29 مارس,2024

فقه الصدقات(1)

اطبع المقالة اطبع المقالة

تنقسم الصدقة الواردة في الفقه الشريف من حيث الأحكام الشرعية المنطبقة عليها إلى صدقة واجبة، وصدقة مستحبة، ولكل واحدة من هذين القسمين جملة من الأحكام المتعلقة بها، وسوف نعمد للحديث عن كل واحد من هذين القسمين.

الصدقة الواجبة:

ويمكن ذكر جملة من النماذج لها، مثل الزكاة الواجبة في الغلات الأربع، والزكاة الواجبة في الأنعام، والزكاة الواجبة في النقدين، وزكاة الفطرة، والكفارات الواجبة، وفدية الصيام، فإن جميع هذه تعدّ نماذج ومصاديق للصدقة الواجبة.

أقسام الصدقة:

ثم إن الصدقة الواجبة يمكن تقسيمها بحسب دخالة المتصدق عليه وعدمه، بمعنى أنه في بعض الموارد لا ينطبق عنوان الصدقة على الواقع خارجاً إلا إذا كان المتصدق عليه موجوداً فيكون وجوده مقوماً لتحقق مفهوم الصدقة، وأخرى لا يكون وجود المتصدق عليه معتبراً، أي أنه ينطبق على المخرج أنه صدقة حتى لو لم يكن المتصدق عليه موجوداً، لأن وجوده لا مدخلية له في تحقق المفهوم. وعلى أي حال، فهنا قسمان:

الأول: أن يكون المخرج صدقة بنفسه من دون دخالة لوجود المتصدق عليه، نعم الحاجة إلى وجوده لتمليكه الصدقة أو تسليطه للانتفاع بها، يعدُّ أمراً متأخراً رتبة وزماناً عن كونه صدقة، ومن أمثلة ذلك الزكاة الواجبة على الإنسان بقسميها، سواء الزكاة التي جعلها الله سبحانه وتعالى في الأمور التسعة في النصاب المملوك، أم زكاة الفطرة التي جعلها الله تعالى في ذمة المكلف، فإنهما متعينان بنفسيهما، كما يمكن تعينهما بالعزل خارجاً قبل أخذ المستحق لهما.
الثاني: أن يكون المخرج صدقة بإضافته إلى المتصدق عليه، وجعله له، من باب الهبة، مثل الكفارات، وفدية الصيام المجعولة للفقير.

الصدقة عقد أم إيقاع:

ومن الأمور المعتبر معرفتها عند الحديث عن الأحكام المتعلقة بالصدقة الواجبة، مسألة تحديد أنها عقد أم إيقاع، وذلك لوجود الاختلاف بين هاتين الحقيقتين، ذلك أنه متى قلنا أنها عقد فذلك يعني توقف صحتها على الإيجاب والقبول، لأن العقد يتقوم بذلك. بينما لو قلنا أنها إيقاع، فذلك يعني عدم حاجتها للقبول، لأن الإيقاع لا يعتبر فيه القبول.

ثم إنه لو بنى على أنها عقد، فهل يعتبر فيه اللفظ، أم أنه تجري فيه المعاطاة كبقية العقود الأخرى ما عدا عقد النكاح كما قرر ذلك الفقهاء(رض).
هذا والمشهور بين علمائنا أن الصدقة عقد، وهذا يعني أنه لابد في تحققها خارجاً من إيجاب وقبول، وبالتالي ما لم يتحقق القبول من قبل الآخذ فلا ينطبق على هذا المال المدفوع أنه صدقة.

إلا أن الظاهر أن في البين تفصيلاً بين القسمين السابقين الذين ذكرناهما للصدقة، بمعنى أنه لو كانت الصدقة الواجبة من القسم الأول، كالزكاة الواجبة في الأصناف التسعة، أو كانت الصدقة زكاة فطرة، فلا ريب في أنها إيقاع، وليست عقداً لأنها من صغريات البذل مثل بذل النفقة الواجبة على الزوج للزوجة، فإنها إيقاع كذلك.

أما لو كانت الصدقة الواجبة من القسم الثاني، كما في الكفارات أو فدية الصيام، فالظاهر أنها عقد، وليست إيقاعاً، لأنه لا يكتفى فيها بمجرد الإخراج، بل لابد من أخذ الفقير لما أعطي من الكفارة، أو الفدية، وهذا يعني تقوم الأمر بالطرفين، المتصدق، وهو دافع الكفارة، أو الفدية، والمتصدق عليه، وهو الفقير.

الصدقة عبادة:

لما كانت الصدقة الواجبة من العبادات فذلك يعني أنه يعتبر فيها ما يعتبر في العبادات، من قصد القربة، وهذا يعني أن الصدقة متقومة به، فلو لم يقصد المتصدق القربة لله سبحانه وتعالى، فلن يكون تصدقه صحيحاً.
س: بناءً على أنه يعتبر في الصدقة الواجبة قصد القربة، فهل يعني ذلك أنه لو قصد بها الرياء، أوجب ذلك بطلانها؟…
ج: إن مقتضى أن الصدقة الواجبة من العبادات التي يعتبر فيها قصد القربة، فذلك يعني أن المتصدق لو نوى بصدقته الرياء، فلا ريب أنه يوجب بطلانها.

س: بناءاً على أنه يعتبر في الصدقة قصد القربة، ولم يحقق المتصدق ذلك، وعلم المتصدق عليه أنه قد تصدق رياءاً فهل يجوز له التصرف فيما أعطي من الصدقة؟…
ج: هنا احتمالان:
الأول: أن يكون المقام من باب وحدة المطلوب، بمعنى أن التصرف فيما يعطاه من الصدقة والإذن في التصرف فيها مشروط بكونه متقرباً به لله سبحانه وتعالى، فهنا لا يجوز للآخذ التصرف في ما أعطي من الصدقة.
الثاني: أن يكون المقام من باب تعدد المطلوب، بمعنى أن المطلوب أمران، ويكون قصد القربة منحصر في خصوص الإذن في التصرف فقط، فلا إشكال في جواز التصرف.

س: على كلا الاحتمالين السابقين، لو أن الآخذ تصرف فيما أخذه صدقة سواء كان قصد القربة من باب تعدد المطلوب، أم كان قصدها من باب وحدة المطلوب، فهل يكون الآخذ ضامناً للصدقة المأخوذة؟…
ج: الظاهر أنه يكون ضامناً لما أخذه، لأنه مقتضى قاعدة على اليد ما أخذت حتى تؤدي، نعم قد يتمسك البعض بقاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده، لكنه لا مجرى لها في المقام حسب الظاهر.

س: إذا لم يعلم المتصدق عليه أن المتصدق أخرج صدقته قاصداً التقرب لله سبحانه وتعالى، أم كانت قصده الرياء، فما هي وظيفته في هذه الحالة؟…
ج: لا يجب عليه أن يسأل عن قصد المتصدق، بل عليه أن يبني على صحة الصدقة اعتماداً على قاعدة الصحة في فعل المسلم.

 ولكي نوضح المسألة بصورة أكثر، نضرب لذلك مثالاً:

كثير من الناس يعمد إلى دفع الصدقة من خلال صناديق التبرعات التي توزعها الجمعيات الخيرية، أو بعض المؤسسات الخيرية، أو تنصب في المساجد، فيأتي المؤمن ويعمد لوضع مبلغ من المال على أنه صدقة، مثلاً ليلة الجمعة، أو يوم الجمعة رغبة في ثواب صدقة يوم الجمعة، لكنه لا يحرز أن المتصدق عليه قبل بالصدقة المدفوعة له أم لا، فهنا لما كانت الصدقة عقداً متقومة بالقبول والإيجاب، لا ينطبق على المال المدفوع أنه صدقة لأنه لم يقبل المتصدق عليه بهذه الصدقة، وبالتالي لا يحوز المتصدق ثواب الصدقة.

لكن المسألة المذكورة ليست محط قبول وموافقة عند أعلامنا اليوم، حيث يلتـزم أعلامنا اليوم بالتفصيل في الصدقة بحسب القصد المخرجة به، ففي بعض الموارد تكون الصدقة عقداً تحتاج إلى إيجاب وقبول، وفي موارد أخرى لا تكون كذلك، وحتى يتضح الأمر بصورة أوضح نشير إلى أن الصيغ التي يتصور إعطاء الصدقة من خلالها أربع:

الأولى: أن يكون دفع الصدقة للمتصدق عليه بنحو الهبة، بمعنى أن المعطي يهب المعطى المال.
الثانية: أن يكون المال المدفوع من قبل المعطي للمعطى على نحو الوقف.
الثالثة: أن يكون المال المدفوع من قبل المعطي للمعطى بنحو البذل.
الرابعة: أن يكون المال المدفوع للمعطى من قبل المعطي بنحو الإبراء.

أما في الصورة الأولى والثانية، فلما كانت الهبة والوقف عقدين فلابد فيهما من إيجاب وقبول، وهذا يعني أن المدفوع له ما لم يقبل بما دفع له هبة مثلاً لا يكون المدفوع صدقة.
وهذا بخلافه في الصورتين الثالثة والرابعة، فإنهما إيقاع وليسا عقداً، فلا يعتبر فيهما القبول، بل يكفي فيهما البذل من الباذل، أو الإبراء لذمة المعطى صدقة من قبل المعطي، ليتحقق المطلوب، فلو كانت ذمة زيد مشغولة بمائة ريال مثلاً لعمر، فأبرأ عمر ذمة زيد من المائة ريال المشغولة ذمتها بها قاصداً أن المائة المذكورة صدقة منه على زيد، لم يحتج في هذا الإبراء المعدود صدقة إلى قبول من زيد.

 لقد حثت النصوص الشريفة المتواترة على الصدقة وندبت إليها، وأشارت إلى آثارها الوضعية في الدنيا والآخرة، وأكدت النصوص الشريفة عليها في أوقات مخصوصة كيوم الجمعة وشهر رمضان ويوم عرفة، كما ركزت على حسنها خصوصاً على طوائف مخصوصة، كالجيران، والأرحام.

وقد تضمنت النصوص الإشارة لبعض آثارها الوضعية في الدنيا، مثل كونها شفاء المريض، ودافعة البلاء، وقد أبرم إبراماً، وبها يستـنزل الرزق، ويقضى الدين، وتخلف البركة، ويزيد المال، وتدفع بها ميتة السوء، والداء والحرق، والغرق، والهدم، والجنون، وقد عدّ رسول الله(ص) سبعين باباً من السوء تغلق بها.
كما أن الإنسان يدفع عن نفسه البلايا  والشرور في كل يوم بصدقته في أوله، فقد ورد عن أبي عبد الله(ع) أنه قال: باكروا بالصدقة فإن البلايا لا تتخطاها، ومن تصدق أول الليل دفع الله عنه شر ما ينـزل من السماء في تلك الليلة[1].

ولا ينبغي للمؤمن أن يستقل المدفوع صدقة ليمنعه ذلك عن أدائها، فقد ورد عن في الخبر: تصدقوا ولو بقبضة أو ببعض قبضة، ولو بشقة تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة، ولا يستكثر كثيرها فإنها تجارة رابحة.

بعد هذا التقديم، نوقع الحديث حول جملة من حكام الصدقة.

 

[1] وسائل الشيعة ب 8 من أبواب الصدقة ح 5.