- موقع سماحة العلامة الشيخ محمد العبيدان القطيفي - https://www.alobaidan.org -

تفويض الدين(5)

تفويض الدين(5)

 

معنى التفويض:

وقبل عرض النصوص المستند إليها لإثبات الولاية التشريعية للمعصومين(ع) على الأحكام الشرعية، بحيث يكون ثابتاً لهم(ع) الجعل، كما هو ثابت لله تعالى وبإذن منه، لابد من عرض المعاني المحتملة لتفويض أمر الدين إليهم(ع)، والذي تضمنته النصوص المستدل بها:

الأول: البناء على أن المقصود من التفويض الوارد في النصوص المذكورة عبارة عن الجعل والإنشاء للأحكام الشرعية التي لم تجعل من قبل الله سبحانه وتعالى، وبعدما حصل الجعل منهم(ع)، أمضى الله سبحانه ما قد جعلوه، وأقره. ويتجلى هذا المعنى من خلال مجموعة من المصاديق المذكورة في الأبواب الفقهية المتعددة، نشير لبعضها:

منها: ما صدر عن رسول الله(ص) من توقيت المواقيت الخمسة.

ومنها: جعله(ص) عدد أشواط الطواف في الحج والعمرة، وكذا عدد أشواط السعي فيهما أيضاً.

ومنها: مدة المكث في عرفات.

ومنها: زيادة ركعتين في صلاة الفريضة الرباعية، وركعة في الفريضة الثلاثية.

ومنها: جعل الزكاة في الموارد التسعة.

ومنها: ما صدر منه(ص) في الميراث، من جعل فرض لمن لم يسمه القرآن الكريم كالجد.

 

الثاني: أن يكون المقصود منه عبارة عما صدر عن رسول الله(ص) من تدبير لأمور الحرب والسلم، وقيادة الأمة، لأنه لم يرد شيء من ذلك في القرآن الكريم فقد خلت الآيات الشريفة من الإشارة مثلاً لتحديد وقت الحروب، والمعارك، أو وقت الصلح، وهذا يعني أن ذلك كله قد فوض إليه(ص)، فهو الذي يقرر وقت الحرب، كما أنه من يقرر وقت السلم والصلح.

ويدخل ضمن ذلك حروب أمير المؤمنين(ع) الثلاثة، كما يندرج تحته صلح الإمام الحسن، ونهضة الإمام الحسين(ع)، وما قام به الأئمة الأطهار(ع)، فإن ذلك كله من موارد التفويض الذي كان ثابتاً إليهم.

ويندرج في هذا المعنى أيضاً البرنامج الحياتي الذي كان يمارسه رسول الله(ص)، بل كل واحد من المعصومين(ع) من الأكل، وكيفية أكله، وجلوسه على المائدة، وما كان يلبس، وهكذا.

بل حتى حياته الأسرية في إقدامه على الزواج، والارتباط بمن يشاء، ومن هنا لا يصح التبرير المتكرر في سبب تعدد زوجات رسول الله(ص)، بأنه وحي من الله تعالى، أو سبب إقدامه على الزواج من فلانة وفلانة، لأنه أمر من الله سبحانه، بل هو تخطيط نبوي خاص به(ص)، لأنه من موارد التفويض إليه. وكذا أيضاً يجري ذلك في شأن زواج الإمام الحسن الزكي(ع) من جعدة بنت الأشعث، وهكذا.

ولا يخفى مدى الفرق بين الاحتمالين، فإن الأول منهما مربوط بالنواحي التشريعية، وما يتعلق بالعلاقة بين العباد وربهم، وهذا بخلاف الاحتمال الثاني، فإن موضوعه أقرب للشؤون الشخصية، أو النواحي الإدارية الإجرائية التنظيمية والتي ترتبط بالحاكم والقائد بما هو حاكم وقائد صاحب قرار وتخطيط، ولا ربط لذلك بالجوانب الشرعية التي تربط العبد بربه من خلال العبادة.

 

الثالث: أن يكون المقصود من التفويض هو خصوص التفويض في العطاء المالي، وهو نظير ما جاء في قوله تعالى عن نبي الله سليمان(ع):- (هذا عطائنا فامنن أو أمسك بغير حساب).

ومن الواضح أن هذا الاحتمال كالاحتمال الثاني، لا ربط له بالجنبة التشريعية، بل دائرته إجرائية تنظيمية، نعم هو أضيق حداً ودائرة من المحتمل الثاني، لأنه ينحصر في خصوص البعد المالي.

الرابع: الالتـزام بأن المعنى المراد من التعبير بالتفويض تفويض الأمر إليهم(ع) لبيان المعارف الدينية، ويشير إلى ذلك الخبر المعروف: أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم، وهو صريح في عدم إبراز كل شيء لكل أحد، وإنما هناك تفاوت في البيان، يتحكم فيه مقدار التحمل والقابلية عند المتلقي، فيعطى على وفق ما لديه من قابلية، وقدرة، واستعداد.

 

ومن الواضح أن بيان المعارف يختلف تماماً عن حقيقة جعلها، وإنشائها، لأن البيان يكون لشيء موجود محفوظ، وهذا يساعد على أن التشريعات كانت تامة مكتملة، إلا أنها لم تبين لغرض ومصلحة اقتضت التأخير، والتفويض بهذا المعنى وإن كان مختلفاً عن المحتملين الثاني والثالث، لأنه لا يعود للبعد الحكومتي الإجرائي والتنظيمي، وهو قريب من المحتمل الأول، لوجود الجنبة التشريعية فيه، إلا أنه يغايره تماماً، لأنه لا ينطوي على جعل وإنشاء، وإنما هو بيان لما هو الموجود والذي لم يصل لمرحلة الفعلية، بل لا زال في مرتبة الجعل والإنشاء.

الخامس: إن معنى تفويض أمر الدين إلى المعصومين(ع)، هو قدرتهم على بيان التشريعات التي تضمنها القرآن الكريم، من خلال شرحها، وعرض مصاديقها، كجعل الزكاة في تسعة موارد، وتحديد الطواف والسعي في الحج والعمرة، بسبعة أشواط، ومدة المكث في عرفات وهكذا.

 

ومع أن هذا الاحتمال يتوافق والمحتملين الأول والرابع في توفر البعد التشريعي فيه، إلا أنه لا يعطي سلطة تشريعية للمعصوم(ع) على الجعل والإنشاء، وإنما يحصر دوره في بيان خصوص الأحكام الشرعية الواردة في القرآن الكريم، وهو بهذا يكون أخص من المحتمل الرابع، لأن المفروض أن المحتمل الرابع موضوعه مطلق المعارف الدينية، وهو يشمل العقائد والأخلاق، كما يشمل الأحكام، بينما المحتمل الخامس، ينحصر في خصوص الأحكام الشرعية، ومن خلال الفرق بين المحتمل الرابع والأول، يتضح فرق المحتمل الخامس عن المحتمل الأول، فلا نعيد.

السادس: أن يكون المقصود من التفويض الذي قد جعل إلى المعصومين(ع)، هو إعطائهم سلطة الأحكام السلطانية الولائية، والتي تصدر عن المعصوم(ع) بما هو ولي وسلطان، وحاكم له دولة يتصدى لرئاستها، وقيادتها، وإدارة شؤونها.

وتختلف الأحكام الولائية السلطانية عن الأحكام التشريعية في أمرين:

الأول: أن الأحكام الولائية لا تعد جزءاً من الدين والشريعة، فلا تعد ضمن أجزائهما.

الثاني: أنها أحكام متغيرة، وليست ثابتة، وهذا بخلاف الأحكام التشريعية، فإنها أحكام ثابتة غير متغيرة.

 

والذي يصلح من المحتملات المذكورة للمدعى إنما هو خصوص المحتمل الأول من المحتملات الستة، دون الخمسة الباقية، فلو كان مدلول النصوص واضحاً فيه، كان ذلك موجباً للالتـزام بدلالتها على المدعى، إما في خصوص النبي الأكرم محمد(ص)، أو له(ص)، ولبقية الأئمة الأطهار(ع). أما لو لم تكن النصوص ظاهرة فيه، فلن تكون صالحة لإثبات المدعى، وهذا ما سوف يتضح من خلال عرضها ودراسة دلالتها.

ثم إنه بعد الفراغ من عرض المحتملات المتصورة في حقيقة التفويض، نذكر النصوص المستند إليها للدلالة على ذلك.

 

أدلة القائلين بثبوت الولاية التشريعية:

وقد استند أصحاب القول بثبوت الولاية التشريعية للمعصومين(ع)، ولا أقل لرسول الله(ص) إلى مجموعة من النصوص تضمنت أن الله تعالى قد فوض أمر دينه إلى نبيه محمد(ص)، وما فوضه تعالى إلى نبيه، فقد فوضه(ص) إلى الأئمة الأطهار(ع)، ويمكن تصنيف النصوص إلى طائفتين:

الأولى: ما تضمنت اختصاص التفويض في أمر الدين، وثبوت السلطة والولاية التشريعية في خصوص رسول الله(ص)، دون الأئمة الأطهار(ع):

منها: معتبرة الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: إن الله عز وجل أدب[1] [1] نبيه، فأحسن أدبه، فلما أكمل له الأدب، قال:- (إنك لعلى خلق عظيم)، ثم فوض إليه أمر الدين والأمة، ليسوس عباده، فقال عز وجل:- (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، وإن رسول الله(ص) كان مسدداً موفقاً مؤيداً بروح القدس، لا يزل ولا يخطئ في شيء مما يسوس الخلق، فتأدب بآداب الله.

ثم إن الله عز وجل فرض الصلاة ركعتين ركعتين، عشر ركعات، فأضاف رسول الله(ص) إلى الركعتين ركعتين، وإلى المغرب ركعة، فصارت عديل الفريضة، لا يجوز تركهن إلا في السفر، وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر، فأجاز الله له ذلك كله، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة.

 

ثم سن رسول الله(ص) النوافل أربعاً وثلاثين ركعة مثلي الفريضة، فأجاز الله عز وجل له ذلك، والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة، منها ركعتان بعد العتمة جالساً تعدان بركعة مكان الوتر.

وفرض الله في السنة صوم شهر رمضان، وسن رسول الله(ص) صوم شعبان وثلاثة أيام من كل شهر مثلي الفريضة، فأجاز الله عز وجل له ذلك.

وحرم الله عز وجل الخمر بعينها، وحرم رسول الله(ص) المسكر من كل شراب، فأجاز الله له ذلك.

 

وعاف رسول الله(ص) أشياء وكرهها، لم ينه عنها نهي حرام، إنما نهى عنها نهي إعافة، وكراهة، ثم رخص فيها فصار الأخذ برخصه واجباً على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه، ولم يرخص لهم رسول الله(ص) فيما نهاهم عنه نهي حرام، ولا فيما أمر به أمر فرض لازم، فكثير من المسكر من الأشربة نهاهم عنه نهي حرام، لم يرخص فيه لأحد، ولم يرخص رسول الله(ص) لأحد تقصير الركعتين اللتين ضمهما إلى ما فرض الله عز وجل، بل ألزمهم ذلك إلزاماً واجباً، لم يرخص لأحد في شيء من ذلك، إلا للمسافر، وليس لأحد أن يرخص ما لم يرخصه رسول الله(ص)، فوافق أمر رسول الله(ص) أمر الله عز وجل، ونهيه نهي الله عز وجل، ووجب على العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالى [2] [2].

وليس في سندها من يتوقف فيه، سوى إبراهيم بن هاشم، ولا معنى للتوقف في وثاقته، لوجود أكثر من طريق للبناء عليها، وضعف أغلبها، لا يمنع، فإنه يمكن البناء على تولد الاطمئنان جراء تراكم الاحتمال نتيجة ضم بعضها إلى بعض.

وقد تضمنت ثبوت حق التشريع لخصوص رسول الله(ص) دون الأئمة(ع)، فيحتاج البناء على ثبوت ذلك إليهم إلى دليل حتى يتعدى من رسول الله(ص) إليهم.

 

نعم قد تضمنت بعض النصوص، أن تشريع الركعات كان من الله تعالى، ولم يكن من رسول الله(ص)، فقد روى ابن فضال عن أبيه، عن أبي الحسن الرضا(ع)، قال: من شهر نفسه بالعبادة فاتهموه على دينه، فإن الله عز وجل يكره شهرة العبادة، وشهرة الناس. ثم قال: إن الله تعالى إنما فرض على الناس في اليوم والليلة سبع عشرة ركعة، من أتى بها لم يسأله الله عز وجل سواها، وإنما أضاف رسول الله(ص) إليها مثليها، ليتم بالنوافل ما يقع فيها من النقصان، وإن الله عز وجل لا يعذب على كثرة الصلاة والصوم، ولكنه يعذب على خلاف السنة[3] [3]. فيكون الخبر معارضاً لما تضمنه معتبر الفضيل في أن تشريع ركعات الفريضة من رسول الله(ص) لدلالته على أن الله تعالى فرض الفرائض الخمس بركعاتها تامة دفعة واحدة. نعم قد تضمن ثبوت الولاية التشريعية لرسول الله(ص)، وأنه قد جعل النوافل وهي أربعة وثلاثون ركعة. فيكون الخبر مثبتاً للولاية التشريعية لرسول الله(ص)، وهذا يجعله ومعتبر الفضيل متفقين في أصل المدعى، نعم هما يختلفان في تحديد ما شرعه وجعله رسول الله(ص)، فإن معتبر الفضيل تضمن أنه(ص) قد شرع في الفرائض، بينما خبر ابن فضال، تضمن أنه(ص) قد شرع خصوص النوافل.

 

والذي يهون الخطب أن خبر ابن فضال ضعيف السند، لوجود محمد بن أحمد بن محمد المكتب، شيخ الصدوق(ره)، ولا يكفي للبناء على وثاقته مجرد شيخوخة الإجازة، كما فصل في محله.

ومنها: صحيح زرارة قال: سمعت أبا جعفر وأبا عبد الله(ع) يقولان: إن الله عز وجل فوض إلى نبيه(ص) أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم، ثم تلا هذه الآية:- (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عننه فانتهوا)[4] [4].

وقد رواها الكليني(ره) مرة أخرى بطريق يقع فيه ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عن زرارة: أنه سمع أبا جعفر وأبا عبد الله(ع) يقولان: إن الله تبارك وتعالى فوض إلى نبيه(ص) أمر خلقه، لينظر كيف طاعتهم، ثم تلا هذه الآية:- (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)[5] [5].

 

وقد تمنع دلالتها على المدعى، بأن التفويض هو تفويض أمر الخلق، وليس تفويض أمر الدين، فيحتمل أن يكون المقصود منها ذلك المنصبين الثابتين له(ص)، وهما منصب القضاء، ومنصب الحكومة، كما دل على ذلك بعض الآيات الشريفة، وعليه يكون المقصود من تفويض أمر الخلق إليه(ص)، هو البعد التنظيمي، والإجرائي، وليس البعد التشريعي. ويساعد على ذلك ملاحظة الاستشهاد بالآية الشريفة، فإن سياقها يعطي اختصاص موضوعها بمسألة توزيع الغنائم، ولذا ذكرنا في محله التوقف في دلالتها على حجية السنة الشريفة.

ومنها: خبر زرارة، عن أبي جعفر(ع) قال: وضع رسول الله(ص) دية العين ودية النفس، وحرم النبيذ، وكل مسكر. فقال له رجل: وضع رسول الله(ص) من غير أن يكون جاء فيه شيء؟ قال: نعم، ليعلم من يطيع الرسول ممن يعصيه[6] [6].

وقد تضمن سندها بطريق الكليني(ره) معلى بن محمد البصري، وطريق توثيقه وقوعه في أسناد كتابي كامل الزيارات، وتفسير القمي، وحال هاتين الكبريـين معلوماً، نعم قد ورد في كتاب بصائر الدرجات، وليس في سنده من يتوقف فيه.

وهو لا يختلف عن معتبر الفضيل من حيث الدلالة، إلا أنه يختص بثبوت الحق المذكور لرسول الله(ص) دون الأئمة، وهذا يعني أن ثبوته إليهم بحاجة إلى دليل.

 

ومنها: خبر إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله(ع)، قال: إن الله تبارك وتعالى أدب نبيه(ص) فلما انتهى به إلى ما أراد، قال له:- (إنك لعلى خلق عظيم)، ففوض إليه دينه، فقال:- (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، وإن الله عز وجل فرض الفرائض، ولم يقسم للجد شيئاً، وإن رسول الله(ص) أطعمه السدس، فأجاز الله جل ذكره له ذلك، وذلك قول الله عز وجل:- (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب)[7] [7]. ودلالته على المطلوب كسابقيه، نعم هو ضعيف سنداً بوقوع محمد بن سنان في سنده.

 

ومنها: خبره الآخر عن أبي عبد الله(ع)، قال: إن الله أدب نبيه حتى إذا أقامه على ما أراد، قال له:- (خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين)، فلما فعل ذلك رسول الله(ص) زكاه الله فقال:- (إنك لعلى خلق عظيم)، فلما زكاه فوض إليه أمر دينه، فقال:- (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، فحرم الله الخمر وحرم رسول الله(ص) كل مسكر، فأجاز الله ذلك كله، وإن الله أنزل الصلاة وإن رسول الله(ص) وقت أوقاتها فأجاز الله ذلك له[8] [8]. وقد تضمن سنده أبو عبد الله المؤمن وهو زكريا بن محمد، ومع أن الشيخ والنجاشي(ره) قد ذكراه، إلا أنهما لم يشيرا لبيان حاله من حيث الوثاقة وعدمه، فيكون مهملاً، وهذا يوجب سقوط الخبر عن الحجية.

ومنها: خبر زيد الشحام قال: سألت أبا عبد الله(ع) في قوله تعالى:- (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب)، قال: أعطى سليمان ملكاً عظيماً، ثم جرت هذه الآية في رسول الله(ص)، فكان له أن يعطي ما شاء من شاء، ويمنع من شاء، وأعطاه الله أفضل بما أعطى سليمان، لقوله تعالى:- (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)[9] [9].

 

ولمنع دلالة الخبر على المدعى مجال، فإن الظاهر أن موضوعه البعد الحكومتي السلطاني، وأن لرسول الله(ص) التصرف بأن يعطي من يشاء ويمنع من يشاء انطلاقاً من منصبه الحكومي الثابت له، ويساعد على ذلك الاستشهاد بآية سورة الحشر، وقد عرفت منا قبل قليل أن ملاحظة سياقها يساعد على ذلك، ولذا ذكرنا في محله التوقف في دلالتها على حجية السنة الشريفة.

ولا يمنع ذلك ملاحظة أن ما تضمنه الخبر من أن ما أعطيه رسول الله(ص) أوسع مما قد أعطيه سليمان بن داوود(ع)، للبناء على سعة الدائرة الإجرائية الثابتة لرسول الله(ص).

كما أنه ضعيف سنداً، بالإرسال، لعدم ذكر علي بن محمد الواسطة بينه وبين الحسين بن عبد الرحمن، وبوجود صندل الخياط، فإنه لم يوثق إلا بوقوعه في أسانيد كامل الزيارات.

 

ومنها: معتبرة أبي أسامة، عن أبي جعفر(ع) قال: إن الله خلق محمداً(ص) عبداً فأدبه حتى إذا بلغ أربعين سنة أوحى إليه، وفوض إليه الأشياء، فقال:- (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)[10] [10].

وقد تمنع دلالتها على المدعى بلحاظ أن المفوض إليه(ص) ليس أمر الدين، وإنما هو أمر الأشياء، وهذا قد يكون مربوطاً بالولاية التدبيرية الإجرائية، ولا ربط له بالولاية التشريعية.

ويجاب عنه، بأن المفوض إليه(ص) هو أمر الأشياء، وهو عنوان عام يشمل الأحكام، كما يشمل غيرها، وبالتالي يكون المعتبر دالاً على الولاية التشريعية أيضاً له(ص).

ومنها: معتبرة زرارة(و) حمران قال: سألت أبا جعفر(ع) عن أشياء من الصلاة والديات والفرائض وأشياء من أشباه هذا، فقال: إن الله فوض إلى نبيه(ص)[11] [11].

والوارد في المصدر عن زرارة، عن حمران، وهو بعيد، والظاهر أن الصحيح، عن زرارة وحمران، ويساعد على ذلك أن الراوي هو ابن بكير، وهو يروي عن كليهما.

 

ومنها: ما رواه القاسم بن محمد، قال: إن الله تبارك وتعالى أدب نبيه فأحسن تأديبه، فقال:- (خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين)، فلما كان ذلك أنزل الله عليه:- (وإنك لعلى خلق عظيم)، وفوض إليه أمر دينه، فقال:- (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، فحرم الله الخمر بعينها، وحرم رسول الله(ص) كل مسكر فأجاز الله ذلك، وكان يضمن على الله الجنة فيجيز الله ذلك له، وذكر الفرائض فلم يذكر الجد فأطعمه رسول الله(ص) سهماً فأجاز الله ذلك، ولم يفوض إلى أحد من الأنبياء غيره[12] [12].

 

ودلالته على المطلوب جلية واضحة، إلا أن المشكلة أنه لم ينسب لقول معصوم، واحتمال الاضمار وإن كان متصوراً، إلا أنه لن يجدي لحجيته، لأن المضمر ليس ممن لا يضمر إلا عن خصوص المعصوم.

ومنها: خبر إسماعيل بن عبد العزيز، قال: قال لي جعفر بن محمد(ع): إن رسول الله(ص) كان مفوضاً إليه، إن الله تبارك وتعالى فوض إلى سليمان ملكه، فقال:- (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب)، وإن الله فوض إلى محمد(ص) نبيه، فقال:- (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).

 

فقال رجل: إنما كان رسول الله(ص) مفوضاً إليه في الزرع والضرع. قال: فلوى جعفر(ع) عنه عنقه مغضباً فقال: في كل شيء، والله في كل شيء[13] [13]. ودلالته على المطلوب بلحاظ ذيله واضحة جداً لا خفاء فيها، إلا أنه يعاني من مشكلتين في السند:

الأولى: الإرسال، فإن الصفار(ره) رواه عن بعض أصحابنا.

الثاني: الراوي، وهو إسماعيل بن عبد العزيز، فإنه مردد بين إسماعيل بن عبد العزيز المعروف بأبي إسرائيل الملائي الكوفي، وبين إسماعيل بن عبد العزيز الأموي الكوفي، وقد ذكرهما الشيخ(ره) في رجال، إلا أنه لم يشر لحالهما من حيث الوثاقة وعدمه من قريب أو بعيد.

 

 

[1] [14] إن المستفاد من كلمات أهل اللغة أن المقصود من التأديب في هكذا موارد ليس التربية وتهذيب الأخلاق كما هو المتعارف إطلاق اللفظ اليوم، وإنما المقصود من ذلك تعليم الإنسان رياضة النفس، ومحاسن الأخلاق والأدب، فلاحظ ما ذكره في المصباح المنير على سبيل المثال في هذا المعنى. وهذا الأمر يساعد على ضرورة ملاحظة استعمال الكلمات الواردة في النصوص حين صدور النص، وعدم محاولة شرحها بحال السامع اليوم، لما قد يوجد من نقل في اللفظ، أو استعمال له في غير ما وضع له، أو لا أقل هجران لبعض موارد الاستعمال، وهذا لا يوجب رفع اليد عن المعنى بدعوى أن المناط في الحجية على وقت الوصول، وليس وقت الصدور، لأن المفروض أنه سوف يتمسك بأصالة عدم النقل، أو باستصحاب القهقرى، فتأمل.

[2] [15] الكافي ج 1 ح 4 ص 662.

[3] [16] الأمالي لشيخ الطائفة ص 649-650.

[4] [17] الكافي ج 1 ح 3 ص 662.

[5] [18] الكافي ج 1 ح 5 ص 665.

[6] [19] الكافي ج 1 ح 7 ص 666.

[7] [20] المصدر السابق ح 6 ص 665-666، بصائر الدرجات ج 2 ح 4 ص 229.

[8] [21] بصائر الدرجات ج 2 ح 5 ص 229.

[9] [22] الكافي ج 1 ح 10 ص 668.

[10] [23] بصائر الدرجات ج 2 باب التفويض إلى رسول الله(ص) ح 1 ص 228.

[11] [24] بصائر الدرجات ج 2 ح 8 ص 230.

[12] [25] بصائر الدرجات باب التفويض إلى رسول الله(ص) ح 3 ص 228-229.

[13] [26] المصدر السابق ح 9 ص 231.