20 أبريل,2024

كيف نقرأ النهضة الحسينية (2)

اطبع المقالة اطبع المقالة

تبين لنا مما تقدم أنه لا يمكن لنا أن نقرأ النهضة الحسينية قراءة واعية من دون ملاحظة العناصر أو النقاط الثلاث التي قدمناها، وهي:

1-معرفة هوية المخاطب في النصوص الصادرة عن الإمام(ع) في تلك الفترة.

2-النظر إلى تلك النصوص كوحدة في مجموعها.

3-رد المتشابه منها إلى المحكم.

مفهوم النهضة من خلال النصوص:

وعلى هذا يمكننا القول بأن مقتضى القراءة المعمقة والواعية للنصوص التي صدرت عن الإمام الحسين(ع) في تلك الفترة، مع الإلتفات للأمور الثلاثة التي قدمناها، يمكن أن يصل بالمتأمل إلى النـتيجة التالية:

أن الإمام أبا عبد الله الحسين(ع) كان قد تعامل في العمق مع كل قضية في مسار النهضة المباركة، وقد كان ذلك بمنطق الشهيد الفاتح، وخاطبها بلغة الشهادة التي هي عين الفتح، وإن كان في نفس الوقت قد تعاطى مع ظواهر القضايا بمنطق الحجج الظاهرة، ولا منافاة بين المنطقين، بل هما في طول بعضهما البعض.

ولذا لقد كان صحيحاً مثلاً أن الإمام الحسين(ع) أراد أن ينجو بنفسه من أن يقتل في المدينة المنورة، أو مكة المكرمة خاصة، قتلة يقضى بها على ثورته المباركة ونهضته وهي بعدُ في مهدها، وتهتك بالتالي حرمة البيت، وهذا المعنى نستظهره من حديثه مع أخيه محمد: يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت[o1] .

حيث يتمكن الأمويون في كل ذلك أن يدّعوا أنهم بريئون مما جرى على الحسين (ع) سواء في المدينة أم كان ذلك في مكة أم في الطريق، فيحافظون بذلك على الإطار الديني لحكمهم، أو أن تزداد المصيـبة سوء حين يطالبون هم بدم الإمام الحسين(ع) ويقتلون من أمروه بقتله، فيخدعون الناس بادعائهم أنهم أصحاب دمه الآخذون بثأره، فيـزداد الناس انخداعاً بهم ومحبة لهم، وتصديقاً بما يظهرون من التدين والالتـزام، فتكون حينـئذٍ المصيـبة على الإسلام والأمة الإسلامية أدهى وأمر.

ومن المعلوم أن الإمام الحسين(ع) قد تحرك على علمٍ منذ البدء نحو المصرع المختار على الأرض المختارة التي تـنفرج وقائع المصرع في ساحتها عن الفتح المنشود، كما أشار(ع) إلى هذا المعنى بقوله: وخير لي مصرع أنا لاقيه[o2] . وكذا قوله(ع): الموعد حفرتي وبقعتي التي أستشهد فيها وهي كربلاء[o3] . وقوله(ع): لا سبيل لهم عليّ، ولا يلقوني بكريهة أو أصل إلى بقعتي[o4] . وقال أيضاً(ع): ولكن أعلم يقيناً أن هناك مصرعي ومصرع أصحابي…[o5] .

فحيث إن الإمام الحسين(ع) لم يـبايع يقتل، فقد سعى (ع) ألا يقتل في ظروف زمانية ومكانية، وبكيفية يخـتارها ويخطط لها ويعدها العدو، وسعى(ع) بمنطق الشهيد الفاتح أن يتحقق مصرعه الذي لابد منه على أرض يخـتارها هو، لا يتمكن العدو فيها أن يعتم على مصرعه، مما يؤدي إلى أن تخـتنق الأهداف المرجوة من وراء هذا المصرع الذي سيهز الأعماق في وجدان الأمة، ويحركه بالاتجاه الذي أراده الإمام الحسين(ع)، كما سعى(ع) أن تجري وقائع المأساة في وضح النهار، لا في ظلمة الليل، ليرى جريان وقائعها أكبر عدد من الشهود، فلا يتمكن العدو من أن يعتم على هذه الوقائع الفجيعة، ويغطي عليها.

ويبدو أن هذا الهدف الذي نشده الإمام الحسين(ع) في عصر تاسوعاء من القوم أن يؤخروهم هذه العشية، وذلك لكي يتمكن(ع) من إحراز العامل الإعلامي والتبليغي.

عدم الإعراض عن الكوفة:

هذا ومن التساؤلات التي تطرح لو لم نفسر النهضة المباركة للإمام الحسين(ع) بمثل هذا التصور الذي طرحناه، وبما يقرب منه، سؤال، مفاده:

لقد كان صحيحاً أن رسائل أهل الكوفة كانت حجة لهم على الإمام(ع)، وحجة له عليهم وعلى الأمة في وقت معاً، وكانت حجة هذه الرسائل تقضي أن يتوجه الإمام الحسين(ع) بعد ورودها إليه إلى الكوفة، خصوصاً بعد أن كتب إليه مسلم بن عقيل(ع) يخبره بأنه قد بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً ويطلب منه القدوم[o6] .

وذلك وفاء بالوعد الذي قطعه الإمام الحسين(ع) لهم على نفسه: فإن كتب إليّ أنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله[o7] .

ولذا لو لم يتوجه الإمام الحسين(ع) إليها بعد هذه الرسائل لقال التاريخ والناس إلى يومنا هذا أنه(ع) قد أخلف الوعد، وإخلاف الوعد قبيح! وضيّع (ع) الفرصة التي لا تعوض وفوتها تفويتاً، وفرّط في الأمر خلافاً للحنكة السياسية.

لكن حجة أهل الكوفة على الإمام(ع) كانت قد انـتفت بالفعل بعد انقلاب الكوفة على مسلم بن عقيل(ع) وخذلان أهلها له، ونكولهم عن نصرته والوفاء بـبـيعته، وتفرق المخلصين من الشيعة على قلتهم تحت جنح التستر والتخفي خوفاً من بطش ابن زياد بهم، بعد أن سجن جمعاً منهم، ووصول الخبر بذلك إلى الإمام(ع).

فلم يعد في الظاهر ثمة إلزام بضرورة مواصلة التوجه إلى الكوفة، فلماذا لم يثنِ ذلك الإمام الحسين(ع) عن المسير إليها والتوجه نحوها؟…

إصرار آل عقيل على الثأر لمسلم:

وعندما نسعى للإجابة على هذا السؤال، قد نواجه بمن يجيب عنه، بأن منشأ إصرار الإمام الحسين(ع) على مواصلة المسير والتوجه ناحية الكوفة يعود لما لاقاه(ع) من إصرار من بني عقيل على الذهاب للأخذ بثأر مسلم بن عقيل(ع) بعد وصول خبر مقتله، كما هو ظاهر الرواية الواردة عن عبد الله بن سليمان، والمنذر بن المشمعل الأسديـين الذين نقلا خبر شهادة مسلم بن عقيل(ع) عن طريق أسدي آخر شهد مقتله في الكوفة، ثم قالا للإمام(ع): نـنشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هذا، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نـتخوف أن يكونوا عليك[o8] .

وعندها نجد الإمام الحسين(ع): نظر إلى بني عقيل، فقال: ما ترون، فقد قتل مسلم(ع)؟…

فقالوا: والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق. فأقبل علينا الحسين(ع) وقال: لا خير في العيش بعد هؤلاء[o9] .

وهذا النص يظهر أن الإمام الحسين(ع) إنما أصرّ على التوجه إلى الكوفة نـتيجة ما وجده من إصرار لدى بني عقيل على السعي للأخذ بثأر مسلم بن عقيل(ع)، وإلا لو لم يكن ذلك منهم لكان الإمام(ع) قد رجع من حيث أتى، أو اتخذ ناحية أخرى غير الكوفة، وما كانت لتقع واقعة عاشوراء الدامية، بما تضمنـته من مآسي وآلام.

رفض هذا التصور:

ولا يخفى أن مثل هذا التصور والاستظهار مما تأباه النهضة الحسينية الخالدة، ويأباه تأريخها الوثائقي، حيث أن هناك من النصوص الكثير مما يدل على أن القضية الأساسية التي كان يحملها الإمام الحسين(ع) ويقصدها من أجل هذه النهضة المباركة، هي قضية نجاة الإسلام التي هي أكبر من مسلم بن عقيل(ع)، بل وأكبر من كل دم.

ومما يشهد لما قلنا العبارة التي ودع الإمام الحسين(ع) مسلما(ع) بها يوم خروجه إلى الكوفة، قال(ع): إني موجهك إلى أهل الكوفة وهذه كتبهم إليّ، وسيقضي الله من أمرك ما يحب ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء، فامض على بركة الله[o10] .

وكذلك لما التقى الفرزدق وقد سأله الفرزدق: كيف تركن إلى أهل الكوفة، وهم الذين قتلوا ابن عمك مسلم بن عقيل وشيعته.

فأجابه الإمام(ع): رحم الله مسلماً، فلقد صار إلى روح الله وريحانه وجنـته ورضوانه، أما إنه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا[o11] .

هذا ولابد من الانتباه لما سبق وأكدنا عليه غير مرة، بأنه ينبغي معرفة نوع المخاطب في معرفة المراد من النصوص الواردة عنه(ع) في هذه الفترة، فلاحظ أن هذين الرجلين الأسديـين اللذين نقلا خبر شهادة مسلم بن عقيل(ع) لم يكونا ممن عزم على نصرة الإمام الحسين(ع) والالتحاق بركبه، كل ما في الأمر هو أن الفضول دفعهما إلى معرفة ما يكون من أمر الإمام(ع)، كما ورد ذلك بإعترافهما في الرواية، ومن ثم تخليا عن الإمام(ع) أخيراً وفارقاه.

ولهذا يجد المتـتبع للنصوص الواردة في هذه الفترة، والمحاورات التي كانت تقع بين الإمام الحسين(ع) وبين الأفراد مختلفين، أن الإمام(ع) لم يكن يخاطب هذا النوع من الرجال بالحقيقة والمقصد والهدف المنشود من هذه الحركة والخروج، بل كان الإمام(ع) يسلك إلى عقولهم في الحديث عن مرامه وهدفه وغايته، سبلاً غير مباشرة يعرض فيها سبباً أو أكثر من الأسباب التي تقع في طول السبب الرئيس بما يناسب المقام والحال، كما رأينا قسماً من ذلك في النصوص التي سبق منا الإشارة إليها.

وعلى هذا يكون قوله(ع) عندما قال بنو عقيل مقالتهم: لا خير في العيش بعد هؤلاء. صدق وحق، إلا أن ذلك لا يعني أن مواساة بني عقيل كانت هي السبب الرئيس في إصرار الإمام الحسين(ع) على التوجه إلى الكوفة.

كما يضاف إلى ذلك أن الإمام(ع)لم يعلل في أي موقع أو نص آخر إصراره على التوجه إلى الكوفة بطلب الثأر لمسلم بن عقيل(ع)، بل نجد أنه(ع) كان يعلل ذلك في أكثر من موقع ونص بحجة رسائل أهل الكوفة وبـبـيعتهم له، وظل(ع) يؤكد التـزامه بالوفاء بالعهد وبالقول الذي كان بينه وبين أهل الكوفة، حتى بعد أن منعه جيش الحر بن يزيد الرياحي عن الوصول إلى الكوفة، وحال بينه وبينها، كما منعه عن الرجوع إلى المدينة المنورة، كما ورد ذلك في بعض الروايات[o12] .

فقد قال الإمام(ع) للطرماح الذي عرض عليه اللجوء إلى جبل(أجا) المنيع بعد مضايقات جيش الحر: جزاك الله وقومك خيراً، إنه قد كان بينـنا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف[o13] .

وورد في نص آخر: إن بـيني وبين القوم موعداً أكره أن أُخلفهم، فإن يدفع الله عنا فقديماً ما أنعم علينا وكفى، وإن يكن ما لابد منه ففوز وشهادة إن شاء الله[o14] .

كما خاطب الإمام(ع) جيش الحر بن يزيد الرياحي يوم التقى به بهذه الحجة أيضاً، حيث قال(ع): أيها الناس، إني لم آتكم حتى أتـتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم أن أقدم علينا فإنه ليس لنا إمام، لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق[o15] .

بل إننا لو تـتبعنا النصوص لوجدنا أن الإمام الحسين(ع) ما فتأ يحتج بذلك على أهل الكوفة حتى آخر لحظات حياته الشريفة، وقد وقع صريعاً على رمضاء كربلاء المقدسة، راسماً أسمى صور التضحية والبطولة.

وعلى ضوء مثل هذه النصوص، يكون جلياً وواضحاً القول: بأن الإمام الحسين(ع) واصل الـتزامه بالوفاء بهذا الوعد والقول، وأصر على التوجه إلى الكوفة، ولم يكن إصراره ذلك منحصراً في خصوص أن لأهل الكوفة عليه حجة باقية في الواقع، بل لأنه(ع) لم يشأ أن يدع أي مجال لإمكان القول بأنه(ع) لم يف تماماً بالعهد لو كان قد انصرف عن التوجه إلى الكوفة في مراحل الطريق، حتى بعد أن أغلق جيش الحر دونه الطريق إليه.

وبعبارة أخرى: كأنه(ع) أراد أن يقطع جميع الحجج التي يمكن لأهل الكوفة التعلل بها، من أنه لم يأتنا، ولم يفِ لنا بوعده، بمجرد أن سمع ما سمع، ولعله من الإشاعات، فأراد(ع) أن يمنع مثل هذه الاحتمالات والتقولات، فواصل سيره إليها.

ذلك لأن الإمام(ع) مع تمام حجته البالغة على أهل الكوفة أراد في المقابل بلوغ تمام العذر، وعلى أكمل وجه فيما قد يتصور أن لهم حجة باقية عليه، بحيث لا يـبقى ثمة مجال للطعن في وفائه بالعهد.

هذا، وإذا انـتبهنا إلى أن الإمام الحسين(ع) بعد أن اختار موقفه المبدئي برفض البيعة ليزيد وبالقيام، كان يعلم منذ البدء أنه مقتول لا محالة، خرج إلى العراق أو لم يخرج، وهذا ما تؤكده كثير من النصوص الواردة (ع):

منها: إني والله مقتول كذلك، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلونـني[o16] .

ومنها: لو كنت في جحر هامة من هوّام الأرض لأستخرجوني منه حتى يقتلونـي[o17] .

ومن هذا كله يتضح لنا أن الحكمة أن يخـتار الإمام(ع) لمصرعه أفضل الظروف الزمانية والمكانية والنفسية والاجتماعية المساعدة على كشف مظلوميته، وفضح أعدائه، ونشر أهدافه، وأن يتحرك باتجاه تحقيق ذلك ما وسعته القدرة على التحرك.

وبما أنه(ع) كان يعلم منذ البدء أيضاً أن أهل الكوفة لا يفون له بشيء من عهدهم، وبيعتهم، وأنهم سوف يقتلونه: هذه كتب أهل الكوفة إليّ، ولا أراهم إلا قاتلي[o18] .

إذن فهو(ع) كان يريد العراق ويصرّ على التوجه إليه، لأنه أفضل أرض للمصرع المختار، ذلك لما ينطوي عليه العراق من استعدادت للتأثر بالحدث العظيم(واقعة عاشوراء) والتغير نـتيجة لها.

وذلك لأن العراق لم ينغلق إعلامياً ونفسياً لصالح الأمويـين كما هو الشام، بل لعل العكس هو الصحيح، بمعنى أن الحركة المعارضة والمناوئة للدولة الأموية كانت في العراق، وهذا لا يعني أن العراق كانت مركزاً للتشيع، إذ أن هذه فترة زمنية وانقضت، وإنما السبب لوجود المعارضة للدولة الحاكمة آنذاك تعود لمنهج التعامل الذي كان يتخذه معاوية ومن جاء بعده في المعاملة مع أهل العراق، من التحقير والإذلال والإهانة، وما شابه ذلك.

وهذه الحقيقة أكدتها الوقائع التي تلت واقعة عاشوراء، وأثبتت أيضاً صحة هذا المنطلق، ومن هنا يمكننا أن نفهم الوجه في رفض الإمام الحسين(ع) الاقتراحات التي عرضت عليه وهو في المدينة، من قبل محمد بن الحنفية، ومن السيدة أم سلمة(رض)، من رفض التوجه إلى العراق والإعراض عن ذلك، وأن عليه أن يتوجه إلى اليمن، أو إلى شعاب الجبال الآمنة، وهذا كله قبل ورود رسائل أهل الكوفة عليه(ع).

كما يمكننا بناءاً على هذا التصور تفسير رفض الإمام الحسين(ع) الاقتراح الذي عرضه عليه الطرماح باللجوء إلى جبل آجا المنيع، بعدما التقى بجيش الحر بن يزيد الرياحي.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

ثم إننا بعرض هذا التصور لا نـنكر أن الإمام الحسين(ع) كان يود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويصلح حال الأمة، ويقوم بعملية تغيـير الأوضاع، وربما إقامة الحكومة الإسلامية، كما تشهد بذلك النصوص، فلاحظ قوله(ع): وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب(ع)[o19] .

ومنها قوله(ع): أيها الناس إن رسول الله(ص) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله(ص)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وأنا أحق من غيّر[o20] .

ومنها قوله(ع) في مخاطبته للفرزدق: وأنا أولى من قام بنصرة دين الله، وإعزاز شرعه والجهاد في سبيله، لتكون كلمة الله هي العليا[o21] .

ومنها ما جاء في رسالته إلى أهل البصرة، قال(ع): وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه(ص)، فإن السنة قد أميتت، وإن البدعة قد أحيـيت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري، أهدكم سبيل الرشاد[o22] .

إقامة الحكومة الإسلامية:

كما أن من المعلوم أن الإمام الحسين(ع) كان يعلم أن النصر الظاهري وتسلم الحكم حتى لو تحقق له على فرض الاحتمال، فإن ذلك قد يحصل في خصوص إقليم العراق مثلاً، أو أكثر من إقليم على أحسن تصور واحتمال، لكن الشام وما تبعها من الأقاليم الأخرى تبقى حينئذٍ في يد السلطة الأموية، وعندها يعود الصراع بين الحق والباطل إلى سابق عهده، وتعود معاركه غير الحاسمة، في مثل (صفين) مرة أخرى، وتبقى قدرة الأمويـين على تضليل الأمة كما هي، وتبقى مأساة الإسلام على حالها، ويبقى الأمر دون مستوى الفتح المنشود، والنصر المراد.

واقعة حاسمة:

فلابد إذن من (واقعة حاسمة) تفصل بين الحق والباطل، وتحيل شلل الأمة ومواتها إلى حركة وحياة، وتشل الباطل، فلا تبقى له بعدها أية قدرة على التلبس بلباس الحق، وتضليل الناس على الصعيد الديني والنفسي والاجتماعي والإعلامي، وهذه الواقعة تنـتهي بكل نتائجها لصالح الحق، ولو بعد حين، فلا تنـتهي كما انتهت صفين مثلاً.

وتـتميز هذه الواقعة بأنها تكتب بمداد من الدم المقدس كل البلاغات والبيانات اللازمة في طريق الكمال الإنساني على هدي الإسلام المحمدي الخالص.

كما أنها تمنح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قيمة خارجية على أرض الواقع وساحته عليا تضاف إلى قيمته التشريعية الصادرة من الشارع المقدس العالية في الشريعة المقدسة.

واقعة حاسمة لا يكون الإصلاح بعدها في الأمة إلا في ظلها وببركتها وتحت شعارها، وتمتد هذه الواقعة ليكون كل يوم يومها، وتمتد ليكون كل مكان أرضها.

الإسلام في خطر:

وهذا التصور الذي ذكرناه، يساعدنا على فهم التنافي الظاهري الذي قد يتصوره البعض بين إقرار الإمام الحسين(ع) بصواب وصحة تلكم النصائح والاقتراحات التي وجهت إليه من غير واحد كما سمعنا فيما تقدم، من أخيه محمد بن الحنفية، وابن عباس وابن جعفر، وأم سلمة، وغيرهم، وبين اتخاذه منهجاً آخر يغاير هذه الاقتراحات بأكملها، على اختلاف ألسنـتها ومضامينها، إذ مضافاً لما كنا نصر عليه غير مرة، من أنه(ع) كان يؤكد لكل واحد من هؤلاء المقترحين بنحو يتناسب مع المخاطب، نضيف أن هذه الاقتراحات، جلها، بل كلها كانت تصب في مدار التفكير بالسلامة والمنفعة الذاتية، والنصر الظاهري وإن كان جزئياً، وعلى نحو الاحتمال.

في حين أن الإسلام في ذلك الوقت كان يمر بمنعطف حرج حاسم، ونتيجة ذلك الصراع، أن يـبقى أو لا يـبقى، وقد لخص الإمام الحسين(ع) حال الإسلام الحرج بقوله لمروان بن الحكم: وعلى الإسلام السلام إذا بليت الأمة براعٍ مثل يزيد[o23] .

فقد كان الإسلام في تلك الفترة مريضاً، لا ينفع في علاجه إلا الكي، لما يترتب عليه من علاج حاسم. فلا ينفع لعلاجه منطق السياسة والمعاملة السياسية، ولا الدهاء السياسي، ولا رعاية المصالح الذاتية، والتفكير بالسلامة، وحسابات الاستفادة والمنفعة والربح والخسارة الشخصية، ومنطلقات التخطيط للسيطرة على الحكم.

فلا علاج له إلا بالعلاج الذي أشار له أبو عبد الله الحسين(ع): وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف[o24] .

فالسلام على الحسين يوم ولد ويوم رسم على أرض البطولة والتضحية والفداء أجمل صور التضحية من أجل الغاية العظمى، من أجل الإسلام المحمدي الأصيل، والسلام عليه يوم يـبعث حياً.

————————————————

[o1]اللهوف ص 27.

[o2]اللهوف ص 26.

[o3]المصدر السابق ص 29.

[o4]المصدر السابق.

[o5]المصدر السابق ص 27.

[o6]الإرشاد ص 226.

[o7]تاريخ الطبري ج 4 ص 262.

[o8]الإرشاد ص 247.

[o9]المصدر السابق.

[o10]الفتوح ج 5 ص 31.

[o11]اللهوف ص 32.

[o12]الإرشاد ص 251، تاريخ الطبري ج 4 ص 304، الكامل في التاريخ ج 4 ص 48.

[o13]الكامل في التاريخ ج 4 ص 50.

[o14]مثير الأحزان ص 39-40.

[o15]الإرشاد ص 249-250.

[o16]الخرائج والجرائح ج 1 ص 253، ح 7.

[o17]بحار الأنوار ج 45 ص 99 باب 37.

[o18]تاريخ ابن عساكر ص 211 ح 266.

[o19]بحار الأنوار ج 44 ص 329، باب 37.

[o20]تاريخ الطبري ج 4 ص 304.

[o21]تذكرة الخواص ص 217-218.

[o22]تاريخ الطبري ج 4 ص 266.

[o23]الفتوح ج 5 ص 17.

[o24]اللهوف ص 26.