- موقع سماحة العلامة الشيخ محمد العبيدان القطيفي - https://www.alobaidan.org -

الصفح و الإحسان عن الآخرين

الصفح والإحسان عن الآخرين

 

يختلف الناس في تعاملهم مع من يسئ إليهم، ويعتدي عليهم، على نحوين:

الأول: من يقابل الإساءات التي أصابته بعفو وتنازل وصفح ومسامحة، فلا يرتب أثراً على التصرفات التي أصابته ووقعت عليه.

الثاني: من يتوعد رد الصاع بمثله، أو زيادة عنه، ويقابل ما وقع عليه من فعل بمثله، أو أكثر من ذلك.

وقد يكون الطرفان ممن وقع عليهما الأذى النفسي والجسدي من الضرب مثلاً، وغيره، لكنهما يختلفان في الجانب المعنوي، إذ يبقي أصحاب النحو الثاني أنفسهم سجناء للأحقاد والأضغان، يعيشون معها، ولا ينفكون عنها، يسعون كثيراً لتغذيتها وزيادتها دائماً، بينما يعمد أصحاب النحو الأول إلى تطهير أنفسهم من آثار ورواسب الأحقاد والأغلال، والكراهية.

ومن الطبيعي أن يختلف النحوان من حيث الراحة والاستقرار، فإن أصحاب النحو الثاني سوف يعيشون هاجس الانتقام، فهم في قلق دائم مستمر، بخلاف أصحاب النحو الأول، فإنهم يعيشون استقراراً وهدوءاً.

من هنا يتضح مدى أهمية العفو والصفح عن المسيئين والتنازل عنهم، وهو خلق قرآني، بل إن العفوّ أحد أسماء الله سبحانه وتعالى، فإذا كان خلق الباري سبحانه العفو، فالحري بالمؤمن أن يتخلق ويتصف به.

معنى العفو:

وليس العفو مجرد إسقاط الإنسان حقه عن الآخر، فلا يطالب من أساء إليه أو آذاه شيئاً، وإنما العفو إزالة كل ما في النفس من أثر بعد إسقاط ما له من حق عليه، فلا يبقى في نفسه عليه شيء أبداً.

وقد حث القرآن الكريم على أهمية هذا الخلق، فقال تعالى:- (فمن عفا وأصلح فأجره على الله)[1] [1]، وقد فسرت بعض النصوص أجر الله سبحانه وتعالى بأنه الجنة، فعن رسول الله(ص) أنه قال: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: من كان أجره على الله فليدخل الجنة. فيقال: من ذا الذي أجره على الله، فيقال: العافون عن الناس، فيدخلون الجنة بغير حساب.

وقال سبحانه وتعالى:- (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم)[2] [2]، فالعفو عن الناس طريق لعفو الله سبحانه وتعالى. بل يستفاد من قوله تعالى:- (خذ العفو)[3] [3]، أن تكون صفة العفو ملكة وسجية دائمة عند الإنسان.

 

موارد العفو:

وقد اشتملت النصوص الشريفة على تعداد بعض المصاديق لجريان العفو فيها، نشير لبعضها:

 

منها: العفو عن المسيء:

من دون تحديد لنوع الإساءة الصادرة عنه، فقد يكون المسيء جاراً، أخطأ بالتعدي على شيء من حقوقك الخاصة في الوقوف على باب بيتك مثلاً، وقد يكون زميلاً في العمل أخذ شيئاً من حاجياتك الخاصة، وقد يكون صديقاً أخطأ عليك حال اللقاء والاجتماع في مكان لقاءكم، أو غيرهم. وقد أشير للعفو عن المسيء في قوله تعالى:- (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله)، فقد عرض سبحانه وتعالى في الآية أمرين، فأشار إلى أنه يمكن لصاحب الحق أن يستوفي حقه فيأخذ مقابل ما وقع عليه من الأمر، ويمكنه أن يعفو ويصفح عمن أساء إليه، بإسقاط حقه الثابت له عليه. ولا ريب في أفضلية الثاني على الأول، فإن الفاعل له يكون أجره على الله سبحانه وتعالى.

 

ومنها: العفو عن الزوجة والأولاد:

إن طبيعة الحياة الأسرية يقضي بحصول بعض الأخطاء من الزوجة تجاه زوجها، كما يحصل ذلك من الزوج تجاهها أيضاً، وقد يحصل الخطأ من الأولاد تجاه أحد الأبوين، أو كليهما، ولا يحسن أن يكون الخطأ الصادر من أحد أفراد الأسرة تجاه الآخر سبباً للقطيعة والابتعاد، لأن ذلك يوجب تفككها واحلال وحدتها الترابطية المطلوبة، لذا لابد أن يعمد إلى الصفح والعفو عن المسيء، ومقابل إساءته بالإحسان إليه وتوجيهه لما ينبغي أن يكون عليه والسلوك الذي يلزمه اتباعه واتخاذه. وقد تضمنت بعض النصوص عدّ عفو الزوج عن خطأ زوجته واحداً من حقوقها الثابتة عليه.

 

خاتمة:

بقي أن يشار في الختام إلى تساؤل، ربما عرض في البين، حاصله: إن مقابلة الخطأ الحاصل من المسيء أياً كان زوجة أو زوجاً أو ولداً، أو أفراد المجتمع، والعفو والصفح عنه، يوجب تمادي هؤلاء في أخطاءهم، واستمرارهم على ما هم عليه، وهذا يوجب اختلالاً في التوازن الاجتماعي، وإخلالاً بالنظام وفقداً لجانبه الأمني.

ويجاب عنه، بأنه لابد من تحديد موارد جريان العفو والصفح عن الآخرين، وملاحظة الآثار المترتبة على ذلك، فإن لها مدخلية في جريان العفو في مورد ما، وحسنه من عدمه، لذا ينبغي التفصيل بين موارد ثلاثة:

الأول: أن يكون العفو سبباً لإصلاح المسيء، ولا ريب في حسن العفو في هذه الحالة، وأنه من مصاديق ما تقدم ذكره.

الثاني: أن يكون العفو سبباً لإخماد فتنة، أو علاج نزاع وشقاق بين الناس، أو القبائل، أو الجماعات، وهذا كسابقه أيضاً من حيث الحسن والمقبولية، وأنه مصداق لما تقدم ذكره من العفو.

الثالث: أن يكون العفو مضراً بالمسيء غير نافع له، لأنه يزيده سوءاً، ويجعله يتمادى في أخطاءه، وارتكابه للحماقات والإساءات، فليس من الحكمة والحال هذه العفو عنه، يقول أمير المؤمنين(ع): العفو يفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم.

 

 

———————-

[1] [4] سورة الشورى الآية رقم 40.

[2] [5] سورة النور الآية رقم 22.

[3] [6] سورة الأعراف الآية رقم 199.