- موقع سماحة العلامة الشيخ محمد العبيدان القطيفي - https://www.alobaidan.org -

مدخل إلى السنن الإلهية

مدخل إلى السنن الإلهية

 

يجمع العقلاء في كل العصور على وجود نظام دقيق يسيّر عالم الموجودات، ورائه حكمة بالغة، وعقل مدبر، وعلم محيط، وقوة قاهرة، ولطف خفي، وهي قدرة الله سبحانه وتعالى، فقد رسم سبحانه وتعالى خارطة طريق لكل موجودات الكون، فجعل بعضها مائعاً كالماء، وجعل بعضها غازاً كالهواء، وجعل بعضها ليناً، وجعل بعضها يابساً، وجعل النهار منوراً، وجعل الليل مظلماً، وجعل الأذن سامعة، والعين مبصرة، وجعل النار محرقة، وجعل الحياة في الماء، وقدر الموت على الأحياء.

 

وقد أشار القرآن الكريم في جملة من آياته المباركة إلى هذا النظم الذي يسيّر هذا الكون، قال تعالى:- (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم* والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم* لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون)[1] [1]، وبهذه القوانين التي أودعها الله تعالى في الكون مثل قانون الجاذبية، تتم حركة هذا الكون، ويسير وفق نظام قد رسمه الخالق تعالى له، فهو يسير بموجب سنة سنها الله تعالى له، فلا يحيد عنها طرفة عين أبداً، وإلا أختل النظام الكوني فتـتبعثر الكواكب والنجوم، وتصطدم ببعضها وتتفجر في الفضاء، وينتهي كل شيء.

ولا ينحصر القانون الإلهي في خصوص ما ذكر، بل إن كل ما يرتبط بعالم الموجودات خاضع للقوانين، وهي سنن إلهية، كنظام الحياة، ونظام الزوجية، ونظام الأمومة، ونظام الأمم والشعوب، ونظام اللغات، ونظام الموت، ونظم أخرى رئيسية، وفرعية كثيرة جداً، وهي سنن إلهية، لا يمكن تخطيها أو تجاوزها.

 

أمثلة للسنن الإلهية:

ويمكننا ذكر مثالين حول السنن الإلهية:

الأول: الغرائز، وهي تعدّ من الآيات والأسرار العظيمة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في مخلوقاته، ومن أهمها الغريزة الجنسية، أو الاحتياج الجنسي، وبالتالي نظام الزوجية العظيم، وخلق الذكر والأنثى من كل نوع في الوجود واحتياج كل منهما إلى الآخر، فالذكر يحتاج إلى الأنثى والأنثى تحتاج إلى الذكر، وسر انجذاب أحدهما إلى الآخر. وهذا يجعلك تشعر وكأن المخلوق الأول قد شطر نصفين، ذكر وأنثى، أو سالب وموجب حتى يستمر هذا الانجذاب وهذا الاحتياج ليكمل أحدهما الآخر حين اللقاء، ثم ينجبا مخلوقاً جديداً من ذات النوع يحمل إحدى صفات الأبوين من ناحية الذكورة أو الأنوثة، فلا يولد مخلوق جديد إلا بانجذاب الأبوين الذكر والأنثى والتقائهما وهكذا حتى تستمر الحياة.

 

وكما أن سنة الزوجية الإلهية في الخلق عن طريق الذكر والأنثى جارية في الإنسان لقوله تعالى:- (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى)[2] [2]، فإنها تجري أيضاً في خلق الحيوانات والنباتات، قال سبحانه:- (جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً)، بل تعدى ذلك في الإشارة إلى سنة الله في الخلق من الزوجين حتى لبعض المخلوقات التي لم تدركها عقول البشر، ولم يحيط بها علماً، فضلاً عن الإنسان والحيوان والنبات، يقول عز من قائل:- (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون)[3] [3]، كما أشار الباري سبحانه إلى سنة الزوجية في الخلق كافة، فقال تعالى:- (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)[4] [4]، وفي ذلك كله دلالة واضحة على خضوع كافة المخلوقات الإلهية حتى الجمادات لهذه السنة الإلهية، وهي الخلق أزواجاً أزواجاً.

نظام الأقطاب الموجبة والسالبة:

ومن صور سنة الزوجية في هذا الكون نظام الأقطاب الموجبة والسالبة، وانجذاب المختلف وتنافر المتشابه والذي نتج عنه نظام الجاذبية، وبه تحددت مسارات الكواكب في أفلاكها، واعتدلت في مداراتها وفق ميزان دقيق والذي لولاه لم يستمر الكون في حركته، ثم في وجوده، وهذا من أظهر النعم الإلهية التي أفاضها الله تعالى على الوجود، ومن أوضح السنن الإلهية في الكون.

 

الحركة التأريخية:

الثاني: ما تضمنه القرآن الكريم من حديث حول قصص الماضين، فقد تحدث في جملة من آياته الشريفة حول قصص الماضين، فعرض ذلك بتفصيل يثير انتباه كل من يقرأ آياته المباركة، فهو يذكر قصص الأنبياء من آدم(ع)، بل من قبل أن يخلقه، والاعتراضات التي صدرت من قبل الملائكة، وقصته في الجنة، وقصة نوح، وإدريس، وهود، وصالح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ولوط ويوسف، ويعقوب، وشعيب، وموسى وهارون، وداوود، وسليمان، وأيوب ويونس، وإلياس، واليسع، وزكريا، ويحيى، وعيسى، حتى يصل إلى خاتم الأنبياء والمرسلين الحبيب المصطفى النبي محمد(ص).

 

ولم يكتف القرآن الكريم بعرض قصص الأنبياء(ع)، بل عرض قصص بعض الأولياء أيضاً، مثل: لقمان الحكيم، وطالوت، والخضر، وأصحاب الكهف، ويأجوج ومأجوج، وحواريي المسيح عيسى(ع)، ومريم وآسية بنت مزاحم.

وذكر أيضاً قصص بعض الطغاة والمتجبرين الذين واجهوا الرسالات، وحاربوا حامليها وتكبروا على الحق من أمثال فرعون، ونمرود، وقوم لوط، وقوم نوح، وقوم صالح، وأخوة يوسف، واليهود وكفار قريش.

وقد أدى ذلك إلى وجود مادة تاريخية كبيرة في القرآن الكريم، فجاءت بعض القصص في سورة كاملة، وتكررت قصص أخرى في سور متعددة، حتى بلغ مقدار البحث التاريخي في القرآن ثلث آياته، أو أكثر من ذلك.

ومن الطبيعي أن يكون مثل هذا الكم موجباً للاستفهام، لمعرفة علاقة القصة والتاريخ بالقرآن الكريم، وما هو منشأ وجود هذا الكم الهائل من الطرح التاريخي فيه.

 

وقد تعددت الإجابات الصادرة من الباحثين في علوم القرآن، وتفسيره، ونشير لجوابين منها:

الأول: ما ذكره بعض أعلام العصر(دام ظله)، من أن الموجب لذلك هو هداية البشر، لأن القرآن ليس كتاب تاريخ، أو قصص، أو علوم طبيعية، أو بيان أسرار السماوات والأرض. قال(دام ظله): إن أفضل الدروس والعبر تكمن في تاريخ الماضين-لا سيما الأنبياء العظام، والأمم والشعوب التي كانت تحكم مساحات كبيرة من الأرض ثم انقرضت، كما تتجلى أعظم دروس التوحيد، ومعرفة الله في أسرار خلقة العالم-فقد تعرض القرآن لهذه الأمور وفق أسلوب خاص، ليقدم نماذج ومثل لها أكبر تأثير في هداية الإنسان[5] [5].

 

الثاني: ما أجاب به علم آخر(حفظه الله)، وحاصله: إن ملاحظة استعراض القرآن الكريم للأحداث التاريخية، سواء كان على سبيل القصص أم كان باستعراض حال الأمم وسلوكها، يشير إلى طبيعة الحركة التاريخية في القرآن وإمكانية انتـزاع قوانين ثابتة بين الماضي والحاضر، والمستقبل.

وبالجملة، إن القرآن يشير إلى اختلاف الحضارات ويكشف عن الصراعات بين الأمم، ولكن ذلك يعطي إثبات القوانين العامة، والأصول الكلية الثابتة بين القوانين للجهة المشتركة، أو ما يعبر عنه بالقاسم المشترك في جميع القوانين العامة بين الماضي والحاضر[6] [6].

والمتحصل من الجوابين المتقدمين، هو أن هناك غاية مرتجاة من ذكر القصص القرآني، وعرض سير الأمم السابقة، ولم يكن ذلك لمجرد بيان أحداث تاريخية وعرض لها، والغاية المرتجاة من ذلك تتمثل في سنن إلهية مقصودة، تجري في الأمم السابقة كما جرت في الأمم السابقة.

 

ضرورة الإحاطة بالسنن الإلهية:

ولعل هذا يبرر لنا شيئاً من حث القرآن الكريم ومن خلال عديد من آياته المباركة للنظر في أحوال السابقين، والاعتبار بما جرى عليهم، والسير في الأرض لرؤية آثارهم، قال تعالى:- (قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين)[7] [7]. وقال تعالى:- (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ الآخرة إن الله على كل شيء قدير)[8] [8].

ومن خلال ما تقدم، يتضح أن كل سنة من سنن الله تعالى في الكون لها آثار وعواقب، فحركة الأرض والشمس آثارها الليل والنهار، والفصول الأربعة، وسنة نزول المطر آثارها هو نبات الزرع، وسنة التقاء الذكر والأنثى آثارها التناسل والتكاثر.

والحاصل، إن هذه السنن الإلهية تعدّ مقدمات لنتائج، وهذه النتائج قد تكون سنناً ومقدمات لنتائج أخرى، ترتبط بها، وهذا الارتباط قد يكون ارتباطاً مادياً فقط، كارتباط الكائنات الحية بالماء، فإنها تحتاج سنة ديمومة الحياة، والحياة تحتاج إلى الماء، وسنة شرب الماء تؤدي إلى الارتواء، بينما يؤدي مخالفة هذه السنة بترك شربه إلى العطش، ثم الهلاك، فتتوقف الحياة، ولعله يشير إلى ذلك قوله تعالى:- (وجعلنا من الماء كل شيء حي)[9] [9].

وقد يكون الارتباط ارتباطاً مادياً، أو معنوياً، أو هما معاً، مثل حركة الكواكب، ودقة نظامها، ودوران الأرض حول محورها، وحول الشمس، وما ينتج من الليل والنهار، والشهور والفصول الأربعة والخسوف والكسوف، ويترتب على هذه السنن مجموعة من التكاليف الإلهية الموجهة إلى الإنسان من الصلاة والصوم والحج والخمس والزكاة، وغير ذلك مما يعتبر سنناً لها آثارها ونتائجها، وهكذا جميع السنن الإلهية، قال تعالى:- (فلن تجد لسنت الله تبديلاً ولن تجد لسنت الله تحويلاً)[10] [10].

 

السنن التشريعية:

وكما أن هناك سنناً مادية، فإن هناك سنناً تشريعية، تنظم حياة الفرد والمجتمع، لأنها الذي جاءت من أجله الرسالات ولأجلها بعث الله عز وجل الرسل، بل هي غاية الخلق والوجود.

 

وقد وردت جميع هذه السنن في القرآن الكريم، ويمكن تقسيمها بحسب آثارها كما يلي:

1-السنن ذات الآثار الدنيوية[11] [11]:

منها: إن تنصروا الله ينصركم.

ومنها: من نعمره ننكسه في الخلق.

ومنها: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً. ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً.

ومنها: أما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

2-السنن ذات الآثار الأخروية:

1-الذين يأكلون أموال اليتامى إنما يأكلون في بطونهم ناراً.

2-إن تجتنبوا ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم، وندخلكم مدخلاً كريماً.

3-من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً.

4-من جاء بالحسنة فله خير منها.

3-السنن ذات الآثار المشتركة، دنيوية وأخروية:

1-ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى.

2-ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى.

3-ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.

4-من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها.

————————————————————————

 

  

[1] [12] سورة يس الآيات رقم 40.

[2] [13] سورة الحجرات الآية رقم 13.

[3] [14] سورة يس الآية رقم 36.

[4] [15] سورة الذاريات الآية رقم 49.

[5] [16]  قصص القرآن ص 5.

[6] [17] القرآن والأصول الموضوعية العامة ج 1 ص 394.

[7] [18] سورة الأنعام الآية رقم 11.

[8] [19] سورة العنكبوت الآية رقم 20.

[9] [20] سورة الأنبياء الآية رقم 30.

[10] [21] سورة فاطر الآية رقم 43.

[11] [22] إن السنن المذكورة مستفادة من الآيات الشريفة، وقد عمدنا إلى عرض ذات السنة، ولذا لم نذكر الآية التي تضمنتها، وإنما اقتصرنا على ذكر خصوص السنة ولو بضم المتقدم إلى المتأخر من الآية المباركة.