- موقع سماحة العلامة الشيخ محمد العبيدان القطيفي - https://www.alobaidan.org -

الإمام العسكري(ع) بين البداء والنص

الإمام العسكري(ع) بين البداء والنص

 

ربما يتوهم البعض وجود مشكلة عند الشيعة الإمامية حول مسألة إمامة الإمام الحسن بن علي العسكري(ع)، ومنشأ ذلك أمران:

الأول: ما تضمنته النصوص الشريفة المتحدثة عن صفات الإمام وأنه الأكبر من أولاد الإمام السابق من دون أن يكون مصاباً بعاهة أو مرض.

الثاني: ما صدر من الإمام علي بن محمد الهادي(ع)، لولده الإمام الحسن العسكري(ع) بقوله: يا بني أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً.

وقد كان أكبر أولاد الإمام علي الهادي(ع) هو السيد محمد(رض)، وهذا قد يوهم أنه هو الإمام بعد أبيه الإمام الهادي(ع)، كما أن مقتضى قول الإمام الهادي(ع) إلى الإمام العسكري(ع) يشير إلى حصول تغيـير فبعدما كانت الإمامة في السيد محمد(رض) صارت إليه بعد وفاته.

ولا يخفى أن تمامية ما ذكر، تعتمد على توفر أمور ثلاثة:

الأول: أن يكون هناك نصوص دالة على إمامة السيد محمد بن الإمام الهادي(ع).

الثاني: أن لا يوجد في البين نصوص دالة على إمامة الإمام الحسن العسكري(ع).

الثالث: بيان المقصود من قول الإمام الهادي(ع): يا بني أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً.

 

نفي إمامة السيد محمد:

إن الرجوع للنصوص المباركة، يفيد أمراً خلاف الوهم المذكور، فإنها قد تضمنت نفياً لإمامة السيد محمد بعد الإمام الهادي(ع)، ونصت على خلاف ذلك، فقد روى النوفلي، قال: كنت يوماً مع أبي الحسن(ع) في صحن داره، فمر بنا محمد ابنه، فقلت له: جعلت فداك هذا صاحبنا بعدك؟ فقال: لا، صاحبكم بعدي الحسن[1] [1]. فإن دلالة الخبر على عدم كون الإمام بعد الإمام الهادي(ع)، هو السيد محمد(رض) بالنص، لقول الإمام(ع): لا. فإن هذا التعبير صريح في نفي إمامته.

ولا يبعد أن يكون منشأ سؤال الراوي هو ما أشرنا إليه في البداية من أن الإمام بعد الإمام هو أكبر أولاد الإمام المعصوم(ع)، وقد كان أكبر أولاد الإمام الهادي(ع) في ذلك الوقت هو السيد محمد(رض).

نعم قد يقال بأن منشأ ذلك ليس ما ذكرتموه، وإنما هو ما رواه الشيخ(ره) في كتابه الغيبة، عن أبي هاشم الجعفري(رض) قال: كنت عند أبي الحسن العسكري(ع)، وقت وفاة ابنه أبي جعفر، وقد كان أشار إليه ودل عليه، وإني لأفكر في نفسي وأقول: هذه قصة أبي إبراهيم وقصة إسماعيل، فأقبل عليّ أبو الحسن(ع) وقال: نعم يا أبا هاشم! بدا لله في أبي جعفر وصيّر مكانه أبا محمد، كما بدا له في إسماعيل بعد ما دل عليه أبو عبد الله(ع)، ونصبه[2] [2]. فقد تضمنت ذكر أبي هاشم أن الإمام الهادي(ع)، قد أشار إلى السيد محمد، ودل على أنه هو الإمام بعده. كما تضمنت أيضاً أن الله تعالى صير أبا محمد(ع) مكان أبي جعفر(رض).

 

إلا أنه يمنع من الاستناد للخبر المذكور أمور:

أولها: أن هذه الرواية قد نقلها المسعودي في كتابه إثبات الوصية بصورة مغايرة لما تضمنه نقل الشيخ(ره) لها، فقد جاء فيه: عن أبي هاشم الجعفري، قال: كنت عند أبي الحسن لما مضى ابنه محمد، ففكرت في نفسي فقلت: كانت قصة أبي محمد مثل قصة إسماعيل وأبي الحسن موسى(ع)، فالتفت إليّ فقال: نعم يا أبا هاشم! هو كما حدثتك نفسك، وإن كره المبطلون، أبو محمد ابني الخلف من بعدي، عنده علم ما يحتاج إليه، ومعه آلة الإمامة، والحمد لله رب العالمين[3] [3]. ومن المعروف أن الشيخ المسعودي(ره) سابق زماناً على الشيخ الطوسي(قده)، وهو أقرب إلى عصر الصدور، وهذا يجعل المصادر المعتمد عليها من قبله أقل خطئاً من المصادر التي اعتمدها الشيخ(قده).

وكذلك نقلها الكليني(ره) أيضاً بصورة مغايرة عن نقل الشيخ(قده)، فقد جاء في الكافي، عن أبي هاشم الجعفري، قال: كنت عند أبي الحسن(ع) بعدما مضى ابنه أبو جعفر، وإني لأفكر في نفسي أريد أن أقول: كأنهما-أعني أبا جعفر وأبا محمد-في هذا الوقت كأبي الحسن موسى وإسماعيل، ابني جعفر بن محمد(ع)، وإن قصتهما كقصتهما، إذ كان أبو محمد المرجى بعد أبي جعفر(ع) فأقبل عليّ أبو الحسن قبل أن أنطق، فقال: نعم يا أبا هاشم! بدا لله في أبي محمد بعد أبي جعفر ما لم يكن يعرف له، كما بدا له في موسى بعد مضي إسماعيل ما كشف به عن حاله، وهو كما حدثتك نفسك، وإن كره المبطلون، وأبو محمد ابني الخلف من بعدي، عنده علم ما يحتاج إليه ومعه آلة الإمامة[4] [4].

إن قلت: إن النصين المذكورين وإن لم يتضمنا ما جاء في كتاب الغيبة للشيخ(ره) من الإشارة إلى السيد محمد والدلالة عليه، إلا أن حديث أبي هاشم في نفسه، يكشف عن أن هناك سبباً دعاه إلى ذلك، وإلا لن يكون حديث النفس لو لم يكن هناك ما يشير إليه، وهذا ما تضمنه خبر الغيبة، من الإشارة إلى أبي جعفر والدلالة عليه.

 

ومن المعروف في علم الحديث أنه يمكن التصرف في متن الحديث بنقل شيء منه استناداً لبعض القرائن الحافة والمحيطة به الدالة عليه، ولذا لا يبعد أن يكون العلمان المسعودي، والكليني(ره) قد حذفا الزيادة التي تضمنها نص الغيبة، اعتماداً على حديث النفس الحاصل عند أبي هاشم(رض)، لأنه لن يكون من دون مقدمات أوجبت حصوله.

قلت: إن من المسلمات أن حديث النفس الذي حصل لأبي هاشم(رض)، لم يكن من فراغ، وإنما حصلت نتيجة أمارات ودلائل ساعدت على وجوده، إلا أنه ليس شرطاً أن تكون تلك الأمارات عبارة عن نص الإمام الهادي(ع) على إمامة السيد محمد(رض)، بل من المحتمل جداً أن يكون منشأها العمومات الموجودة في ميزان معرفة الحجة، والتي تضمنت أن إحدى أمارات الإمام بعد الإمام أن يكون أكبر الأولاد السليم من المرض والعاهة، ولم يكن السيد محمد(رض) مبتلى بشيء حتى يتوهم عدم شمول الأمر إليه.

والحاصل، إن مجرد حديث النفس لا يوجب أن يكون ما تضمنه كتاب الغيبة من الزيادة موافقاً لما جاء في كتابي إثبات الوصية، والكافي، بل لا زال الاختلاف حاصلاً بين المصادر الثلاثة، وهذا يمنع من الاستناد لما جاء في كتاب الغيبة.

ثانيها: إن ما تضمنه خبر الغيبة من نص الإمام الهادي(ع) على أبي جعفر(رض)، ينافي غيره من النصوص الدالة على عدم صدور ذلك منه(ع)، فلاحظ خبر النوفلي الذي ذكرناه في مطلع الحديث. وعندها لو بني على حجية خبر الغيبة، فسوف يعمد إما إلى تأويل أحدهما، أو يلجأ للترجيح بعد البناء على حجية كليهما.

وقد عمد الشيخ(ره) إلى تأويل، خبر الغيبة بما يجعله موافقاً لما عليه الطائفة المحقة، من النص على إمامة الإمام الحسن العسكري(ع)، دون السيد محمد(رض)، فقال(قده): ما تضمنه الخبر المتقدم من قوله: بدا لله في محمد كما بدا في إسماعيل، معناه: ظهر من أمر الله وأمره في أخيه الحسن، ما أزال الريب والشك في إمامته، فإن جماعة من الشيعة كانوا يظنون أن الأمر في محمد من حيث كان الأكبر، كما  كان يظن جماعة أن الأمر في إسماعيل بن جعفر دون موسى(ع)، فلما مات محمد أظهر أمر الله فيه، وأنه لم ينصبه إماماً، كما ظهر في إسماعيل مثل ذلك، لا أنه كان نص عليه، ثم بدا له في النص على غيره، فإن ذلك لا يجوز على الله تعالى العالم بالعواقب[5] [5].

ثالثها: إنه بعد رفع اليد عما تقدم، والبناء على اعتبار خبر كتاب الغيبة، ومعارضته بخبري إثبات الوصية والكافي، وأن بين متون المصادر الثلاثة اختلافا، فيتفق كتابا إثبات الوصية، والكافي في المتن، ويخالفهما كتاب الغيبة فيه، وهذا يستدعي المعارضة بين أصلين عقلائين في المقام، وهما أصالة عدم الغفلة في جانب الزيادة في كتاب الغيبة، وأصالة عدم الغفلة في جانب النقيصة في كتابي إثبات الوصية والكافي، ومع عدم وجود مرجح لأحد الأصلين على الآخر، فلا مناص من تساقطهما، الموجب لسقوط الخبر بمتنيه الزائد والناقص، وبالتالي لا يكون في البين ما يدل على النص على إمامة السيد محمد ابن الإمام الهادي(ع).

وهذا الجواب مبني على التسليم بكون الأصلين المذكورين من الأصول العقلائية المعتمدة، مع أن الصحيح خلاف ذلك، وهذا يعني أنه يلزم التدقيق حال المعارضة في مثل هكذا موارد، والبحث عن موجبات ترجح أحد المصادر المتعارضة، ومن الواضح جداً أن الترجيح سوف يكون مع كتاب الكافي للشيخ الكليني(ره)، لما له من مكانة خاصة عند الطائفة الشيعية نشأت من المنهجية المتبعة من قبل مؤلفه في كتابته وتأليفه، ودقته في التتبع، وقلة الأخطاء فيه، بخلاف ما يقال في شأن مؤلفات الشيخ الطوسي(ره)، حتى قيل أن كثرة مؤلفات الشيخ(ره)، وتعددها في مجالات متعددة، أوجبت كثرة الأخطاء فيها، والعصمة لأهلها.

رابعها: إنه بعد التسليم برفع اليد عن جميع ما ذكر، فإن أقصى ما يتصور أن تقع المعارضة بين نص كتاب الغيبة الدال على إمامة أبي جعفر السيد محمد(رض)، وبين النصوص الدالة على إمامة الإمام الحسن العسكري(ع)، ولا ريب أن الترجيح عندها سوف يكون لنصوص إمامة الإمام الحسن العسكري(ع)، لأنها تمثل سنة قطعية بسبب كثرتها، ولا يعارضها الخبر الظني، فضلاً عن كونه واحداً.

 

وريما يجاب عن نص الغيبة، بأنه من النصوص التي تعرضت للتصرف في متنها، بحيث تكون منسجمة صدراً وذيلاً، لظن الرواة أو النساخ أن فيها نقصاً يستدعي الإيضاح، فعمدوا إلى زيادة في المتن ترفع الإبهام والإيهام المتصور فيه، توضيح ذلك: لقد وجد النساخ أو الرواة أن قول الإمام(ع): نعم يا أبا هاشم، قد بدا لله في أبي محمد بعد أبي جعفر…ألخ…، لا ينسجم مع ما جاء في صدر الحديث من حديث النفس الحاصل لأبي هاشم، لأنه لا يكون مستنداً إلى منشأ يعول عليه، لذا فسروا البداء، بمعناه اللغوي، وهو حصول التغيـير والتبديل، وهذا يستدعي أن يكون الإمام(ع) قد أشار إلى أبي جعفر السيد محمد(رض)، ودل عليه، ليكون منسجماً مع البداء المذكور في كلام الإمام(ع).

وهو ممنوع، لأنه يستدعي الإيمان بالبداء الذي لا تقول به الشيعة الإمامية، وهو أن يعلم الله سبحانه وتعالى بعد جهل كان حاصلاً. مضافاً إلى أنه يستوجب أن يكون الإمام المعصوم(ع)، غير عارف بخليفته، وهذا ينافي العديد من النصوص الموجودة عندنا والدالة على أن الأئمة الأطهار(ع) كانوا معروفين بأسمائهم(ع)، ومنصوص عليهم بذلك من الله سبحانه وتعالى، وقد أخبر بذلك نبيه الكريم محمد(ص).

 

منع حجية خبر الغيبة:

وقد بنى بعض الباحثين(وفقه الله) على سقوط خبر الغيبة عن الحجية، لاشتماله على ما لا يمكن الالتـزام به، وهو دلالة الإمام الهادي(ع)، وإشارته إلى إمامة السيد محمد(رض)، وهذا مانع من القبول به، قال(حفظه الله): هذه الرواية تشتمل على يوجب طرحها، لا تأويلها[6] [6]، إذ قال الراوي فيها: وقد كان أشار إليه ودل عليه، أي أن الهادي قد أشار إلى ولده محمد(ره)، ودل عليه، كما أشار أبو عبد الله(ع) من قبل إلى إسماعيل ونصّبه، ومما لا شك فيه أن أبا عبد الله الصادق(ع) لم ينصّب ولده إسماعيل للإمامة، بل هذه الدعوى هي دعوى الإسماعيلية، ثم ربطت بالبداء، وجعلت مثالاً له من قبل المغرضين، لتشويه مسألة البداء عند الشيعة الإمامية، وقد أجمع الشيعة على تكذيبهم في تلك الدعوى[7] [7].

ومن المعلوم أنه إنما تصل النوبة لطرح الخبر المذكور حال التسليم بأن متنه سليم، أما وفقاً لما عرفت من احتمالية تعرض متنه للتصرف، بشهادة ما جاء في نصي إثبات الوصية، والكافي، فإنه لن تصل النوبة لطرح الخبر.

وأما مسألة أن الإمامة تكون في أكبر الأولاد، فإنها حق، إلا أن هناك من توهم أن المقصود منه مطلق أكبر الأولاد، وليس الأمر كذلك، بل يراد منه أكبر أولاد الإمام(ع) حين شهادته، وخروجه إلى عالم الملكوت.

 

النص على الإمام العسكري(ع):

ودفعاً لوهم من يتوهم، أنه لا توجد نصوص دالة على إمامة الإمام الحسن العسكري(ع)، وأنه قد نص عليه من قبل الإمام الهادي(ع)، نشير لبعض النصوص:

منها: ما رواه يحيى بن يسار القنبري، قال: أوصى أبو الحسن(ع) إلى ابنه الحسن قبل مضيه بأربعة أشهر، وأشهدني على ذلك وجماعة من الموالي[8] [8]. وهو واضح الدلالة على أن الخليفة بعد الإمام الهادي(ع)، وصاحب منصب الإمامة، هو الإمام العسكري(ع). وبكلمة جامعة، إن الحديث المذكور نص في إمامة الإمام العسكري(ع) بعد أبيه(ع).

ومنها: ما رواه عبد الله بن محمد الأصفهاني، قال: قال أبو الحسن(ع): صاحبكم بعدي الذي يصلي علي، قال: ولم نعرف أبا محمد قبل ذلك، قال: فخرج أبو محمد فصلى عليه[9] [9]. ولم ينص الإمام(ع) على الإمام من بعده بالاسم وإنما استخدم أسلوباً قرآنياً بالإشارة للحجة من خلال بعض العلامات، وقد ذكر علامة ذلك أنه الذي يتولى الصلاة عليه، لما هو المعلوم عند عامة الشيعة أن الإمام المعصوم(ع)، لا يلي أمره إلا إمام معصوم مثله، وهذا يدل على أن من يقوم بالصلاة على الإمام الهادي(ع)، هو الإمام من بعده، وقد تصدى لذلك الإمام العسكري(ع).

وأما قول الراوي: ولم نكن نعرف أبا محمد قبل ذلك، ففيه احتمالان:

الأول: الإشارة إلى استعمال الإمام الهادي(ع) التقية بعدم التصريح باسم الإمام العسكري(ع)، والإشارة إليه مباشرة حذراً من أن يؤخذ وخوفاً عليه من الخطر المحذق، لوجود من لا يؤمن جانبه عليه لو صرح الإمام(ع) باسمه ودل عليه مباشرة.

الثاني: أن لا يكون الراوي من سكان سر من رأى، ولذا لم يكن عارفاً بأبناء الإمام الهادي(ع) تفصيلاً، ولذا لم يكن عارفاً بالإمام العسكري(ع).

وقد يحتمل أيضاً أن يكون حجب الإمام العسكري(ع) عن الأصحاب، مع كونه الإمام المنصوب من قبل الله تعالى على لسان نبيه الكريم(ص)، نحواً من أنحاء التمهيد للغيبة التي سيكون فيها الإمام بعد الإمام العسكري(ع).

والجزم بأحد الاحتمالات صعب، سيما أن كل واحد منها له وجه وجيه، نعم تحديد أي واحد منها ليس له تأثير على دلالة النص على الإشارة إلى إمامة الإمام العسكري(ع).

ومنها: ما رواه أبو بكر الفهفكي، قال: كتب إليّ أبو الحسن(ع): أبو محمد ابني أنصح آل محمد غريزة[10] [10] وأوثقهم حجة وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف وإليه ينتهي عرى الإمامة وأحكامها، فما كنت سائلي فسله عنه، فعنده ما يحتاج إليه[11] [11]. ولم يكتف الإمام الهادي(ع) في هذا الحديث بالنص على إمامة الإمام العسكري(ع)، بل أشار إلى اشتماله على صفتين من الصفات المعتبرة في قانون معرفة الحجة:

الأولى: أنه أكبر أولاد الإمام(ع) حين رحلته عن عالم الدنيا.

الثانية: أنه أعلم أهل زمانه، فلو سئل عن أي شيء فسوف يجيب عنه، فكما كان الإمام الهادي(ع) أعلم أهل زمانه، وأنه يمكنه الإجابة على كل سؤال يعرض عليه، فكذلك الإمام العسكري(ع).

 

ومنها: ما رواه شاهويه بن عبد الله الجلاب، قال: كتب إليّ أبو الحسن في كتاب: أردت أن تسأل عن الخلف بعد أبي جعفر، وقلقت لذلك فلا تغتم فإن الله عز وجل: (لا يضل قوماً إذا هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) وصاحبك بعدي أبو محمد ابني وعنده ما تحتاجون إليه، يقدّم ما يشاء الله ويؤخر ما يشاء الله: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها)، قد كتبت بما فيه بيان وقناع لذي عقل يقظان[12] [12]. والمستفاد من النص أن هناك وهماً كان عند الراوي نشأ من النصوص الواردة في قانون معرفة الحجة من أن الإمام بعد الإمام هو أكبر الأبناء، ولما كان السيد محمد(رض) هو أكبر أبناء الإمام الهادي(ع) فقد توهم الراوي أنه هو الإمام بعده، وقد أوجبت وفاته قلقاً عند الراوي بسبب خوفه أن تنقطع سلسلة الإمامة، وحذراً من وقوعه في الحيرة ابتدأه الإمام(ع) فكتب إليه ليرفع عنه ذلك، ويخبره أن أمر الإمامة لن ينقطع، لأن الخلف لم يكن أبو جعفر السيد محمد(رض)، بل الخلف هو الإمام أبو محمد الحسن العسكري(ع)، وقد استخدم الإمام(ع) البرهان والاستدلال من خلال ذكر الآيات الشريفة، فأكد على أن الهداية التي حصلت للناس بالإمامة لا يمكن أن تنقطع لأن الله تعالى لن يضل قوماً قد هداهم إلى الصراط المستقيم.

ولا تنحصر النصوص الدالة على إمامة الإمام الحسن العسكري(ع) في خصوص ما جاء في كتاب الكافي، بل هناك نصوص أخرى في مصادر متعددة، وهي من الكثرة بمكان، بحيث يجزم الباحث بأنها مستفيضة، بل لا يبعد أنها قريبة جداً من التواتر، فمن تلك النصوص ما جاء في كتاب العلل، بسنده عن أبي هاشم الجعفري، قال: سمعت أبا الحسن العسكري(ع) يقول: الخلف من بعدي الحسن ابني فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف، قلت: ولم؟ جعلني الله فداك، فقال: لأنكم ترون شخصه ولا يحل لكم ذكره باسمه. قلت: فكيف نذكره، فقال: قولوا الحجة من آل محمد صلوات الله وسلامه عليه[13] [13].

 

وجاء في كتاب كمال الدين، بسند ينتهي إلى الصقر ابن أبي دلف، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الرضا يقول: إن الإمام بعدي ابني علي، أمره أمري، وقوله قولي، وطاعته طاعتي، والإمام بعده ابنه الحسن، أمره أمر أبيه، وقوله قول أبيه، وطاعته طاعة أبيه. ثم سكت. فقلت له: يا ابن رسول الله، فمن الإمام بعد الحسن؟ فبكى(ع) بكاء شديداً، ثم قال: إن من بعد الحسن ابنه القائم بالحق المنتظر الحديث[14] [14]. ويدل هذا الحديث على النص على الإمام العسكري(ع) من قبل الإمام الجواد(ع)، وهو صريح في المطلوب.

ولا ينحصر الطريق في اثبات إمامة الإمام العسكري(ع) في خصوص النصوص الصادرة عن الإمام الهادي(ع)، فإن هناك طريقين آخرين:

الأول: النصوص التي تضمنت ذكر الأئمة(ع) بأسمائهم، بدءاً من أمير المؤمنين(ع) وانتهاء بولي النعمة مولاي صاحب الزمان(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، وهي نصوص غير قليلة، ذكرت في أكثر من مصدر، نعرض عن ذكرها حذراً من الإطالة[15] [15].

الثاني: المعاجز والكرامات التي ظهرت على يديه(ع) سيما ما كان منها في مورد التحدي، وهذا يقف عليه كل من يقرأ سيرته العطرة(ع).

 

تنبيه تنويه:

ويحسن التنويه في البين إلى أمر قد يغفل عنه كثيرون، وهو أنه قد جرت سيرة قدماء أعلامنا عند كتابة سيرة المعصومين(ع)، التركيز على عرض ما جرى على يدي كل واحد منهم من الكرامات والمعاجز، من دون تعقيب عليها بشيء ما يجعل البعض يعتقد أنها مجرد قصص منقولة، أو فضيلة وكرامة محكية، ويغفل أنها تعد أحد الأدلة المعتمدة لإثبات منصب الإمامة، وأن جريان هذه الكرامات والمعاجز على يد شخص تعتبر أحد الأدلة والشواهد لإمامته ما دام يدعي لنفسه الإمامة.

 

أحدث لله شكراً:

ووفقاً لما تقدم من وجود النص على إمامة الإمام الحادي عشر أبي محمد العسكري(ع)، وهي من الكثرة بمكان، يبقى تحديد المقصود من المقول الصادر من الإمام الهادي(ع)، لولده الإمام العسكري(ع): يا بني أحدث لله شكراً، فقد أحدث فيك أمراً.

وقد ورد هذا التعبير في نصوص:

منها: ما جاء في الكافي بسنده عن جماعة من بني هاشم، منهم الحسن بن الحسن الأفطس، أنهم حضروا يوم توفي محمد بن علي بن محمد، باب أبي الحسن يعزونه وقد بسط له في صحن داره والناس جلوس حوله، فقالوا: قدّرنا أن يكون حوله من آل أبي طالب وبني هاشم وقريش مائة وخمسون رجلاً سوى مواليه وسائر الناس، إذ نظر إلى الحسن بن علي قد جاء مشقوق الجيب حتى قام عن يمينه ونحن لا نعرفه فنظر إليه أبو الحسن(ع) بعد ساعة، فقال: يا بني أحدث لله عز وجل شكراً فقد أحدث فيك أمراً فبكى الفتى وحمد الله واسترجع وقال: الحمد لله رب العالمين، وأنا أسال الله تمام نعمه لنا فيك، وإنا لله وإنا إليه راجعون، فسألنا عنه فقيل: هذا الحسن ابنه، وقدرنا له في ذلك الوقت عشرين سنة، أو أرجح فيومئذٍ عرفناه وعلمنا أنه قد أشار إليه بالإمامة وأقامه مقامه[16] [16]. ويجري في التعبير الذي ورد في النص من عدم معرفة الإمام العسكري(ع) لجمهور الشيعة المحتملات التي تقدم ذكرها، وإن كان الاحتمال الثالث أقربها، وأن هذا نحو من أنحاء التمهيد للغيبة المظلمة التي ستقع على الشيعة.

ومنها: ما جاء فيه أيضاً، عن علي بن جعفر، قال: كنت حاضراً أبا الحسن(ع) لما توفي ابنه محمد فقال للحسن: يا بني أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً[17] [17].

ومنها: ما جاء في كتاب الغيبة لشيخ الطائفة(ره)، عن ابن أبي الصهبان، قال: لما مات أبو جعفر محمد بن علي بن محمد بن علي بن موسى(ع)، وضع لأبي الحسن علي بن محمد(ص) كرسي فجلس عليه، وكان أبو محمد الحسن بن علي(ع) قائماً في ناحية فلما فرغ من غسل أبي جعفر التفت أبو الحسن إلى أبي محمد(ع)، فقال: يا بني أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً[18] [18].

وعلى أي حال، فإن المراجع للنصوص الشريفة يقف على أن بعض أصحاب الإمام الهادي(ع) كان يعتقد أن الإمامة في أبي جعفر السيد محمد(رض)، وقد سمعت شيئاً منها في استعراض النصوص الدالة على إمامة الإمام الحسن العسكري(ع)، ومنشأ ذلك يعود لأنه أكبر أبناء الإمام(ع)، وقد عمد هؤلاء إلى تطبيق المورد على الكبرى الكلية التي تضمنت تعداد علامات الحجة والإمام بعد الإمام في قانون معرفة الحجة، وقد أوجب ذلك حصول هذا الظن عندهم. مع أن الإمام العسكري(ع) هو أكبر الأبناء حال وفاة الإمام الهادي(ع)، وليس المراد مطلق الأكبر، ولو لم يكن موجوداً في عالم الدنيا.

 

ولما كان الإمام الهادي(ع) يعلم أن السيد محمد سوف يتوفى في حياة أبيه، وأن أكبر الأبناء سوف يكون عند وفاة الإمام(ع) هو الإمام العسكري(ع)، قال له أحدث لله شكراً، لأن الله تعالى قد أظهر ما كان خافياً غير معلوم عند الناس، فمنع ذلك من حصول شبهة عند من كان يظن أن الإمامة فيه، ومن الطبيعي أن هذه نعمة تستحق أن يشكر الله سبحانه وتعالى عليها، إذ أنه عز وجل منع من حصول هذه الفتنة والاشتغال بها لرفعها من أذهان الناس، كما حصل للإمام الكاظم(ع) مع عبد الله الأفطح.

وبالجملة، فليس المقصود من تعبير الإمام(ع)، أنه يلزمك الشكر لله سبحانه، لأنه قد حصل له تعالى تغير وتبدل في علمه، وهو البداء الذي لا يقول به الشيعة، لأنه ينسب لله تعالى العلم بعد الجهل، تعالى الله سبحانه عن ذلك علواً كبيراً.

وهذا هو المقصود من البداء الذي تضمنته بعض النصوص المتقدمة، أعني انتفاء الخفاء وحصول الوضوح والظهور بعد الغموض.

وقد تحصل مما تقدم، أنه لم يكن هناك خفاء في إمامة الإمام العسكري(ع)، ويؤيد ذلك، بل يدل عليه ما ذكره المؤرخ النوبختي في كتابه فرق الشيعة، حيث قال: إن سائر أصحاب الإمام علي بن محمد الهادي، قالوا بإمامة الحسن بن علي(ع)، وثبتّوا له الإمامة بوصية أبيه[19] [19].

 

 

[1] [20] الكافي ج 1 كتاب الحجة باب الإشارة والنص على أبي محمد(ع) ح 2 ص 325.

[2] [21] الغيبة ح 2 ص 325.

[3] [22] إثبات الوصية القسم الثاني الحسن العسكري(ع) ص 244.

[4] [23] الكافي ج 1 باب الإشارة والنص على أبي محمد(ع) ح 10 ص 327.

[5] [24] الغيبة ص 201 أخبار وفاة محمد في حياة أبيه الإمام علي النقي(ع).

[6] [25] تعريض بما صدر من الشيخ(ره)، من تأويل الرواية بما يكون منسجماً مع ما عليه الطائفة المحقة، كما قد سمعت.

[7] [26] شبهات وردود للسيد سامي البدري(حفظه الله) الحلقة الأولى ص 81 الفصل السادس.

[8] [27] الكافي ج 1 كتاب الحجة باب الإشارة والنص على أبي محمد(ع) ح 1 ص 325.

[9] [28] المصدر السابق ح 3 ص 326.

[10] [29] المقصود من الغريزة في المقام بمعنى الطبيعة، ومعنى أنه(ع) أنصح طبيعة، يعني أنه أصفى وأخلص طبيعة في آل محمد(ص).

[11] [30] الكافي ج 1 كتاب الحجة باب الإشارة والنص على أبي محمد(ع) ح 11 ص 327.

[12] [31] الكافي كتاب الحجة باب الإشارة والنص على أبي محمد(ع) ح 12 ص 328.

[13] [32] علل الشرائع ج 1 ص 245.

[14] [33] كمال الدين تمام النعمة ص 378.

[15] [34] الكافي ج 1 ص 525-528. كمال الدين وتمام النعمة ص 253. أمالي الصدوق ص 419-420. توحيد الصدوق ص 81-82.

[16] [35] الكافي ج 1 ص 327.

[17] [36] المصدر السابق ص 326.

[18] [37] الغيبة للشيخ الطوسي ص 203.

[19] [38] فرق الشيعة ص 104.