- موقع سماحة العلامة الشيخ محمد العبيدان القطيفي - https://www.alobaidan.org -

تفسير سورة الفاتحة- معنى البسملة:

من الواضح أن البسملة من الأمور التي تختص بالمسلمين بحيث تعدّ إحدى الشعارات التي يمتازون بها على غيرهم، فتراهم يستفتحون بها أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم.

ولا يخفى أن البسملة تعدّ من أبرز الأذكار التي يمكن للإنسان أن يتواصل بها مع الله سبحانه وتعالى في مقام تأكيد الارتباط وتأكيد العلاقة.

ومن المعلوم كما ذكر أن لتلاوة البسملة مجموعة من الآثار في النفوس الإنسانية، كما أنها عدة آثار في جنبة التزكية، وإبعاد الشيطان عن الإنسان.

ولكي نتمكن من الإحاطة بمعنى الآية الشريفة، نحتاج إلى بيان المفردات التي وردت فيها بحسب ما جاء في كلمات اللغويـين.

الباء:

ذكرت في الباء الواردة في قوله تعالى:- (بسم) عدة احتمالات:

الأول: أن الباء هنا للملابسة والمصاحبة، بمعنى أن كل ما يصدر من الإنسان من عمل يكون مصاحباً ملابساً لسم الله الرحمن الرحيم.

الثاني: أن تكون الباء هنا للإلصاق، بمعنى أن جميع العلوم الواردة في الكتب السماوية قد تضمنها القرآن الكريم، وعلوم القرآن مندرجة في الفاتحة، وعلى هذا يكون المعنى أن المقصود من كل العلوم هو وصول العبد إلى ربه.

الثالث: أن تكون الباء للاستعانة، أي استعين بسم الله الرحمن الرحيم، في كل أمر من الأمور أقدم عليه، من كتابة أو قراءة أو حركة أو ما شابه ذلك.

وهذا الاحتمال الأخير هو الذي أختاره السيد السبزواي(قده) في تفسيره، ووجه ذلك: بأن الإنسان محتاج بذاته، وكل محتاج مطلق يحتاج أن يستعين في جميع شؤونه بالغني المطلق الذي هو الله سبحانه وتعالى[1].

والتفسير الثالث للباء، يستفاد أيضاً من ما ورد عن أمير المؤمنين(ع): بسم الله، أي استعين على أموري كلها بالله.

الاسم:

أصله من السمو، ويراد منه التسمية، وهو يشير إلى وضع اسم لمسمى، وفي ذلك تنويه إلى رفعة المسمى من حضيض الخفاء والمجهولية، إلى منـزلة الظهور والوضوح.

وقد ذكر أنه مشتق من الوسم والسمة، وهو بمعنى العلامة.

الله:

من الأعلام المعروفة منذ القديم حتى في عصر الجاهلية، وعلم للذات المقدسة واجب الوجود المستجمع لكافة صفات الكمال، وهو أجل لفظ في الممكنات كلها، لأعظم معنى في الموجودات جميعها.

وهذا اللفظ هو الجامع للأسماء الحسنى التسعة والتسعين، التي أحصاها دخل الجنة، ومن المعلوم أن الأسماء الحسنى تنطوي في لفظ الجلالة[2].

الرحمن:

صيغة مبالغة من رحم، كغضبان من غضب، ومن الواضح أن المبالغة في كل شيء تعود لوجود نكتة تستدعي ثبوت المبالغة، ولذا قالوا: أن المبالغة في لفظة(الرحمن) تشير إلى جانب السعة والشمول.

فالرحمن من الرحمة، وهي ضد القسوة، وقد عُرفت كما في مفردات الراغب[3]: بأنها رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم. وهي تستعمل على نحوين:

الأول: في الرقة المجردة عن الإحسان.

الثاني: في الإحسان المجرد عن الرقة.

ولا يخفى أن استعمالها في الباري سبحانه وتعالى، لا يتناسب مع النحو الأول، وعليه يكون استعمالها فيه، من النحو الثاني.

هذا ومنشأ رفضنا للنحو الأول في حق الباري سبحانه وتعالى، لكونه يمثل حالة من الشعور الوجداني والنفسي والقلبي الذي يحاول من خلاله الشاعر السعي لسد النقص عند الآخرين. وهذا لا يستقيم في حقه سبحانه لأنه:- ( ليس كمثله شيء)[4].

وعلى هذا يمكننا القول بأن الرحمة عند الله سبحانه وتعالى عبارة عن فيض يفيضه لسدّ حاجات ونواقص الموجودات التي بحسب ذاتها تكون فقيرة ومحتاجة إلى الكامل المطلق.

وبناءاً على هذا سوف تكون الرحمة صفة من الصفات الفعلية للذات المقدسة، كالخلق والرزق، يوجدها حيث يشاء.

وتعدّ كلمة (الرحمن) بمنـزلة اللقب لله سبحانه وتعالى، فلا تطلق على غيره، لأن معناها الحقيقي الأصلي: هو البالغ في الرحمة غايتها. وهذا المعنى لا يصدق في حق أحد غير الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن غيره وإن فرض كونه راحماً، إلا أن رحمته لن تكون بالغة حدّ الغاية، لأن جميع الموجودات ما عدا الله سبحانه وتعالى ناقصة، يحتاج إلى أفاضة الرحمة عليه أولاً من الله سبحانه، ثم يعطي شيئاً مما يفاض عليه من قبل الله. وعلى هذا لو أطلق هذا اللفظ على غير الله سبحانه وتعالى هذا الإطلاق مجاز، وليس حقيقة.

هذا وهناك احتمالان في معنى سعة رحمته سبحانه وتعالى:

أولهما: أن السعة بلحاظ شمولها للمؤمن والكافر، بحيث لا يكون في هذه الرحمة اختصاص بالمؤمن دون غيره.

ثانيهما: أن سعة رحمته سبحانه وتعالى بلحاظ شمولها للدنيا والآخرة، فهي غير مختصة بعالم الدنيا، بل تشمل عالم الآخرة أيضاً. وإلى هذا المعنى يشير الإمام الحسين(ع) في دعاء عرفة: يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيمهما.

وكلا هذين المحتملين يستفادان من الآيات القرآنية، قال تعالى:- (الرحمن على العرش استوى)[5]، وقال سبحانه:- (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً)[6].

ثم إن ذكر لفظة(الرحمن) بعد اسم الجلالة في البسملة هنا، وفي موارد أخرى في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى:- (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن)[7]، يشير إلى أهمية خاصة لهذا الاسم، لكونه من أمهات الأسماء، كالحي والرب والقيوم والرحيم، وإلى الأربعة الأُول ترجع سائر أسمائه سبحانه وتعالى.

ويشهد لما ذكرنا من الاهتمام وعظيم المنـزلة لهذا الاسم، ملاحظة موارد استعمالاته في القرآن الكريم، إذ يجد المتأمل أنه قد قرن في الاستعمال دائماً بالتعظيم والتجليل، سواء بالنسبة إلى عالم الدنيا، أم بالنسبة إلى عالم الآخرة[8].

بقي شيء:

لا يخفى على أحد أن الشرّ يقال له شيء، مثله مثل بقية الأشياء، وقد أتضح من خلال ما تقدم أن رحمته سبحانه وتعالى شاملة لكل شيء، فهذا يعني أن الشرّ من رحمته، وعليه سوف يكون الشر موجوداً منه سبحانه وتعالى، فكيف يمكننا تصور ذلك، خصوصاً وأن الشر من الأمور القبيحة؟…وهناك عدة اجابات عن إشكال خلق الشرور من قبل الله سبحانه وتعالى، وعن هذا الإشكال بالخصوص من كونه مشمولاً لرحمته الواسعة، ونقتصر هنا على الإجابة التالية:

إن الشر إما أن يكون شراً مطلقاً، وإما أن يكون شراً نسبياً.

ونعني بالشر المطلق هو: الذي لا يشتمل على أي صفة إيجابية أصلاً.

وأما الشر النسبي: فهو الذي يكون شراً بالإضافة إلى شيء، ويكون خيراً بالإضافة إلى شيء آخر.

أما بالنسبة إلى الشر المطلق، فالظاهر أن وجود مصداق له في الخارج يمثله أمر نادر، بل يكاد أن يكون معدوماً، لأن الغالب أن الموجود خارجاً هو الأشياء التي يمكن اتصافها بكونها خيراً، وبكونها شراً، بمعنى أنها مركبة من صيغة إيجابية وسلبية، فإذا غلبت فيها الصفات الإيجابية، سميت خيراً، أما لو غلبت فيها الصفات السلبية فإنها تسمى شراً.

فإذاً ينحصر الأمر في خصوص الشرور النسبية، ولا يخفى أن الشرور النسبية بمقتضى تعريفها ليست شروراً بقول مطلق، بل هي شرور بلحاظ أفراد، وخيراتٌ بلحاظ أفراد أخر، وهذا يستوجب وجودها في الخارج، لأنها طريق للتكامل المراد في المجتمع، ولتوضيح هذا البحث أكثر مجاله الذي يطلب منه، فلنكتفي بهذا المقدار.

الرحيم:

يحتمل فيها أن تكون صيغة مبالغة ككلمة(الرحمن) كما يحتمل فيها أن تكون صفة مشبهة. وهو مشتق من مادة الرحمة، كلفظة الرحمن، فهما يشتركان في أصل مادة الاشتقاق، كما أنها يشتركان في كونهما صيغة مبالغة-كما هو أحد الاحتمالين في كلمة(الرحيم)-

وقد أوجب الاشتراك بينهما مقالة بعضهم أنهما بمعنى واحد، فلا فرق في المعنى المراد من كلمة(الرحمن) والمعنى المراد من كلمة(الرحيم) فمعناهما واحد، وما تدل عليه الأولى هو ما تدل عليه الثانية من دون فرق بينهما.

وهذا يستدعي أن تكون كلمة(الرحيم) ليست إلا تكراراً لكلمة(الرحمن) لكن بنوع تفنن في التعبير ليس إلا.

وفي مقابل هذا القول، ذهب جملة من المفسرين إلى الالتـزام بالمغايرة بين اللفظتين، وأن كل واحدة منهما تشير إلى معنى يغاير ما تشير له الأخرى، وإن اشتركا في مادة الاشتقاق، وكانتا معاً صيغة مبالغة.

وقد ذكروا في بيان الفرق بينهما، أن كلمة(الرحمن) كما عرفت معناها تفيد السعة والشمول في الرحمة، بينما كلمة الرحيم، فإنها لا تفيد ذلك.

وبعبارة ثانية، إن كلمة الرحمن لا تختص بفرد دون فرد، بل تشمل المحسن والمسيئ، والصالح وغير الصالح، والمؤمن والكافر، أما كلمة الرحيم، فإنها تشير إلى رحمة مختصة بفئة خاصة من الناس دون غيرهم، فلا شمولية فيها لجميع الأطراف، بل هي مختصة بالمؤمنين فقط دون غيرهم. ويؤيد هذا ما روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: والله إله كل شيء الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصة.

أقسام الرحمة الإلهية:

من خلال ما سبق بيانه في معنى كلمتي(الرحمن والرحيم) يتضح أن لرحمته الله سبحانه وتعالى قسمين، وهما: الرحمة الرحمانية، والرحمة الرحيمية.

فالرحمة الرحمانية لا تختص بشيء دون شيء، وبحال دون حال، وبجهة دون جهة. فهي عبارة عن إفاضة الوجود على الأشياء وإبقائها وإكمالها بالكمالات اللائقة بفطرتها. ومن الواضح أن هذا أمر عام لجميع الأشياء، دنيوية أم أخروية.

أما الرحمة الرحيمية، فإنها إفاضة الكمالات الاختيارية المرضية على فئة خاصة مختارة من الأنس، والجن.

وعليه يتضح ما تقدمت الإشارة له من أن الرحمة الرحيمية، خاصة بالمؤمنين، دون الرحمة الرحمانية، فإنها عامة شاملة لكل أحد من دون فرق بينهم.

التفسير:

من المعلوم الواضح أن القرآن الكريم أنزله الله سبحانه وتعالى كتابة هداية وبيان للبشرية، وهذا يناسب أن يكون أول ما يبدأ به في مقام التخاطب مع من أنزل القرآن لهم، البدء باسمه سبحانه وتعالى، لما في ذلك من الإشارة إلى ذاته المقدسة ووجودها. مع الإشارة إلى أنه تعالى يتصف بوصفين أساسين، وهما صفتا الرحمة الخاصة والرحمة العامة، وهما الرحمة الرحمانية، والرحمة الرحيمية، وسيأتي الحديث عن ذلك بشكل مفصل في الآيات القادمة إن شاء الله.

إشكال ودفع[9]:

من المسلمات عند المسلمين، أن القرآن الكريم الذي هو معجزة نبينا محمد(ص) الخالدة، لا يجارى من قبل أحد فيما هو عليه من البلاغة والفصاحة والبيان، حتى أنه نزل على أعظم البلغاء والأدباء وأهل الفصاحة، وتحداهم بتحديات متعددة أن يأتوا بسورة أو أقل من ذلك، وقد عجزوا عن مجاراته. بل لمّا سمعه هؤلاء وهم أهل الشعر والأدب، أقروا بأنه فوق كلام المخلوقين، وما هو بشعر ولا نثر.

كما أن من المعلوم عند أهل البيان أن التكرار من الأمور التي توجب خللاً في الفصاحة والبلاغة، وهذا يستوجب حصول سؤال يثار في الأذهان، وهو:

لا ريب في بلاغة القرآن وفصاحته، وقد ثبت من خلال ما تقدم أن البسملة آية من آياته الشريفة، وقد تكررت الآية المباركة في القرآن الكريم في موارد عدة، إذ أنها آية من كل سورة من سوره ما عدا براءة، وتكررت مرتين في سورة النمل، وقد عرفت ما يوجب التكرار في الكلام في البليغ والفصيح، فكيف يمكننا علاج هذا الإشكال والجواب عنه؟…

والجواب عن ذلك بذكر سببين للالتزام بالتكرار، وهما:

الأول: أن البسملة تمثل خلقاً إسلامياً:

فإن المستفاد من النصوص التي تعرضت للحديث عنها وبيان مدى أهميتها، التركيز على أن الابتداء بها في كل عمل يقوم به الإنسان يمثل نوع ارتباط بينه وبين خالقه، مما يكشف عن كون هذا العمل يبرز بعداً أدبياً في التربية الإسلامية والخلق الديني.

ولا يخفى أن قراءة القرآن الكريم يعدّ أمراً من الأمور المهمة، وعملاً من الأعمال التي يقوم الإنسان بأدائها، فعلى هذا ينبغي منه الابتداء فيه بالبسملة، كما يـبتدأ بها في غيره من الأعمال.

وبالجملة، إن الغاية من تكرارها هو العمد إلى تأديب الفرد المسلم على البدء في كل عمل من الأعمال يقدم على القيام فيه بالابتداء فيه بالتسمية.

وربما يغفل البعض فيظن أن هذا يفيد عدم ثقة الإنسان بنفسه، فلا يكون له أدنى فاعلية أو وجود فكري، فهو لا يملك إرادة، ولا سيطرة له على حركة، ولا قدرة له على تحديد مصيره. بل هو ملزم بأن يبدأ في كل عمل يصدر منه بالله سبحانه وتعالى من دون إعمال فك، أو إيجاد ثقة منه بالنفس، لأن الإتيان بالبسملة يمثل سبباً كافياً لتمامية كل أمر.

ونحن وإن كنا نؤكد على أهمية الابتداء بالبسملة في كل عمل يصدر من الإنسان، وأنه طريق لإكماله وتحقيقه، لكننا نرفض مثل هذه الفكرة التي تسلب الإنسان عنصر الثقة بنفسه. لأن الاستعانة بالله سبحانه وتعالى من خلال ذكر البسملة لا تعني سلب الثقة والإرادة من الإنسان، بل إنها تفيد اتصال الإنسان بمصدر القوة الأساس في وجوده من ناحية المبدأ والتفاصيل. فالارتباط بالله سبحانه وتعالى يعطي الإنسان القدرة على الثقة بالنفس، لا أنه يسلبها منه.

الثاني: البسملة شعار إسلامي:

فأراد الله سبحانه وتعالى من تكرارها في جميع السور القرآنية عدا ما استـثني، أن يتميز المسلمون دون من سواهم بهذا الشعار، ويعرفون بهم، لأنها تكون مَعْلَماً من المعالم. وتؤيد هذا السبب مجموعة من المؤيدات:

منها: النصوص التي تضمنت الحث على الجهر بالبسملة واستحباب ذلك حتى في الصلوات الاخفاتية.

ومنها: دراسة الواقع الخارجي المعاش للمسلمين، فإنها تشرف الباحث على أن البسملة تمثل جزءاً لا يتجزأ من حياتهم، يكررونها في كافة شؤونهم وأمور حياتهم، بل يتميزون بها عن الآخرين عند عدم المعرفة.

——————————————————————————–

[1] مواهب الرحمن ج 1 ص 11.

[2] مواهب الرحمن ج 1 ص 17.

[3] مفردات ألفاظ القرآن ص 196، مادة رحم.

[4] سورة الشورى الآية رقم 11.

[5] سورة طه الآية رقم 5.

[6] سورة مريم الآية رقم 75.

[7] سورة الإسراء الآية رقم 110.

[8] مواهب الرحمن ج 1 ص 20.

[9] تفسير سورة الحمد ص 167.