- موقع سماحة العلامة الشيخ محمد العبيدان القطيفي - https://www.alobaidan.org -

الضيافة الإلهية

قال النبي الأكرم محمد(ص): هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله.

مدخل:

لا يخفى أن هذا المقطع هو أحد المقاطع التي وردت في خطبة النبي(ص) في أصحابه في استقبال شهر رمضان المبارك.

وقد أشار (ص) إلى أنه في هذا الشهر يدعى المؤمنون إلى ضيافة الله سبحانه وتعالى.

ومن الواضح أن هذا يوجب تساؤلاً، مؤداه: ما معنى ضيافة الله سبحانه؟… إن الضيافة تعني وجود ضيف ومضيّف، ومائدة ضيافة، هذا هو المعنى المتبادر والمتصور في معنى الضيافة.

مضافاً إلى أن قوام الضيافة إنما هو بما يقدمه المضيف من طعام وشراب مختلفة الأنواع للضيف.

فهل أن ضيافة الله سبحانه وتعالى من هذا النوع، بمعنى أن هناك ضيفاً، ومضيّفاً، ومائدة ضيافة؟…أم أن ضيافة الله تعالى من نوع آخر تغاير النوع المألوف والمتعارف عندنا.

هذا وقبل بيان معنى ضيافة الله تعالى والقيام بالإجابة على التساؤل السابق، ينبغي الإشارة إلى أن هذه الضيافة تعدّ خاصية من الخصائص التي يختص بها شهر رمضان، وميزة يمتاز بها على بقية الشهور، وكذا شهر الحج وموسمه.

ضيافة الله:

هذا ولكي نتمكن من الإجابة على التساؤل حول الضيافة الإلهية وكيفيتها، لابد من الإشارة إلى تمهيد:

لا يخفى أن الإنسان مخلوق ذو بعدين وعنصرين، وهما:

الأول: العنصر المادي، وهو عبارة عن الجسم الخارجي المتمثل في الهيكل البدني له، وهذا هو الجانب الحيواني في الإنسان، ولا نعني بالجسم هذا الهيكل الخارجي بما هو، بل بما هو مجموعة من الغرائز والميول.

الثاني: العنصر الروحاني، وهو عبارة عن الروح، ويعدّ هذا البعد الجانب الملكوتي في الإنسان.

وكل من هذين العنصرين بحاجة إلى ما يقوّم وجوده وبقائه، كما أن لكل واحد منهما لذاته الخاصة به. فالجانب الملكوتي، أو الروحاني للإنسان له لذات، يعبر عنها باللذات الروحية، كلذة العبادة، ولذة مساعدة الآخرين، وغير ذلك من الأعمال الخيّرة. بل هو يلتذ أيضاً متى حصل على معرفة حقيقية، أو حصل علماً.

كما أن العنصر الحيواني له مجموعة من اللذات، فغريزة البطن، وكذا غريزة الفرج، كل واحدة منهما لها لذاتها الخاصة التي تسعى إلى إشباعها.

وعلى أي حال، فهذان العنصران يسيران مع بعضهما البعض دائماً، ودائماً ما يسعى البعد المادي الحيواني للسيطرة على البعد الملكوتي، وتسخيره له بجعله بعيداً عن حقيقته، ومحاولة تضيـيع هويته.

هذا وقد اهتم الشارع المقدس بإشباع كلا العنصرين الموجودين في الإنسان، من دون فرق بينهما، فكما اهتم بإشباع البعد الملكوتي الروحاني، كذا أيضاً عمد إلى إشباع وإرضاء الغرائز والميول الموجودة في الإنسان، وبالتالي إشباع البعد الحيواني عنده. وهذا المعنى يتضح جلياً في سيرة رسول الله(ص) عندما منع بعض شباب المدينة الذين خافوا نتيجة نزول آية عذاب، واعتـزلوا الناس، أن يعتزلوا الناس، وقد نذر كل واحد منهم نذراً، فنذر الأول أن لا يأكل طعاماً طيـباً، ونذر الثاني أن لا يتـزوج أبداً، ونذر الثالث أن لا يعيش مع الناس أبداً.

ولا يخفى أن العنصر الأول من هذين العنصرين، يحتاج لمحافظته على البقاء في هذا العالم إلى الغذاء المادي كي ما يتسنى له البقاء وتستمر به الحياة.

وهذا يعني أن قوام بقائه واستمراره في هذه الدنيا رهين تناوله لهذه الأطعمة المادية، فلولا حصول الغذاء المادي لهذا الجسد، لن يتسنى له الاستمرار في عالم الحياة والبقاء في عالم الوجود.

ومن الواضح أن الضيافة الإلهية المعنية في الخطبة المباركة، غير منطبقة على البعد المادي للإنسان، ضرورة أن الإنسان بهذا البعد في ضيافة الله سبحانه وتعالى دائماً، مثله مثل بقية المخلوقات التي تكون في ضيافة الباري سبحانه وتعالى دائماً وأبداً من دون استـثناء بين المؤمن منهم والكافر. إذ أن الإنسان على سبيل المثال يعيش في هذا العالم، وكل ما فيه من نعم عطاء إلهي، فهو ضيف على الله سبحانه وتعالى، يأكل من عطائه وكرمه، فلا معنى لأن يقول(ص) أنكم ضيوف على الله، لأن الإنسان متى انقطع عطاء الله عنه، حتى يستضيفه فيكرمه بضيافته.

هذا وقد ورد في الحديث النبوي الشريف: لو أن الدنيا كانت تعدل عند الله عز وجل جناح بعوضة ما سقى الكافر والفاجر منها شربة من ماء.

ومع رفض العنصر الأول من عنصري وجود الإنسان يتعين العنصر الثاني منهما بمقتضى القسمة الحاصرة، لأن الأمر يدور بين هذين الأمرين ولا ثالث لهما، فمتى تم رفض العنصر الأول يتعين حينئذٍ العنصر الثاني من دون تردد أصلاً.

وعلى هذا فسوف تكون الضيافة الإلهية موجهة للروح وليست للجسد، فيكون المدعو هو البعد الروحاني، وليس البعد المادي.

ضيافة الروح:

لكن كيف تكون ضيافة الروح، هل هي ضيافة مادية بمعنى أنه سوف يقدم لها الطعام كما أنه يقدم للجسد، أم أن ضيافتها ضيافة من نوع خاص؟…

قد عرفت من خلال ما قدمناه أن الروح أيضاً بحاجة إلى الإشباع، كما أنه قد أتضح مما سبق أن الإشباع المتصور في حق الروح ليس من الإشباع المادي، وبالتالي لن تكون ضيافة الروح بنفس النحو الذي تكون فيه ضيافة الجسد، وإنما هي ضيافة من نوع خاص.

وقد نلحظ هذا المعنى-أعني الغذاء الروحي-في قوله تعالى:- ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات)[1]، فإن المتصور بدواً من قوله تعالى:- ( إن الحسنات يذهبن السيئات) هو أن أداء الصلاة الذي يمثل الحسنة، سوف يكون سبباً من الأسباب الداعية إلى أنحاء السيئة عن الإنسان. وهذا المعنى وإن كان حسناً في نفسه.

لكن لعل المعنى المراد من الآية شيئاً آخر، وهو: إن أداء الصلاة سوف يكون سبباً لإزالة الصدأ الذي تراكم على قلب الإنسان بحيث منعه من القرب من الله سبحانه وتعالى.

وهذا يعني أن المكلف يمكنه من خلال أدائه للصلاة أن يتغذى روحياً، ذلك لأن الصلاة سوف تنشط الروح وتغذيها من خلال إزالة جميع الحواجز والحواجب المانعة إياها.

وأما في النصوص المباركة فالمضامين كثيرة، وبصور مختلفة ومتعددة، فتارة الإشارة إلى ترويح القلوب، وأخرى الإشارة إلى أنها تصدأ، وما شابه ذلك.

إذا عرفت هذا أتضح لديك معنى ضيافة الروح، إذ أنه سوف يكون المراد حينئذٍ هو ضيافتها بما يوجب تغذيتها، ويرفع من شأنها ومكانتها، ويوجب لها سمواً وعلواً.

ولا يكون ذلك إلا من خلال الارتباط بالباري سبحانه وتعالى، وعشق المكلف إياه وسعيه إلى التعلق بالسماء، وهذا المعنى واضح جداً خلال أيام شهر رمضان المبارك، لكون هذا الشهر الشريف هو شهر الدعاء، وشهر العبادة، وهو ربيع القرآن، فالإنسان في هذا الشهر يجدد العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، ويعود إلى الغاية التي خلق الإنسان من أجلها وهي العبادة، فيعمد إلى تغذية الروح غذاء كاملاً يكفل لها النشاط والاستمرار طيلة السنة.

إذاً الدعوة الموجهة للإنسان في شهر رمضان هي في الحقيقة دعوة إلى الجنة، وهذا يستدعي أن تكون الأطعمة المقدمة في هذه الضيافة أطعمة متناسبة مع أطعمة الجنة.

مقومات الدعوة للضيافة الإلهية:

هذا ولا يخفى أن الضيافة الإلهية لن تكون حاصلة لكل أحد، وإنما هي عطية إلهية تقدم لخصوص أفراد معينين، وهذا يعني أنه لابد من توفر أسباب ودواعي ومقدمات حتى يتسنى للإنسان أن يحصل على بطاقة الدعوة ليكون أحد أعضاء الضيافة الإلهية، وينال ذلك الشرف بكونه متواجداً على مائدة تلك الضيافة.

فما هي تلك الأسباب والوسائل التي ينبغي على الإنسان تحصيلها كي ما يتسنى له التواجد في مائدة الضيافة الإلهية؟…

المستفاد من النصوص المعصومية أن هناك ثلاثة أمور لابد من تحصيلها حتى يتسنى للإنسان تحصيل تلك الدعوة، والأمور الثلاثة هي:

صيام ثلاثة أيام من آخر شعبان:

وقد وردت بعض النصوص تشير إلى فضل صيام آخر ثلاثة أيام من شهر شعبان، وما لصائمها من الثواب، فقد ورد عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: من صام ثلاثة أيام من آخر شعبان ووصلها بشهر رمضان، كتب الله له صوم شهرين متـتابعين[2].

هذا وقد يقال أن صيام هذه الأيام الثلاثة بمثابة الإعداد لصيام شهر رمضان، ومحاولة تهيأ الإنسان نفسه للقيام بمسؤولية شهر الله سبحانه.

إصلاح الطعام:

لا يخفى أن الطعام والشراب اللذان يتم تناولهما من قبل الصائمين، هما قوام عملية الصيام وروحها.

وهذا يعني أن لهما دوراً أساسياً في تحصيل الغرض من الصوم وانتفاع الصائم به من حيث ما يتركه عليه من آثار ايجابية، فمتى كان الطعام والشراب من الحلال، ومتى كان تناولهما باعتدال دونما سرف أو ترف، ومتى كانت غاية الإنسان من تناولهما هو تحصيل التقوي على العبادة، وليست إشباع شهوة البطن فقط، كان الصيام محققاً للأبعاد التربوية المرجوة والتي تعدّ إحدى الآثار المعنوية التي يرجى حصولها منه.

أنوع أطعمة الصائمين:

هذا ولكي يتضح المعنى الذي ذكرناه نشير إلى أنوع الأطعمة التي يتناولها الصائمون سواء على مائدة الإفطار أم على مائدة السحور، فنقول:

ينقسم الصائمون من جهة الطعام والشراب إلى ثلاثة أقسام:

الأول: من يكون مأكله ومشربه من الحرام المعلوم، وهو كمن حج بيت الله الحرام في رداء وإزار مغصوب.

ومصاديق هذا كثيرة جداً، فمن كانت أمواله من الربا، أو كانت أمواله من المغتصب أو المسروق، أو كانت أمواله مما تعلق به الحق الشرعي، فإن جميع هذا يدخل في دائرة الحرام المعلوم.

هذا وإن حال هذا الإنسان الذي يكون طعامه الحرام مما يدعو للشفقة والرحمة، لأن بعض النصوص تشير إلى أنه إذا كان يوم القيامة تبرأ منه زوجته وأولاده الذين كان يشقى ويتعب ويسعى لتحصيل المال لهم من دون اهتمام بكونه من حلال أم من حرام، بل لم يكن له من هم سوى تحصيل المال لهم.

وإذا بهم يوم القيامة يقفون أمامه، ويعتبون عليه لأنهم قد أطعمهم من الحرام، فيقولون له: لماذا لم تخرج خمس مالك، إنك بإطعامنا الحرام قد جررتنا إلى عمل المعاصي، ومنعتنا من نيل السعادة الأبدية التي كانت لنا لولا إطعامك لنا من أموال الحرام تلك.

ثم يدعون الله عليه ويسألونه في أن يزيد في عذابه، لأنه السبب في دخولهم النار بعدما أطعمهم من مال الحرام فقست قلوبهم.

الثاني: من يكون مأكله من المشتبه. وهذا على قسمين:

أولهما: أن يكون الطعام من المشتبه، لكنه محكوم ظاهراً بالحلية، كما هو الحال في الأطعمة التي قدمها المضيف إلى ضيفه، فإنه وإن كان الضيف يحتمل أن مصدرها من الحرام، إلا أنه يحل له أن يأكلها، لأنه يرتب عليها آثار الحية الظاهرية.

ثانيها: الطعام المشبه الذي يكون محكوماً بالحرمة ظاهراً، وهو حال الطعام الذي يشترى من الأموال المختلطة بالحرام، أي من الأموال التي اختلط فيها الحلال بالحرام، بحيث لا يمكن فصل الحلال من الحرام.

الثالث: من يكون مأكله ومشربه من الحلال الطيب، لكنه يقع في فعل الحرام مع أ طعامه من الحلال الطيب، وذلك عن طريق إسرافه في الطعام، وإن لم يسرف إلا أنه يترف من خلال كيفية الألوان الكثيرة، وكمية الأكل بحيث يأكل حتى يـبلغ حد الامتلاء.

دوافع الأكل والشرب في شهر الصيام:

هذا ويوجد أثر آخر ينبغي للصائم أن يسعى لإيجاده خارجاً، لما له من الأثر الكبير في تحصيل بركات الصوم، والحصول على الضيافة الإلهية، وهو أن يكون دافعه إلى تناول الطعام والشراب هو قصد القربة إلى الله تعالى، لا أنه فقط يتناول طعامه في وشرابه في هذا الشهر إفطاراً أو سحوراً بقصد سد الجوع وإطفاء العطش، بل ليكن داعيه إلى ذلك القربة إلى الله تعالى، وإحراز رضاه عز وجل.

من هنا يمكننا أيضاً أن نقسم الصائمين تقسيماً آخر من حيث دواعيهم في تناول الطعام:

الأول: من يكون داعيه إلى ذلك غاية واحدة ليست إلا وهي رفع ألم الجوع وحرارة العطش، فالدافع له في تناول طعامه ذلك ليس إلا، فلا يعمد إلى قصد التقرب بتناول الطعام إلى الله تعالى، أو يقصد الاستعانة من تناوله التقوي على عبادة ربه.

الثاني: من يعمد إلى جعل دافعه على تناول الطعام هو التقوي على عبادة الله تعالى، لكون الطعام وسيلة من الوسائل التي تقيم صلب الإنسان وتقوي عوده، وتعطيه القدرة والطاقة على الاستمرار ليتمكن من طاعة الله تعالى وعبادته.

الثالث: أن يكون داعيه أن الطعام والشراب في الإفطار إنما هما وسيلة وغاية يبلغ من خلاهما الوصول إلى حبيبه فيتمن من مناجاته وإطالة المكث معه، ليلتذ بمناجاته ويعيش معه.

تقديم التوبة:

فإن خير وسائل لعود الإنسان للرضى الإلهي ونيل العطف الرباني أن يعمد إلى خلع ثوب المعصية، ولبس ثوب الطاعة، فيقوم بتجديد علاقته مع ربه، من خلال إبراز التوبة والتجرد من كل معصية وترك كل خطيئة، لأنه متى ما كان كذلك كان قريـباً من الله تعالى، وليس بعيداً عنه، بخلاف ما لو لم يقم بفعل ذلك فإن ذا يسبب ابتعاداً منه عن الباري سبحانه.

ويعجبني أن أذكر في الختام رواية مروية عن الإمام أبي الحسن الرضا(ع)، فقد روى أبو الصلت الهروي، قال: دخلت على أبي الحسن علي بن موسى الرضا(ع) في آخر جمعة من شعبان، فقال لي: يا أبا الصلت، إن شعبان قد مضى أكثره، وهذا آخر جمعة منه، فتدارك فيما بقي منه تقصيرك فيما مضى منه، وعليك بالإقبال على ما يعنيك وترك ما لا يعنيك، وأكثر من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن، وتب إلى الله من ذنوبك، ليقبل شهر الله إليك وأنت مخلص لله عز وجل، ولا تدعن أمانة في عنقك إلا أديتها، ولا في قلبك حقداً على مؤمن إلا نزعته، ولا ذنباً أنت مرتكبه إلا أقلعت عنه، واتق الله وتوكل عليه في سر أمرك وعلانيتك(ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد عل الله لكل شيء قدراً)وأكثر من أن تقول فيما بقي من هذا الشهر: اللهم إن لم تكن قد غفرت لنا فيما مضى من شعبان فاغفر لنا فيما بقي منه. فإن الله تبارك وتعالى، يعتق في هذا الشهر رقاباً من النار لحرمة شهر رمضان[3].

——————————————————————————–

[1] سورة هود الآية رقم 114.

[2] من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 94 ح 1829.

[3] عيون أخبار الرضا ج 2 ص 51 ح 198.