثير الشك لا يعتني بشكه متى كان يقع الشك منه في ثلاث صلوات من الصلوات اليومية مرة واحدة.

وقد أوجب تعدد الاحتمالات في هذه المعتبرة وهي الوحيدة التي تضمنت هذا التحديد بناء جملة من أعلامنا على إجمالها، وعدم إمكانية تحديد المقصود منها. خصوصاً وأنه لا يوجد ما يوجب ترجح أحد المحتملات المذكورة على غيره. وردد آخرون أمرها بين الاحتمالين الثاني والثالث بسبب استبعادهم الأول لندرته، إلا أن ذلك لا يجعلها الميزان في الضابطة، للحاجة إلى احراز أن المعتبرة بصدد بيان الضابطة وحصرها في هذا المعنى، ومع تردد الأمر بين الاحتمالين، يكون إحراز ذلك من الصعوبة بمكان، وعليه لن تخرج المعتبرة عن كونها مشيرة إلى أحد المعاني المتصورة في حقيقة كثرة الشك، فلاحظ.

ومع عدم وجود تحديد لكثير الشك من الشرع المقدس، فينتفي كون هذا العنوان من العناوين الاختراعية المجعولة من قبله، يتعين أنه عنوان إمضائي لما عليه العرف فيرجع في تعيـين المقصود منه، وتحديده إلى العرف.

وعند الرجوع للعرف، فلا إشكال في حكمه بصدق عنوان الكثرة على من كان يشك في كل صلاة ثلاث مرات، كما يحكم بصدقه أيضاً على من شك في كل ثلاث صلوات متوالية مرة واحدة، وهكذا، وهو من العناوين المشككة التي تتفاوت شدة وضعفاً، و يكتفى فيها بتحقق أول فرد من أفراده[3].

ولما كان الميزان لتحديد المقصود منه إلى العرف، فلن يكون منحصراً في خصوص من ذكرنا، بل الظاهر حكم العرف بصدق عنوان كثير الشك أيضاً على من كان يشك في كل أربع صلوات متواليات مرة واحدة، أو كان يشك في كل يومين مرتين، أو يشك في اليوم الواحد ثلاث مرات، وفي اليوم الثاني مرتين أو ثلاث، وهكذا[4].

والظاهر أيضاً أن العرف يأخذ بعين الاعتبار ملاحظة حال المصلين، في صدق العنوان عليهم وعدمه، فتدبر.

الشك في اتصافه بالعنوان:

هذا ولو حصل للمكلف شك في صدق عنوان كثير الشك عليه، وانتفائه عنه، وهذا تارة يكون بنحو الشبهة الموضوعية، وأخرى يكون بنحو الشبهة المفهومية، وسوف نقصر الحديث على الأولى لدخولها دائرة الابتلاء دون الثانية عادة، ويتصور الأمر بالنسبة للشك في الشبهة الموضوعية بنحوين:

الأول: ما إذا شك المكلف في بقاء عنوان كثير الشك عليه، لقلة وجود الشك عنده بعدما كان متصفاً به، ومقتضى الاستصحاب في البين الحكم ببقاء عنوان كثير الشك عليه، فيجب عليه عدم الاعتناء بما يصيبه من الشكوك.

الثاني: أن يكون المكلف غير متصف بكثرة الشك، إلا أنه شك في اصابته بذلك نتيجة تكرر الشك منه دون وجود طارئ عارض دعى إلى ذلك، فهنا يستصحب انتفاء الاتصاف بعنوان كثير الشك، وعليه تكون وظيفته تطبيق قواعد الشك وغيرها في المقام.

وظيفة كثير الظن:

وكما يوجد كثرة شك عند المكلفين، يبتلى بعضهم بكثرة الظنون أثناء امتثال التكليف الصلاتي، وقد فتح هذا مجالاً بين الأعلام، من حيث أخذ كثير الظن حكم كثير الشك في عدم الاعتناء بظنونه، ولزوم المضي في صلاته، أو يبنى على عدم الإلحاق، واختصاص عدم الاعتناء بكثرة الشك، فلا تشمل كثرة الظن.

ولا يخفى أنه وفقاً للقول بالإلحاق، سوف يلتـزم بأن وظيفة كثير الظن، سواء كان الظن متعلقاً بالركعات، أم كان الظن متعلقاً بالأفعال، هو البناء على عدم الاعتناء، فلو ظن أنه في الركعة الثالثة، واحتمل أنه في الركعة الرابعة، بنى على أنه في الرابعة، تطبيقاً للقاعدة.

وهكذا لو ظن أنه لم يسجد السجدة الثانية، واحتمل أنه قد سجدها، كانت وظيفته بناء على الإلحاق هي وقوع السجدة الثانية منه، وهكذا.

أما لو لم يبن على الإلحاق، فإن القاعدة تقتضي في المثال الأول، وهو الظن في الركعات، البناء على أنه في الركعة الثالثة، لأن الظن حجة في الركعات. وفي المثال الثاني، القاعدة تقتضي أن يأتي بالسجدة الثانية، لأن ذمته مشغولة بذلك.

——————————————————————————–

[1] لاحظ القواعد الفقهية للبجنوردي ج 2 ص 350 ، توضيح القواعد الفقهية ج 1 ص 46، القواعد الفقهية والأصولية على مذهب الإمامية ج 3 ص 472، القواعد الفقهية في فقه الإمامية ج 1 ص 140.

[2] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح 7.

[3] مهذب الأحكام ج 8 ص 371.

[4] توضيح القواعد الفقهية ج 1 ص 64.