- موقع سماحة العلامة الشيخ محمد العبيدان القطيفي - https://www.alobaidan.org -

اختصاص الشيعة في التمسك بالقرآن الكريم

مدخل:

يمتاز المذهب الجعفري الإمامي الأثنا عشري في مسألة التمسك بالقرآن الكريم بخصوصية فذة، قد حرمت منها المذاهب الإسلامية الأخرى، وهي أن مرجعية القرآن تعتبر الركن الوثيق والأساسي والمسلم به والمقدس عند مذهب الإمامية، ومن هذا المنطلق نجدهم بادروا إلى الالتزام والتقيد بها، وفي الواقع إن جعل القرآن كمرجع عند مذهب الإمامية لتصديق وتأيـيد أو تكذيب وتفنيد الأخبار والأحاديث من الأمور التي شيدت قواعدها على أسـس من البرهان والعقل، وقلما نجد دليلاً يصل إلى قوته وسداده ومتانـته، وقلما نجد دليلاً يمتلك هذا المقدار من الأهمية والقيمة.

رأي الإمامية في حاكمية القرآن الكريم:

ولهذا تعدّ مسألة موافقة الكتاب وعدم مخالفته في مطلق النصوص والروايات والأخبار، من المسلمات عند الإمامية، وكذلك إذا حصل تعارض بين خبرين، فإن الترجيح والتقديم إنما يكون في البداية للخبر الذي يكون موافقاً للكتاب العزيز، وهذا من المسلمات أيضاً.
وقد ادعى العلماء التواتر في صدور روايات العرض على الكتاب، وحاكميته دون غيره.
هذا ومما لا شك فيه أنه لا يسع أي ضابط أو قاعدة في هذا الشأن أن تكون أتقن وأوثق من القرآن ليمكنـنا أن نشخص صحة الأمور وسقمها، ولا سيما في ما يخص باب الأحاديث والنصوص.
ومما يثبت هذه الحقيقة، أقوال المفكرين والفطاحل في المجالات العلمية في مذهب الإمامية، بأن جعل القرآن الكريم مقياساً لتـثبيت الشؤون الفردية والاجتماعية هو أمر ضروري جداً يمتاز بأهمية خاصة.
وفيما يخص بحاكمية القرآن، وجعله الميـزان والمقياس لتميـيز وتعيـين الصحيح والفاسد من الأخبار، فإنه قبل أن يتم إثباته عن طريق النصوص، قد ثبت عن طريق الأدلة والبراهين من أنه أمر لا غبار عليه، ولا يمكن تجاوزه إلى أي وجه آخر.

وكما يشاهد في بيان أخبار وأقوال فطاحل العلماء، فإن حيوية هذا الأمر وسداده تمتاز بوضوح وإشراق، إذ توحي بأنـنا لا نحتاج إلى أي دليل خارجي لقبولها والإذعان لها، ومجرد نسبتها إلى كتاب الله وصيانـته من الخطأ والتحريف، لهما شاهدان على ذلك، وهما دليلٌٌ على صدقها وصحتها، إذ تـتمكن بذلك أن توفر الأرضية لجعل القرآن الحاكم والمرجع لتميـيز وتعيـين الأخبار الصحيحة عن الأخبار السقيمة والفاسدة.
وفي المقابل، نجد أبناء العامة، لا يجعلون للقرآن الكريم هذه المرجعية والحاكمية، وذلك من خلال دعواهم استقلالية السنة في التشريع، وأنه لا يلزم أن تعرض الأخبار على الكتاب، حتى يتميز السقيم منها من السليم، ولكي تنجلي هذه الفكرة بوضوح، نشير إلى الأدلة التي تعتمد من قبل الشيعة والسنة في مقام الاستنباط.

الأدلة الأربعة للاستنباط:

لقد جعلت قواعد أدلة الأحكام الشرعية أربعة أركان أصلية( الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل)، وهي التي تسمى بالأدلة الأربعة وتـتخذ ركائز تبنى عليها مناهج البحث.
ولقد وقع الاختلاف بين المذاهب الإسلامية في تعيـين مصداق كل من هذه الأصول الأربعة، فعلى سبيل المثال، جعل القياس مكان العقل بين أوساط أبناء العامة، واعتبر مؤهلاً للعمل به، ونجد المذهب الحنفي يتمتع بمستوى رفيع لتلقيه والأخذ به بصورة لا يحظى بها المذهب الشافعي، ولم يصل إلى ذلك الحد.
أما الأصول الثلاثة الأخرى، فيتفق المذهب الإمامي فيها مع أبناء العامة في اللفظ، وينـتهج كل منهم في الأخذ بكل من هذه الأصول الثلاثة مذهباً وطريقاً خاصاً ينـتهي في بعض الأحيان إلى التباين والافتراق فيما بينهم.
فعلى سبيل المثال: إن الإمامية تـثق بالإجماع الذي يستكشف منه رأي وقول وفعل المعصوم(ع)، وهذه الصورة مما لا نجدها بين أوساط أبناء العامة بالنسبة إلى الإجماع، وإنما نجدهم يكتفون في ذلك بحديث مجموعة يعتمد على قولهم.

أما الركائز الأساسية والرئيسية الأخرى، فهما الكتاب والسنة.

الكتاب العزيز:

يعتبر الكتاب السماوي كمصدر أساسي في تشريع الحكام عند كافة المذاهب الإسلامية، بأنه يمتاز بالأسبقية والأفضلية الخاصة عند جميع المذاهب، وتليه المصادر الأخرى في مكانة تـتأخر عنه، وهذا مما لا يمكننا أن نستبدله بصورة أخرى إذ السنة أيضاً تستقي حجيتها من الكتاب، وتستقي حجيتها وفقاً لحكمة الله سبحانه، وأيضاً فالأنبياء وأوصيائهم إنما وجبت طاعتهم على ضوء أوامر القرآن الكريم.
إن القرآن الكريم بصفته خاتم الكتب السماوية وأكمل دستور رباني، يعتبر أول ركيزة أساسية من الأصول الأربعة، وأن آياته تـتمتع بثروة هائلة تستطيع أن تمد مصادر التشريع بالأحكام المرتبطة بشؤون الفرد والجماعة.

وبما أن صدور القرآن الكريم من عند الله سبحانه وتعالى أمر مفروغ منه، ومسلم به، يجد المتمسك بأحكامه المشرقة من هذا المنطلق أن يوليه الثقة والانقياد له، وأن يكون متمسكاً وملتـزماً بأوامره ونواهيه.
وحيث أن هذا الكتاب السماوي يعتبر البرنامج الإلهي الأخير المنـزل من قبل الله سبحانه لهداية البشرية، فيتحتم أن تستوعب أحكامه كافة الفترات الزمنية اللاحقة للعمل به والانـتفاع منه، والبطون المتعددة للقرآن الكريم تكفي ليكون له على امتداد العصور والقرون المصاديق البارزة والواضحة على أرض الواقع، واتصاف القرآن بالبطون المتعددة جعلت دلالة آياته ظنية، وجعلته مؤهلاً لحمل أوجه ومعاني تلك البطون.
ومن جهة أخرى أثبتت ضرورة وجود المبين والمبلغ للقرآن الكريم، وهذه الحقيقة بأن الآيات القرآنية ليست بذلك المستوى الذي يستوعبها أو يفطن إلى مغزاها الجميع، وعندئذٍ يبرز بوضوح ضرورة وجود من يرفع الحاجة بتبيـينه وتفسيره.

وكما قيل إن مسألة وجوب وضرورة وجود المبين للقرآن (لتبـين للناس ما نزّل إليهم) ، تـثبت أن استيعاب وتفطن الآيات غير متاح للناس من دون تبـيـين وإيضاح.

ويتضح من لزوم تبـيـين الوحي هذا الأمر، بأن الرسول ينبغي أن يحمل على عاتقه مهمة التبـيـين، إضافة إلى مسألة تبليغ وعرض الآيات.

وفي نطاق أوسع فقد أُذن للرسول أن يصرح ويـبـين مجمل ومتشابه الكتاب، أو يشير إلى ما لم يتطرق إليه القرآن الكريم، ومن ثم نجد وضوحاً في التوجيهات والأحكام الدينية والشرعية مما لا نجده في الكتاب وحده.

وتواجد مثل هذه الأحكام في السنة توضح وتبـين لنا هذه الحقيقة بأن مسألة تبـيـين الآيات القرآنية هي التي توفر المقتضي لبيان وذكر مثل هذه الأحكام، وذلك لقوله تعالى:- ( ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) ، وهذا يعني أن الرسول لم يكن مأذوناً لبيان أي كلام في مجال التشريع، ولم يسمح له أن يشرع من تلقاء نفسه بما يشاء، وعلى هذا يدل قوله تعالى:- ( وما ينطبق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى) ، وقوله تعالى:- ( قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى) .

السنة الشريفة:

عرف التمسك والالتـزام بالسنة ووجوب اتباعها في أوساط المذاهب الإسلامية بأنه الأساس والركيـزة الثانية في مجال التشريع للأحكام.
ولم يلحظ أي رفض أو إنكار في مجال شرعيتها، ولكن الأمر الجدير بالمتابعة والدراسة بدقة وحيطة في هذا المجال هو مناقشة مدى الاستقلال بالسنة أو صلتها بالكتاب.
وكما هو معلوم فالسنة ومن دون أي انفصال، تلزم بالضرورة أن تكون مبينة لأحكام القرآن المشرفة، ولا يمكنها الانفصال عن القرآن أبداً.
والملاحظة التي ينبغي الالتفات إليها في مجال تبيـين وإيضاح السنة للأحكام القرآنية هي هل يمكن للسنة أن تـتعارض أو تـتنافى مع الكتاب أو لا؟…

تعريف السنة:

هذا وقد وقع الخلاف بين الشيعة والسنة في تعريف السنة، فيذكر الشيعة أنها عبارة عن قول وفعل وتقرير المعصوم(ع)، بينما يخـتص ذلك عند أبناء العامة بخصوص ما صدر عن رسول الله(ص)، فهل هذه الاتجاهات والمصادر الثلاثة من الرسول والأمام يمكنها ولو بصورة جزئية أن تقع في عرض الكتاب الشريف لتعارضه أو تنافيه؟…
إن الإجابة عن هذا السؤال والاستفسار، نحتاج إلى منا قشة مدى استقلالية السنة في التشريع.

استقلال السنة في التشريع:

لقد دونت العديد من الأبحاث والدراسات وألفت مجموعة من الكتب، تحت عنوان التشريع الإسلامي، ومفاد هذه الأبحاث هو البحث حول الاكتفاء الذاتي للكتاب والسنة، وقد طرحوا وجوهاً ونماذج لاستقلال كل منهما، ومن مجموع أبحاث هذه الكتابات يستفاد أن الحاجز والقضية الشائكة والأساسية عندهم هي عدم الإذعان لأخبار وأحاديث العرض على الكتاب، إذ نجدهم يتهجمون بعنف وبألفاظ متشددة ولاذعة على هذه المسألة.
وفي الحقيقة فإن قضية عرض الأخبار على الكتاب تعتبر في نظر أبناء العامة رؤية ضالة تسربت إلى التفكير والعقلية الإسلامية عن طريق الزنادقة والروافض والخوارج!!.
وكذلك يستشف من أقوال ووجهات نظر كبار العلماء عندهم، بأن هذا الأسلوب في التفكير عند أوساط أئمتهم وشيوخهم يمتاز بخطورة وحساسية خاصة، إذ نجدهم يواجهون أية حركة التفات أو توجه إلى حاكمية القرآن في مقام رد أو قبول الأحاديث والأخبار بتكفيرها والرد عليها، ونجدهم يظهرون الاشمئزاز والتنفر من ذلك!!.
ومن هنا ينبغي أن نلحظ قضية استقلال السنة، والتي أصبحت وسيلة تستخدم في الفترة الأخيرة لمهاجمة مذهب أهل البيت(ع) في بيانهم لأحاديث وجوب العرض على الكتاب، أنها كم تـتطابق وتنسجم مع الضوابط والأسس العلمية، وما هو الميزان لتلقي وقبول ذلك عند أبناء العامة؟…
إن هذا الأسلوب والنمط في التفكير والرؤية عند مذهب الإمامية وأهل البيت(ع) اعتبر مبدءاً مقدساً ومتقناً، فاتبعوه بتمام القوة وارتأوا ضرورة أن تـتطابق السنة مع الكتاب.
وفي الحقيقة فإن مسألة الحفاظ على السنة تستوجب وتحتم على الإنسان المؤمن والمتعبد بالشريعة في كافة الفترات الزمنية أن يتعامل مع الأحكام الصادرة عن رسول الله(ص) بما يتناسب مع شأنها ومكانـتها، وليتعلمها ويعلمها للآخرين، وأن يكون متمسكاً بها.

ومما لا شك فيه، فإنه كان من المحتم في بدء الدعوة الإسلامية لضرورة العمل بالسنة، أن يتم الحفاظ والمواظبة على الأقوال والسنن المأثورة عن رسول الله(ص)، وأن يحاول جهد الإمكان وبأتم الصور المراقبة والمحافظة عليها، ولكن عندما منع الخلفاء عن التدوين للسنة، وذلك لأجل أغراض ووجهات نظر خاصة، لم يمكن الوصول إلى السنة الصحيحة وإلى كافة أقوال الرسول(ص).
فعندها وانطلاقاً لرفع الحاجة وسدّ الافتقار، ومن أجل الوصول إلى ما يرمون إليه، عمدوا إلى أمر يقربهم إلى السنة ويوصلهم إليها، فاختلقوا أمراً لينوب عن ذلك.

ومن هذا المنطلق اعتبروا عمل الصحابي وعمل أهل المدينة في عداد السنة، وذلك لأن أفعالهم مستقاة من سنة الرسول(ص).
ومن الواضح أن هذا النمط والأسلوب لتلقي السنة لا يسعه أن يكون مبيناً لها على وجه الحقيقة، ومن جهة أخرى فهذا التمسك يتم إذا لم يعتبر فعل الصحابة أو أهل المدينة عيب أو نقص.
وحيث أن السياسة العامة للسلطة الحاكمة بعد رسول الله(ص) انتهجت نهجاً وسبيلاً خاصاً، وظهرت أحداث ومجريات غير متوقعة وغير مرتقبة في طريق السنة، عندها لم يـبق مجال للتمسك بالسنة عبر أفعال هؤلاء.
ومما لا شك فيه فإن أهل بيت الرسول (ص) ولا سيما علي بن أبي طالب(ع) هم الأولى والأتقن في استيعاب وفهم ومعرفة القرآن والسنة، وهذا مما اعترف به مخالفوهم، حيث يقول المناوي في فيض القدير:
قد علم الأولون والآخرون أن فهم كتاب الله منحصر إلى علم علي، ومن جهل ذلك فقد ضل عن الباب الذي من ورائه يرفع الله عن الحجاب، حتى يتحقق اليقين الذي لا يتغير بكشف الغطاء . فمع هذا الوصف كيف يمكننا القول بأن يكون غيره مقدماً عليه في بيان السنة؟…

كما أن التمسك والالتـزام بأقوال الصحابة أو أهل المدينة مع كثرة مواطن الضعف الموجودة فيها لن تصل أبداً في المستوى إلى الوثوق والاتكال عليها كما هو الحال في أقوال أهل بيت الرسول(ص) وهم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
وهذا من مسلمات قواعد الترجيح في الأخذ بالأخبار والأحاديث والعمل بالسنـن من جهة السند والتي تمتلك المستوى الرفيع في وثاقتها والتعويل عليها.

فبناءً على هذا لا يمكنـنا الوثوق والاعتماد في تلقي السنة إلا بما جاء عن طريق أهل البيت(ع) الذين وافق الجميع على طهارتهم وعلوّ شأنهم العلمي.

موضع الافتـراق في تقسيم الأخبار:

لقد اشترط مذهب الإمامية وجود ترابط بين الكتاب الشريف والسنة، وعرّف السنة أنها مبينة ومفسرة للكتاب الكريم.
وقد قسم البعض كابن حزم، الأخبار فيما ترتبط بالكتاب إلى قسمين، والبعض الآخر إلى ثلاثة ، والفئة الثالثة إلى أربعة أقسام .

ولقد ذكر هؤلاء الذين قسموا الأخبار إلى ثلاثة أو أربعة أصناف، أموراً في السنة مما لم تـتبين في القرآن، كتحريم نكاح العمة وخالة الزوجة وتحريم أكل لحم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير، ورجم المحصن، وغير ذلك، إذ ذكر ابن حجر الكثير منها في بلوغ المرام، وذكر الشوكاني ذلك في نيل الأوطار.

كما وأن تواجد مثل هذه الأخبار في السنة كان سبباً لظهور القول باستقلال السنة في التشريع وسبباً لنشوء الآراء والأقوال المختلفة، وعند تبنيهم لهذه الآراء نجدهم لا يشترطون لزوم عدم مخالفة الأخبار للكتاب وترجح الموافق منها فحسب، بل نجدهم يكفرون من يقول بذلك، ويتبرءون منه.
هذا والسبب الذي دعى لظهور هذا البحث، هو قوة الاستدلال والبرهنة عند مذهب الإمامية على ضوء الكتاب والسنة، وأبداه محققاً ومهذباً، فأحال الأمر وأرجعه إلى العلماء الأعلام، ليحكموا بأنفسهم ويـبينوا مذهباً يمتاز بمستوى رفيع في تمسكه بالكتاب والسنة بين المذاهب الإسلامية عامة، وليـبينوا ما هي نسبة الصدق في التمسك بالقرآن والسنة للذين يدّعون ذلك ويتظاهرون به.

رأي أبناء العامة في عرض الخبر على الكتاب:

من الأمور والملاحظات التي لم يلتفت إليها في هذا المجال، هي عدم التمعن الشامل في المدلول التطابقي لقوله تعالى:- ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) ، إذ نجد أنها حملت فيما يخص استقلال أوامر الرسول ونواهيه بصورة منفصلة ومنقطعة عن كتاب الله عز وجل.
وهذا تصور باطل أو على أقل تقدير أنه غير تام، لأن اختصاص هذا الأمر في مجال السنة يعتبر تصرفاً يفتقد القرينة على الظهور، وهذا مما لم يجعل له في المباحث العلمية المتعلقة بحجية الظواهر ضابطاً يتكفل بـبيانه وإيضاحه.

وتوهم البعض أن فحوى الآية الشريفة يتعارض مع الأخبار القائلة بلزوم عرض الخبر على الكتاب، وعلى هذا يمكن للسنة بصفتها الدليل الحاكم أن تقضي على حكم الآيات، أو أن تصل إلى حد يمكنها من أن تنسخ حكم الآيات.
فبناء على هذا تفتقد هذه الأخبار حيثيتها لوجود المعارض مع الآية التي مر ذكرها، ومن الواضح والبديهي جداً أن( ما) في الآية المباركة تقصد بيان مهمة الرسول وشرح رسالته(ص)، وأن المبادرة إلى تجزئـتها عما هو خارج عن الكتاب يخالف ظهور الآية.

وقد جاء في كتاب حجية السنة لدكتور عبد الغني عبد الخالق ما يلي:
أحاديث العرض على كتاب الله، فكلها ضعيفة، لا يصح التمسك بها، فمنها ما هو منقطع، ومنها ما بعض رواته غير ثقة أو مجهول، ومنها ما جمع بينهما، وقد بين ذلك ابن حزم في الإحكام والسيوطي في مفتاح الجنة نقلاً عن البيهقي تفصيلاً .

وفي كتاب الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد بن الحسن الحجوي الفاسي، قال:
اعلم أن الحق عند أهل الحق أن السنة مستقلة في التشريع….وما يروى من طريق ثوبان من الأمر بعرض الأحاديث على القرآن، فقال يحيى بن معين: أنه من وضع الزنادقة، وقال الشافعي: ما رواه أحد عمن يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير .

وقال ابن عبد البر في كتاب جامع العلم: عن عبد الرحمن بن مهدي أن الزنادقة وضعوا حديث: ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق فأنا قلته، وإن خالفه فلم أقله. ونحن عرضنا هذا الحديث نفسه على قوله تعالى:- ( ما آتاكم الرسول فخذوه) وغيرها من الآيات الدالة على الأخذ بالسنة، فتبين لنا أن الحديث موضوع، دل على نفسه بالبطلان، وقد نقل ابن حزم الأندلسي في كتاب الإحكام في أصول الأحكام مجموعة مخـتلفة من هذه الروايات، ثم بادر إلى تضعيفها جميعاً، قال في فصل قوم لا يتقون الله فيما ينسب إلى النبي : قد ذكر قوم لا يتقون الله عز وجل أحاديثاً في بعضها إبطال شرائع الإسلام وفي بعضها نسبة الكذب إلى رسول الله(ص) وإباحة الكذب عليه .
ثم بادر ابن حزم لبيان وسرد الأحاديث فضعفها واحدة تلو الأخرى، ثم قال معلقاً على رواة بعض الأحاديث: ساقط متهم بالزندقة.
وقال: كل من يروي هذه الأحاديث فقد كذب على رسول الله(ص).
وقال أخيراً: وقال محمد بن عبد الله بن مسرة: الحديث ثلاثة أقسام: فحديث موافق لما في القرآن فالأخذ به فرض، وحديث زائد على ما في القرآن فهو مضاف إلى ما في القرآن والأخذ به فرض، وحديث مخالف القرآن فهو مطروح.

ثم يقول: ولا سبيل إلى وجود خبر مخالف لما في القرآن أصلاً، وكل خبر شريعة، فهو إما مضاف إلى ما في القرآن ومعطوف عليه لجملته، وإما مستثنى منه لجملته، ولا سبيل إلى وجه ثالث .
فنستفيد من هذه المقولات أن هذه الفئة ترتـئي أن الأحاديث المنقولة في العرض على الكتاب لا مصداقية لها ولا صلة بينها وبين الكتاب والسنة، بل هي ترتبط بالزنادقة، ولا تمتلك الصلاحية للاستدلال بها والتعويل عليها.

رأي الشاطبي ومخالفته للمشهور:
لكننا نجد الشاطبي في كتاب الموافقات، مخالف لقول المشهور وموافق لرأي الإمامية، إذ نجده حين التعارض يقدم النص القرآني على الحديث، وهو إذ جعل السنة فرعاً للكتاب، ووافق الرأي الذي ينطلق على ضوء الأسـس المنطقية، أعتبر مخالفاً لمشهور ما عليه أبناء العامة، واعتقد الجميع أنه خالف الطريقة الصحيحة بتبنيه هذا المعتقد.
قال: إن الكتاب مقطوع به، والسنة مظنونة، والقطع فيها إنما يصح في الجملة لا في التفصيل، بخلاف الكتاب، فإنه مقطوع به في الجملة والتفصيل، والمقطوع به مقدم على المظنون، فلزم من ذلك تقديم الكتاب على السنة .

فقدم الشاطبي القرآن على السنة لأنه قطعي الصدور، وجعل للسنة مكانة خاصة بصفتها مفسرة ومبينة لكلام الوحي ، واعتقد بأن القرآن فيه تبيان لكل شيء والسنة هي العارفة بذلك والمطلعة عليه، وهي التي تـتكفل بـبيان وإيضاح ذلك للناس ولم يـبين للناس سوى الوحي .
وكما قلنا إن جمهور أبناء العامة خالف ما ذهب إليه الشاطبي، يقول الدكتور عبد الغني: ومن ذلك كله تعلم بطلان ما ذهب إليه الشاطبي في الموافقات من أن رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار، وقد قلده في ذلك بعض الكتاب من المتأخرين في هذا الموضوع، وبالتقليد أغفل من أغفل… .

وممن خاض في هذه المخاضة، وبادر لنشر أمور مفتعلة ولا أساس لها وحرض على مذهب الشيعة، الدكتور السالوس الذي أصدر لحد الآن مجموعة كتب ضد مذهب الإمامية، وفي إحدى هذه الكتب باسم قصة الهجوم على السنة، تعرض لهذه المسألة، وكفر أتباع مذهب التشيع، وذكر أنهم ينـتمون إلى مقولة تقدم القرآن على الأخبار، قال: وأصل هذا الرأي فاسد-لزوم عرض الخبر على الكتاب-أن الزنادقة وطائفة من الرافضة ذهبوا إلى إنكار الاحتجاج بالسنة والاقتصار على القرآن، وهم في ذلك مخـتلفوا المقاصد… .
ونقل كلام السيوطي في مفتاح الجنة بهذه الصورة: إن قائلاً رافضياً وزنديقاً أكثر من كلامه أن السنة النبوية والأحاديث المروية لا يحتج بها، وأن الحجة في القرآن خاصة، وأورد على ذلك حديث: ما جاءكم عني من حديث فاعرضوه على القرآن، فإن وجدتم له أصلاً فخذوه وإلا فردوه .
وهو يريد أن يقول: إن الذين يعتقدون بلزوم عرض الأحاديث على الكتاب، في الحقيقة يعتقدون بالكتاب فقط وأنهم ينكرون السنة!!!

وبالرغم مما يرى من نقاط ضعف هذه المقولة، يـبدو أنه قد نسي إذا كان قول(الاقتصار على القرآن) يوجب الزندقة، فإن عمر بن الخطاب ينبغي أن يكون من الزنادقة في هذا المجال .
لأنه يعتبر الرائد الأول لهذه المقولة، ويليه الخوارج الذين يعتبرهم أبناء العامة من أهل الصدق، ويعدون أحاديثهم من أصح الأحاديث، لأن الخليفة الثاني هو الذي قال- ولأول مرة- في حضور الرسول مقولة: حسبنا كتاب الله، وكذلك الخوارج في بيان( الحكم لله) وقفوا بوجه حجة الله في تلك الظروف الحرجة والخطيرة.

تبرئة الخوارج:

لقد سببت نقاط الالتقاء ووجوه الاشتراك عند بعض الفرق أن يتحدوا في قبال مذهب التشيع، وليدافعوا عن الخوارج ويعتبروا المذهب الإمامي هو الفرقة المنفردة والمختصة بالتمسك بالقرآن عند ضرورة العرض على الكتاب، كما نجد في كتبهم عند تبرير الخوارج في نقلهم الأحاديث الموجودة في مبحث لزوم العرض على الكتاب: روى عبد الرحمن بن مهدي: ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله فلم أقله، وإنما أنا موافق كتاب الله وبه هداني. ثم قال: إن هذا الحديث إنما وضعه الخوارج والزنادقة .
ثم يقولون في مقام تبرير الخوارج: وأما الحديث الذي نسبه عبد الرحمن بن مهدي إلى الخوارج فيرجح أن الزنادقة وحدهم وضعوه، لا سيما وكل من يحيى بن معين والخطابي في تذكرة الموضوعات ينسبانه للزنادقة .
كما أن محمد عجاج الخطيب يضعف نسبة هذين الحديثين للخوارج .
وهذا الظن الحسن بالخوارج هو تـتمة للإيضاح المنقول عن أبي داود السجستاني إذ يقول: ليس في أصحاب الأهواء أصح حديثاً من الخوارج .

وأيضاً عن ابن تيمية: والخوارج مع مروقهم من الدين فهم من أصدق الناس، حتى قيل: إن حديثهم من أصح الحديث .
وجاء في كتاب مسند الفراهيدي من كتب الأباضية إذ هم يعتبرون من فرق الخوارج، ذكر حديث لزوم عرض الحديث على الكتاب عن الرسول(ص)، ولفظه:
إنكم ستختلفون من بعدي فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فعني، وما خالفه فليس عني .
ومن هذا يتبين محاولة تبرئة الخوارج من هذا الافتـراء والإدعاء بأن الإمامية قد تفردوا في اختصاصهم بتقديم الكتاب على السنة وذهبوا إلى عرض الخبر على الكتاب.

تميـيز الأحاديث الموضوعة:

هذا واستناداً إلى نظرية أبناء العامة في المنع من عرض الخبر على الكتاب العزيز، ينبغي أن تنقح الأحاديث وتهمل الموضوعة منها في كتب الحديث بصورة كاملة، وإلا فمن الصعوبة أن نحكم بصحة الأحاديث، وأن نـتعامل معها كسنة مع عدم الإذعان بتنقيح الأحاديث الموضوعة التي تشتمل على أربعة عشر ألف ، أو اثني عشر ألف ، حديثاً وأن لا نقول بتنقيحها من قبل ذوي الاختصاص.
وكانت الطريقة السائدة عند بعض المحدثين الكبار من أبناء العامة الملقبين بـ( أمير المؤمنين في الحديث) أنهم لتحقق نواياهم ومآربهم الخاصة عمدوا إلى جعل ووضع الحديث، وكانوا يضعون الحديث.
فبناءً على هذا الأساس إذاً لا نمتلك ميـزاناً ومقياساً معيناً لتميـيز ومعرفة الأحاديث الصحيحة، ومما لا شك فيه أن ذلك سيؤدي بنا إلى مواجهة عقبات ومشاكل في معالجة هذا الأمر!!!
فعلى سبيل المثال، نجد أنهم يشيدون بنعيم بن حماد المروزي، ويصفونه بالمقامات والدرجات الرفيعة، ففي تاريخ بغاد: كان نعيم بن حماد أعلم الناس بالفرائض وأول من جمع المسند وصنفه .
إلا أنه وهو بهذا الوصف في إمامة الحديث، نجد أن له صفة منبوذة وبغيضة، وهي وضع الحديث، وكان يـبادر إليها كما قالوا عنه.

ففي سير أعلام النبلاء: كان يضع الحديث في تقوية السنة .
ووضع في الرد على أبي حنيفة وناقض محمد بن الحسن ووضع ثلاثة عشر كتاباً في الرد على الجهمية ، وقال أبو داود فيه: عند نعيم بن حماد عشرون حديثاً عن النبي ليس لها أصل .
ومما لا يخفى أنه كان يـبادر إلى تدريب بعض التلاميذ في هذا المجال كمحمد بن إسماعيل البخاري!!!
وكذلك الراوي عكرمة بن أبي عصمة نوح بن أبي مريم الذي قيل له: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة؟…فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق فوضعت هذه الأحاديث حسبة .

وهذا يعني أنه أيضاً كان يضع الحديث وكان مصاباً بنفس الداء الذي قد ابتلي به نعيم بن حماد.
فالذين يعتقدون بضرورة تصحيح الأحاديث وقالوا: لا ينبغي عرض الأحاديث على الكتاب، هل فحصوا هذه المجموعة من الأحاديث، وهل تم تعيـينها وفرزها من قبلهم؟…
وفي إزاء هذه الرؤى والأفكار، هل يصح أن نـتهم الذين ينادون للمحافظة على السنة وصيانـتها، إذ جعلوا الكتاب الإلهي ضابطاً وملاكاً لمعرفة السنة الصحيحة، أنهم زنادقة.

والآن إذ تعين وتحصل وجود نماذج كثيرة من الموضوعات في الأحاديث النبوية، فكيف نحكم على هذه الأحاديث وبصورة عامة لأي جهة أو لأي فئة يمكنـنا أن نسند أو نرد هذه الأخبار؟…
فهل نجرؤ على نسبتها إلى الرسول(ص)؟…أو نسندها ونـنسبها إلى الكذابين والوضاعين والمرتزقة الذين يعملون لمصالح الحكام والطغاة والظلمة؟…

فيستوجب حتمية وجود أخبار القصاصين والوضاعين والزنادقة في كتب الحديث أن نـنتهج لتحكيم وتصحيح السنة النبوية أسلوب وطريقة التصفية والتنقية في الأحاديث، ليمكنـنا بذلك تميـيز ومعرفة مخـتلقات أيادي بني أمية وموضوعات القصاص والزنادقة التي قد انـتشرت وتبعثرت في كتب الأخبار الذائعة.
ولا يوجد لدينا سبيل أفضل وأكثر وثوقاً وائـتماناً من القرآن الكريم في هذا المجال.
وهذا الأصل الحاسم والسديد ، وهو من الأصول المسلم بها عند مذهب أهل البيت(ع)، وهو الذي قد عملوا به وساروا عليه، وهو بصفته ضابطاً وقاعدة لمعرفة الأخبار الصحيحة من الأخبار والأحاديث الضعيفة.

التعارض بين الكتاب والسنة:

إن ما نعتقده نحن الإمامية أنه يستحيل وقوع التعارض بين الكتاب والسنة، إذ لا يسعنا أن نجد تبريراً وتأويلاً منطقياً لذلك، ولكن أراد بعض أبناء العامة أن يتظاهروا بوجود خلاف وتعارض بين البيان والمبين، ليستلزم بعد ذلك ضرورة استقلال السنة في تشريع الأحكام، وليوهموا أن ذلك هو أمر متاح ويمكنـنا أن نـتلقاه ونأخذ به.
فقد ذكر في مفتاح السنة عن الخولي: أن الرسول(ص) وظيفته البيان، والبيان غير المبيَّن، فالبيان مفصل، والمبيَّن مجمل، فكان هناك نوع مخالفة، فمن اتبع المبيَّن فقد اطاع الله، ومن اتبع بيان الرسول لكلام الله فقد أطاع الرسول .
علماً أنه توجد جماعة أخرى في أوساط أبناء العامة لم يقبلوا هذه الفكرة بهذه الصورة، فقد جاء في كتاب المدخل لدراسة السنة النبوية: ما كان للبيان أن يناقض المبيًّن، ولا الفرع أن يعارض الأصل، فالبيان النبوي يدور أبداً في فلك الكتاب العزيز لا يتخطاه، ولهذا لا توجد سنة صحيحة ثابتة تعارض محكمات القرآن وبياناته الواضحة .
وأيضاً مسألة لزوم نسخ الكتاب وتخصيصه، وفي بعض الموارد الأخرى تقديم السنة على الكتاب، هي من جملة المسائل التي عرضت وطرحت في ساحة الأبحاث العلمية لأبناء العامة، والتي نشير إلى نماذج منها:
1-يقولون في إرث الأنبياء أن: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، تـتعارض مع قوله تعالى:- ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيـين) ، وبما أن النسبة الواقعة بينهما هي العموم والخصوص، فالنـتيجة تكون بتقديم الخاص على العام.

وواضح من غير تذكير بأن مثل هذه الأكاذيب والافتراءات لا يمكنها أن تعالج المعاريض الأخرى التالية لهذا النص، إذ إجمالاً إطلاق كلمة(الإرث) تمنع من هذا التخصيص، ونستوحي من عبارة(وأوتينا من كل شيء) ، ومن جهة أخرى أن استدلال الصديقة الطاهرة فاطمة(ع) بهذه الآية في مواجهتها مع أبي بكر عند مطالبتها فدك تدل على ما يورثه الأنبياء.
وقد بادر بعض الأعلام في هذا المجال، ومنهم فخر الإسلام البزدوي الحنفي في كشف الأسرار: قوله: ( إجماع السلف على الاحتجاج بالعموم) أي بالعام الذي خص منه، فإن فاطمة احتجت على أبي بكر في ميراثها من أبيها بعموم قوله تعالى:- ( يوصيكم الله في أولادكم) الآية مع أن الكافر والقاتل وغيرهما خصوا منه، ولم ينكر أحد من الصحابة احتجاجها به مع ظهوره وشهرته، بل عدل أبو بكر في حرمانها إلى الاحتجاج بقوله: نحن معاشر الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة .
ومما لاشك فيه بأنها(ع) ووفق النصوص الصحيحة والمتواترة بين الفريقين، سيدة نساء أهل الجنة، ولا يعقل لسيدة نساء أهل الجنة أن تبادر وتطالب في حياتها الدنيوية بما ليس لها.

وكلام فخر الإسلام البزدوي يشير إلى هذا الأمر: بأن القتل والكفر يعتبران من الأسباب المانعة للإرث، ولا ينكر أحد بـين المسلمين ذلك على النقيض من مسألة إرث الأنبياء إذ تفرد أبو بكر بذكرها، وقد خالفه كبار الصحابة وفي طليعتهم أهل بيت الرسول(ص)
2-المورد الآخر قوله تعالى:- ( فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة) ، وقد ذكر في شأن نزولها كما صرح به في أوثق المصادر التفسيرية للفريقين، أنها نزلت في نكاح المتعة، ومن هذا المنطلق تعرضت لسخط البعض، فذهب جماعة إلى القول بنسخها، ويقول الفخر الرازي في هذا المجال: المراد بهذه الآية حكم المتعة، وهي عبارة عن أن يستأجر الرجل المرأة بمهر معلوم لأجل معين فيجامعها .
وجاء في تفسير أبي حيان: قال ابن عباس ومجاهد والسدي: إن الآية في نكاح المتعة .
وفي تفسير أبي السعود: نزلت في المتعة التي هي النكاح إلى وقت معلوم .
3-النموذج الثالث، هو رواية مسلم عن أبي هريرة: خلق الله عز وجل التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الأثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثّ فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم(ع) بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق من آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل .

في حين نجد القرآن يشير إلى نقيض ما في هذه الرواية، وقد جاء فيه أن الأرض والسماء خلقتا في ستة أيام، كما يقول تعالى:- ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) .
4-ومن النماذج أيضاً، لا وصية لوارث ، إذ حكم فيها بنسخ آيات الوصية:- ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين) .
5-وكذلك رواية البكر بالبكر: جلد مائة وتغريب عام، والآية تقول:- (فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) .
لأن حاكم الشرع إذا اكتفى بالجلد وحده فقد خالف السنة! وإذا أراد أن يعمل على ضوء السنة فإنه سيخالف الكتاب، وهذه المسألة هي من نماذج اختلاف الواقع بين شتى المذاهب الإسلامية مع الأحناف .
6-وفي مجال آخر مما يملك النطاق الواسع في التمسك به بين أوساط أتباع ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، هو حديث: إن الميت يعذب في قبره بـبكاء أهله عليه، إذ يتعارض مع استدلال عائشة ويخالفه القرآن الكريم، ورواية النهي عن البكاء يرويها عبد الله بن عمر عن أبيه.

ففي البخاري: قال ابن عباس: فلما مات عمر ذكرت لعائشة ما قال عمر: إن الميت يعذب بـبكاء أهله عليه، فقالت يرحم الله عمر، لا والله! ما حدّث رسول الله إن الله يعذب المؤمن بـبكاء أحد، ولكن قال: إن الله يزيد الكافر عذاباً بـبكاء أهله عليه، وقالت: حسبكم القرآن:- ( ولا تزروا وازرة وزر أخرى) ، .
وكذلك الآيات الواردة في المواريث بالنسبة إلى الذكور والإناث والقول بالتعصيب في تقسيم الفرائض.
ونعني بالتعصيب: هو القول بحرمان النساء من الإرث فيما زاد على الفريضة وذلك في التركة التي تبقى بعد التقسيم، والقول به يخـتص بأهل السنة وأهل الجاهلية حيث يخصـصون الإرث بالرجال دون النساء كما لا يخفى.

وبالجملة، إن تحري الدقة والتمعن في هذا الأمر وفي الكلمات الأخرى توصلنا إلى هذه النـتيجة، وهي أن فقدان الأصول الثابتة وعدم امتلاك المباني والأسـس المتينة والمستحكمة هو السبب في نشوء هذه الفجوة وهذا الخلل والتنافر في الرؤى ومنهج التفكير، ولا يمكن أيضاً أن نتصور غير ذلك في مثل هذه الحالة.

خاتمة:

ثم إنه بعد كل ما سمعت من أن الشيعة الإمامية تجعل القرآن الكريم المصدر الأول في الاستنباط واستخراج الأحكام الشرعية الإلهية، وأنه المرجع الذي يعتمد عليه، وهو الحاكم الفصل حين تعارض الأخبار، بل هو الركن الأساس لقبول الخبر، فكل ما كان مخالفاً له، لا يعول عليه، هل يمكن أن يتهم من يقول بذلك بالالتـزام بتحريف القرآن، وهو الذي يعده بهذه الكيفية، ويعول عليه بهذا التعويل؟!!!
بل إن أحد أدلة بطلان أخبار التحريف المدعى من خلالها نسبة التحريف للشيعة هذا المبدأ، لأننا بعرضها على الكتاب العزيز نجدها تـتنافى معه، ولما كان القرآن الكريم هو المرجع، فإنها تسقط عن الاعتبار ولا يمكن الاعتماد عليها، لأنها مخالفة للكتاب العزيز.