28 مارس,2024

العصمة المحمدية

اطبع المقالة اطبع المقالة

العصمة المحمدية

 

لم يختلف حال النبي محمد (ص) عن سائر الأنبياء(ع) فقد تمسك المخطئة ببعض الآيات لنفي العصمة عنه، بل قالوا بدلالة بعضها على نفي الايمان عنه قبل البعثة وأنه (ص) لم يكن موحداً.

ولما كانت بعض الآيات المذكورة سبق الحديث عنها مفصلاً في البحث حول الاجتهاد النبوي، لذا لن نطيل الوقت عندها، وإنما سوف نقصر البحث على ملاحظة دلالتها لنفي العصمة قبولاً أو نفياً.

 

استعرض الآيات:

وسوف نعرض لتلك الآيات المتمسك بها ونبين كيفية الاستدلال بها ثم محاكمة تلك الدلالة قبولاً أو رفضاً.

منها: قوله تعالى:- (فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والابكار)[1]. وقد قربت دلالتها على المدعى من خلال الأمر المتوجه إليه (ص) بلزوم الاستغفار من الذنب وهو ظاهر في الوجوب. ومن الواضح انه لو لم يكن هناك ذنب لم يكن هناك موجب للأمر بالاستغفار، فيكشف الأمر به عن صدور ذنب، فيثبت المطلوب.

ولا يخفى أن تمامية الاستدلال بالآية الشريفة يعتمد على تحديد المقصود من الذنب فيها، وأنه بمعنى المعصية والخطيئة، أما لو كان له معنى آخر، فسوف تكون الآية أجنبية عن المدعى.

 

مراحل الذنوب:

لا يخفى أن الذنب على مراحل ومراتب:

الأولى: الذنب القانوني والشرعي:

وهو المعنى المشهور للذنب نفسه، والمقصود منه هو التخلف عن القانون المطاع، وهو أعم من كونه قانوناً دينياً أو غير ديني. ويعتبر أن يكون التخلف الديني تخلفاً عن الأحكام المولوية الإلزامية بترك الواجبات وفعل المحرمات.

 

الثانية: الذنب الأخلاقي:

وهو كل عمل يصدر عن الانسان مخالفاً لمكارم الأخلاق، مع أنه ليس مخالفاً للأوامر المولوية الإلزامية، فلا يعدُّ ممنوعاً شرعاً وقانوناً.

ويختلف حال هذا النوع من الذنوب حسب المكانة الاجتماعية للفرد، فقد لا يشكل محذوراً لبعض الأفراد، ويشكل محذوراً لآخرين، فلا يعد الأكل في الطرقات والأماكن العامة مثلاً ذنباً أخلاقياً لبعض الأفراد، بل قد يكون حسناً ومطلوباً، لكنه يعتبر ذنباً في حق آخرين يستوجب الذم لما يمتازون من مكانة اجتماعية ودينية متميزة.

ومن الطبيعي لزوم اجتناب القدوة هذا النوع من الذنب.

 

الثالثة: الذنب في مقام المحبة:

من المعلوم أن لمقام المحبة لوازم ومقتضيات، فإذا غفل المحب عن العمل بواحدة من تلك الاقتضاءات والآداب، عدّ ذلك ذنباً كبيراً يستدعي الاستغفار واظهار الندامة، لأن المحبة الكاملة تقتضي حصر اهتمام المحب بخصوص المحبوب، فيخضع لجميع أوامره ولا يغفل عنه لحظة واحدة ويكون كل همه جلب رضاه.

 

ويختلف مقام المحبين والعاشقين لله تعالى فليسوا في رتبة واحدة متساوية، بل لهذا المقام مراتب مختلفة، ولكل مرتبة آدابها الخاصة.

 

وكل ما كانت مرتبة التقرب إلى الله تعالى أكثر، كان الذنب من صاحبها أعظم وأكبر، بل ربما عدّ الذنب في مقام المحبة الإلهية للمحبين والعاشقين أكبر بكثير من المحرمات التي يرتكبها الآخرون، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين[2].

وحتى يتم الاستدلال بالآية الشريفة على المطلوب وهو نفي العصمة المطلقة عن النبي الأكرم محمد (ص) لابد من ان يكون المقصود من الذنب في الآية هو الذنب الشرعي والقانوني، وليس في المقام ما يوجب تعينه فيه، بل ملاحظة الأدلة الدالة على ثبوت العصمة للأنبياء (ع) سواء من العقل أم النقل يصلح أن يكون قريبة لحمله على احدى المرحلتين الأخريين، المرحلة الأخلاقية أو مقام المحبة. بل هناك أيضاً ما يوجب تعينه في خصوص المرحلة الثالثة وهو ذنب مقام المحبة، بملاحظة قوله تعالى:- (وإنك لعلى خٌلٌق عظيم)[3]، حيث جعله الله سبحانه مثلاً للأخلاق، كما جعله نموذجاً للتأسي والاقتداء، فقال تعالى:- (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)[4]، فانه لا يمكن لمن جعل ليكمل الأخلاق البشرية، وتسنم القمة في مكارم الأخلاق أن يكون ناقصاً في هذا المجال.

 

إن قلت: كيف تتصور صدور ذنوب مقام المحبة من الأنبياء (ع) والتي لا تكون إلا بالانشغال عن الله تعالى، بل ربما الغفلة عنه؟

قلت: إن من لوازم الحياة المادية التي يعيش فيها الأنبياء(ع) الالتفات إلى المخلوقات، نعم قد يكون هذا الالتفات قليلاً، لكنهم لا ينفكون عنه، سيما وأن بعض تلك الالتفاتات واجبات شرعية، كالزواج وتناول الطعام وتأمين المعاش، والمعاشرة مع الناس مما أمر الله سبحانه به، ومن الطبيعي أن القيام بهذه الأمور تستدعي اهتمام المحب بغير المحبوب، ولذلك يعدّ السالكون هذا العمل بالنسبة إليهم ذنباً وتقصيراً يستغفرون منه.

ولا ريب في عدم منافاة مثل هذه الذنوب لمقام العصمة الثابت للأنبياء(ع).

 

ما تقدم من ذنب وما تأخر:

ومنها: قوله تعالى:- (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً. ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً)[5].

وقد قربت دلالتها على نفي العصمة عنه (ص) من خلال اشتمالها على التصريح بغفران ما تقدم من ذنوبه (ص) وما تأخر منها، وهو صريح في صدور الذنوب منه في ما مضى، والإخبار عن صدورها عنه في ما سيأتي من عمره، ما يعني أنه ليس معصوماً، لأن المعصوم هو الذي لا تصدر الذنوب عنه.

 

وقد عرفت عند الحديث عن الآية السابقة أن تمامية دلالتها تعتمد على أن يكون المقصود من الذنب هو الذنب القانوني والشرعي، ولا معين له في المقام، بل القرينة تساعد على خلافه.

ولو لم يقبل بما ذكرناه، أمكن منع دلالة الآية على صدور المعصية منه (ص) بقرينة قوله تعالى:- (وما تأخر)، إذ كيف يغفر له (ص) ذنب بعدُ لم يقع منه، فإن الغفران فرع تحقق الذنب والمعصية، فما لم يتحققا لا معنى للغفران، لأنه مترتب على وقوعه وتحققه.

 

وهذا يوجب حمل التعبير المذكور على خلاف ظاهره، ولهذا حمله القرطبي في تفسيره على دفع الذنب من الذات النبوية المقدسة وليس رفعه، فكما أن الله تعالى يدفع عن نبيه الكريم (ص) كل دنس ورجس بالعصمة، بعد النبوة، فإنه يدفع ذلك عنه قبل النبوة أيضاً.

 

نعم ذكر بعضهم أن المقصود من الذنب هنا ما كانت تعدّه قريش ذنباً على رسول الله (ص) من الاتهامات والافتراءات التي كانت تنسبها اليه (ص) من أنه قد أفسد دين الآباء وهوّد فتيان قريش بتغيير القبلة إلى بيت المقدس، وأحدث الفرقة في الصفوف وفتك بالصناديد وسب الآلهة وسفه الطريقة، ولأن قريش كانت تعد هذه الأمور ذنوباً فقد وجهت له (ص) اتهامات عدة، كالسحر والكذب، والكهانة.

 

وقد غفرت قريش كل هذه الذنوب لرسول الله (ص) يوم فتح مكة عندما برزت عواطفه النبيلة وظهرت نواياه الإنسانية الصالحة، فتجلت أمامهم صورة إنسان محب لقومه يطلب الخير والصلاح لهم، يرفض الحرب والدمار ويدعو للسلم.

ويساعد على هذا المعنى ملاحظة معنى الذنب لغة، فإن المستفاد من كلام الراغب الأصفهاني في المفردات أن الذنب كل فعل يجر تبعة على فاعله تستلزم أخذه به عند غيره سواء كان الفعل منكراً أم معروفاً. ومنه قوله تعالى على لسان الكليم موسى(ع):- (ولهم عليّ ذنب فأخاف أن يقتلون)، فإن ما فعله موسى(ع)، لم يكن فعلاً منكراً يدخله في معصية ربه سبحانه، وإنما هو فعل يستلزم عقوبة من فرعون وقومه.

 

ويدل عليه أيضاً ما ورد عن الإمام الرضا(ع) في جوابه للمأمون العباسي، وقد سألته عن قول الله عز وجل:- (ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر)، قال الرضا(ع): لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنباً من رسول الله(ص)، لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنماً، فلما جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا:- (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب* وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد* ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق)، فلما فتح الله عز وجل على نبيه محمد(ص) مكة، قال له يا محمد(ص) مكة قال له: يا محمد:- (إنا فتحنا لك) مكة(فتحاً مبيناً* ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر)، لأن مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم[6].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1] سورة غافر الآية رقم 55.

[2] دراسات في العصمة ص 168-170(بتصرف).

[3] سورة القلم الآية رقم 4.

[4] سورة الأحزاب الآية رقم 21.

[5] سورة الفتح الآيتان رقم 1-2.

[6] بحار الأنوار ج 17 ب ح 20 ص 89.