28 مارس,2024

آية التطهير (2)

اطبع المقالة اطبع المقالة

تقدم الحديث في الدرس السابق،حول النقطة الأولى،وهي منع كون الآية ناظرة إلى زوجات النبي(ص)وبينا ذلك بشيء من التفصيل،كما أشرنا لما يمنع عن كونها كذلك،وإن كانت واردة في سياق الآيات المتحدثة عن زوجات النبي(ص).

وقلنا أنه لكي يكون ما ذكرناه برهانياً،وليس مجرد دعوى عارية عن الشاهد والإثبات،نحتاج أن نلحظ أراء بعض العارفين بالقرآن الكريم،وأسلوبه ومنهجه،وحبذا لو كان هؤلاء المستشهد بأرائهم من الطبقة الأولى المعاصرة للنبي(ص)،بل لو كانت إحدى الشهادات صادرة من زوجة من زوجات رسول الله(ص)اللاتي يدعى في حقهن نزول الآية لتمنع عن ذلك فإنه سيكون أبلغ.

وكيف لو كانت الشاهدة هي المرأة التي نزلت الآية في بيتها،وسألت رسول الله(ص)عن مدلوها ومن ثم قامت بنقلها للناس،لا أظن بعد ذلك يـبقى مجال للشك والريب في عدم كونها متعلقة بنساء النبي(ص).

رأي أم سلمة:

ومن الأفضل قبل عرض رأي هذه المرأة الصالحة الإشارة بنحو مختصر إلى شخصيتها الطاهرة،دفعاً لأي وهم قد يخدش بموضوعيتها في تبني رأيها من الآيات ومن هذه القضية،ولا يحمل الرغبة التي أبدتها في قصة حديث الكساء وآية التطهير محمل الهوى ورغبات النساء.

ورد عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع)في معرض حديثه عن نساء النبي(ص)أنه قال:أفضلهن خديجة بنت خويلد،ثم أم سلمة بنت الحارث[1].

وهي الوحيدة من نساء النبي(ص)التي ما توانت عن نصرة أمير المؤمنين(ع)،وقد كان أهل البيت(ع)يرونها أهلاً،لإطلاعها وائتمانها على أسرارهم.

وقد قامت هي نفسها بنقل أحاديث زاخرة بفضائل أمير المؤمنين(ع)،ولم يكن تعصب هذا وذاك ليمنعها عن الصدع بالحق.

ولعل نزول هذه الاية محل البحث في بيتها،بإتفاق الفريقين،خير شاهد على فضلها ومنـزلتها،وكفانا لإثبات تمتعها بروح مطمئنة ونفس مذعنة لرسول الله(ص).

ويوم الجمل قامت بكتابة رسالة إلى عائشة،تعد أفضل شاهد على علمها وفضلها ومعرفتها بالقرآن،إلى جانب بلاغتها وفصاحتها،وأنها امرأة عالمة عارفة بالقرآن،مطيعة لرسول الله(ص)،آمرة بالمعروف،ناهية عن المنكر،معلنة للحق،وساعية له،لا مغرضة ولا طامعة،تكن لأمير المؤمنين(ع)خالص الولاء والوفاء،متحرفة لنصرة الإسلام وانقاذ الأمة من الفتنة،وقد جاء في رسالتها:

إنك جنة بين رسول الله(ص)وبين أمته،وإن الحجاب دونك لمضروب على حرمته،وقد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه،وسكن عقيراك فلا تصحريها،لو أذكرتك قولة من رسول الله(ص)تعرفينها لنهشت بها نهش الرقشاء المطرقة،ما كنت قائلة لرسول الله(ص)لو لقيك ناصة قلوص قعودك من منهل إلى منهل قد تركت عهيداه وهتكت ستره،إن عمود الدين لا يقوم بالنساء،وصدعه لا يرأب بهن،حماديات النساءخفض الأصوات وخفر الأعراض،اجعلي قاعدة البيت قبرك حتى تلقينه وأنت على ذلك[2].

وأما رأيها:

فقد كانت تصرح بقول النبي(ص)لها أن هذه الاية لا تشملها،وأنها ليست من أهل البيت الذين أرادتهم الآية الشريفة.

رأي زيد بن صوحان:

لما وصلت عائشة إلى البصرة مع صحبها،كتبت إلى زيد بن صوحان تؤلبه على أمير المؤمنين(ع)،وقد أثبت هذه الرسالة ابن الأثير،وجوابها في الكامل في التاريخ،وذكرها المحقق التستري في كتابه قاموس الرجال في ترجمة لزيد بن صوحان،وذكرها غيرهما من كتب التراجم مع اختلاف يسير،ونحن ننقل هنا نص الكامل:

من عائشة أم المؤمنين حبيبة رسول الله إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان:أما بعد،فإذا أتاك كتابي هذا فأقدم فانصرنا،فإن لم تفعل فخذل الناس عن علي.

وزيد هذا من التابعين الذين لم يحظوا بصحبة النبي(ص)وهو الذي بشره رسول الله(ص)بالجنة لما قال فيه يوم مؤتة:يسبقه عضو منه إلى الجنة،فقطعت يده يوم مؤتة.

وقد أجابها زيد:أما بعد،فأنا ابنك الخالص،لئن اعتـزلت ورجعت إلى بيتك وإلا فأنا أول من نابذك[3].

وهذا الجواب يكشف بوضوح إحاطة عموم المسلمين بوظيفة وبواجب كل فئة منهم،ففي رؤية زيد كان يمكن لعائشة أن تكون أماً للمؤمنين وتتمتع بمميزات هذا اللقب،إذا ما قرت في بيتها وانشغلت بدور ربة البيت،وإن لم تفعل فليست للمؤمنين بأم ولا يمكن لزيد أن يكون ابناً لها.

وهذا الذي ذكره زيد فيه إشارة واضحة لما رسمه القرآن الكريم في آيات النساء،وخطه كمنهج وبرنامج عملي لنساء النبي(ص)فذكر عائشة بذلك،وطالبها بالرجوع إلى بيتها،وأن تترك أمر الرجال للرجال،ودون ذلك فلا حرمة لها ولا حق لها بالإفتخار بلقب(ام المؤمنين)،بل أشار زيد إلى وظيفة أخرى ملقاة على عاتق المسلمين في مثل هذه الحالات،وهي الأخذ على يد الناكث،وسل السيف في وجه عائشة ومنابذتها حتى يردها إلى بيتها ويجتث الفتنة.

هذا ويذكر الطبري أن زيداً كان يقول عقب هذه الرسالة:رحم الله أم المؤمنين،امرت أن تلزم بيتها وامرنا أن نقاتل فتركت ما امرت به وأمرتنا به وصنعت ما امرنا به ونهتنا عنه[4].

ونرى هنا أن زيداً يعلم بأن الاية الكريمة(وقرن في بيوتكن)تأبى لعائشة ما تكفلته من دور،وتحظر عليها ما تصدت له من مهمة ادعت أن الوظيفة والواجب الشرعي يمليه عليها،فركبت جملها وخرجت تدعي الطلب بدم عثمان،وهو يعلم كذلك أن آية(إنما يريد الله ليذهب…)أوكلت أمر زعامة الأمة وإمامتها لأمير المؤمنين الذي هو من أهل البيت،وأن عليه نصرة هذا الإمام و الدفاع عنه حينما تشتد المحنة ويحتدم الصراع في ميادين الحرب.

وهذا الحديث والفعل من زيد يكشف عن علمه بأن قضايا الإسلام المصيرية لم توكل إلى النساء،وبأن آية التطهير لم تطهر عائشة ولم تنـزهها،لأنها ما نزلت في شأنها،لذا فهو عَجِب مذهول،عَجَب استنكار وذهول ورفض من تصرفات عائشة.

فلو كان زيد يرى أن آية التطهير نازلة في عائشة،وأن الإرادة التكوينية لله سبحانه وتعالى عصمتهن عن الرجس والعيب والخطأ،ما كان ليصنف عملها هتكاً لحدود الله ومخالفة لأحكامه.

إن هذا التصرف الصادر من زيد وقتاله في صف علي(ع)وتصنيفه فعل عائشة بأنه هتك لحرمات الإسلام ومخالفة الشريعة الغراء،يعني رؤيته وفهمه أن آية التطهير لا تشمل عائشة وزوجات النبي(ص)،وأن الرعاية الربانية في العصمة والتـنـزيه تشمل علياً(ع)وبقية أهل البيت فقط.

رأي ابن عباس:

بعد انتصار أمير المؤمنين في حرب الجمل،بعث عبد الله ابن عباس إلى عائشة يأمرها بتعجيل الرحيل وقلة العرجة،قال ابن عباس:

فأتيتها وهي في بني خلف في جانب البصرة،فطلبت الإذن عليها فلم تأذن،فدخلت عليها من غير إذنها،فإذا بيت قفار لم يعد لي فيه مجلس،فإذا هي من وراء سترين فضربت ببصري فإذا في جانب البيت رحل عليه طنفسة،فمددت الطنفسة فجلست عليها،فقالت من وراء الستر:يا ابن عباس أخطأت السنة،دخلت بيتنا بغير إذننا وجلست على متاعنا بغير إذننا،فقال ابن عباس:نحن أولى بالسنة منك،ونحن علمناك السنة وإنما بيتك الذي خلفك فيه رسول الله(ص)فخرجت منه ظالمة لنفسك غاشة لدينك عاتبة على ربك عاصية لرسول الله(ص)فإذا رجعت إلى بيتك لم ندخله إلا بإذنك،ولم نجلس على متاعك إلا بأمرك…[5].

فهذا القول من ابن عباس وهو مفسر القرآن وحبر الأمة،يـبين لنا أن الآيات الواردة في نساء النبي(ص)حظرت عليهن التدخل في القضايا السياسية،وأنهن يفقدن اعتبارهن بل ويفقدن حتى ما للمرأة المسلمة العادية من احترام إذا ما تخلفن عن الإلتـزام بهذه الآيات والأحكام.

ولنكتفي بهذا المقدار من نقل أراء وعمل الطبقة الأولى من شخصيات الإسلام حول آيات نساء النبي(ص)،طلباً للإختصار.

دلالة آية التطهير:

ذكرنا أن الذي أرادته آية التطهير هو إناطة دور ومهمة خاصة بأهل البيت(ع)،وهي مهمة تتطلب الطهارة والنـزاهة في أعلى وأرفع مستوياتها،وهذه المهمة ليست إلا إمامة المسلمين وقيادتهم بعد الرسول الأكرم(ص).

وهذا المعنى هو الذي صرح به أهل البيت(ع)مراراً وتكراراً،ولنشر لبعض النماذج التي احتج فيها أهل البيت بآية التطهير لإثبات حقهم،في موارد الإحتجاج حول الخلافة:

1-في سقيفة بني ساعدة:

فبعد أن دبر الأمر بليل،احضر أمير المؤمنين(ع)ليـبايع،فاحتج عليهم،بقوله:يا معشر المهاجرين،الله الله،لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم،ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه،فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم،أما كان منا القارئ لكتاب الله،الفقيه في دين الله،العالم بالسنة،المضطلع بأمر الرعية،والله إنه لفينا،فلا تتبعوا الهوى فتـزدادوا من الحق بعداً.

فقال بشير بن سعد:لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا علي قبل بيعتهم لأبي بكر،ما اختلف عليك اثنان،ولكنهم قد بايعوا[6].

والنكتة التي نعتمد عليها في هذا الإحتجاج،أن كلمة(أهل البيت)وردت في كلامه(ع)منصوبة،مع أن القاعدة النحوية توجب رفع أهل لكونه بدل للخبر،وهذا مما يدل على الإختصاص وإشارتها للآية الكريمة(ليذهب عنكم الرجس أهل البيت)كما جاءت في الآية منصوبة للإختصاص،وإفادة الحصر.

وعلى هذا يصبح معنى قول أمير المؤمنين(ع)هو:إننا أهل الببيت لا غير أحق منكم أيها المهاجرون بالزعامة والخلافة،وأنه ثوب لا يليق إلا بنا على نحو الحصر ووجه التعين،كما ذهبت الآية فيما قررته من أن الطهارة وبالتالي الزعامة محصورة ومختصة بأهل البيت.

فاحتجاج أمير المؤمنين(ع)بالآية مع ما هو لديه من فضائل وكمالات بأيدي المسلمين،يعني أن دلالتها على ما قررناه كان من الوضوح والتسالم بحيث عقب بشير بن سعد بما نقلناه عنه.

2-في الشورى:

جاء في كتاب غاية المرام للسيد هاشم البحراني(ره)ما احتج به أمير المؤمنين على أهل الشورى،فقال في ذلك:نشدتكم هل فيكم أحد أنزل الله فيه آية التطهير على رسوله:- (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)قالوا:اللهم لا.

وهنا نجد أنه(ع)لم يكتفِ بالتقرير بل أخذ اسلوب المحاججة لديه شكل الإستفهام،ليدين القوم بألسنتهم وبما لا يمكنهم إنكاره.

وبالجملة نخلص إلى أن الإمام علي(ع)قد أشار في موضعين حساسين إلى الآية الكريمة،وأنها تثبت استحقاقه وتعين الأمر فيه بمفهوم:أن آية التطهير حسمت مسألة القيادة،وأن من قصدتهم الآية هم الوحيدون القادرون على إمامة المسلمين والنهوض بزعامتهم.

3-في خلافة الإمام الحسن السبط:

فقد قام خطيباً فقال:

أيها الناس من عرفني فقد عرفني،ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمد النبي(ص)…أنا ابن البشير،أنا ابن النذير،وأنا ابن الداعي إلى الله،وأنا ابن السراج المنير…وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً[7].

فالإمام(ع)يشير في معرض استدلاله إلى آية التطهير،فلو لم تكن الآية في معرض تعريف وتحديد خصائص القائد ومميزاته وما يجب أن يتحلى به من العدالة والعصمة والبراءة من كل عيب ونقص،لما استدل واستشهد بها ثاني أئمة الهدى صلوات الله عليه،لإثبات حقه ومشروعية تصديه لهذا المقام.

والحاصل:إن هذه الشواهد الحية تفيض دلالة على مكانة أهل البيت(ع)واختصاصهم بالولاية والإمامة،وخروج الزوجات من هذا العنوان.

——————————————————————————–

[1] بحار الأنوار ج 22 ص 194.

[2] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 6 ص 219-220.

[3] الكامل في التاريخ ج 3 ص 216.

[4] تاريخ الأمم والملوك للطبري ج 4 ص 477.

[5] بحار الأنوار ج 32 ص 269.

[6] شرح نهج لابن أبي الحديد ج 6 ص 11.

[7] بحار الأنوار ج 43 ص 361.