29 مارس,2024

الاستشفاء بالتربة الحسينية(4)

اطبع المقالة اطبع المقالة

أكلها بدون قصد الاستشفاء:

قد عرفت في ما تقدم أنه يجوز تناول التربة المباركة لقبر المولى أبي عبد الله الحسين(ع)، بقصد الاستشفاء، إلا أن الكلام في جواز أكلها بدون ذلك القصد، كما لو لم يكن الإنسان مريضاً، فلم يكن مشتكياً لشيء من العلل، فهل يجوز له أن يتناولها والحال هذا، وكذا مثلاً هل يجوز لمن أمسك يوم العاشر من المحرم إلى العصر أن يجعل أول طعامه شيئاً من طين قبر الحسين(ع)، وهل يجوز أن يجعل الصائم لشهر رمضان المبارك أو إفطاره يوم عيد الفطر شيئاً من تراب قبره الشريف، وهل يجوز أن تستعمل في تحنيك الأطفال حديثي الولادة، وغير ذلك من الموارد التي يكون تناول التربة المباركة لا بقصد الاستشفاء، وإنما تكون الغاية من ذلك التبرك مثلاً، أم لا يجوز تناولها إلا إذا كانت الغاية من ذلك هو الاستشفاء؟

وقع الخلاف بين أعلامنا في هذه المسألة، فذكر بعضهم أنه يجوز تناولها مطلقاً، سواء كان قاصداً بذلك الاستشفاء، أم لم يكن له من غاية إلا التبرك بها فقط، وخص آخرون الجواز بخصوص ما إذا كانت غايته الاستشفاء، فلا يجوز تناولها لغير ذلك.

والظاهر أن المعروف بين الأصحاب، بل قيل أنه لا خلاف فيه[1] هو الالتزام بعدم جواز أكلها إلا إذا كان بقصد الاستشفاء، فلا يجوز مطلقاً. وخالف في الشيخ(ره) في المصباح، فقال بجواز الأكل منه تبركاً[2]، وحكي عنه الرجوع عن ذلك في سائر كتبه[3].

هذا ومنشأ الخلاف يعود إلى اختلاف النصوص، فإنها على طائفتين:

الأولى: ما تدل على عدم جواز تناول شيء من طين القبر الشريف إلا إذا كان لغرض الاستشفاء، ولو أن أحداً تناول شيئاً منه لا بذلك الغرض، فكأنما أكل لحومهم(ع):

منها: ما رواه حنان بن سدير عن أبي عبد الله(ع) أنه قال: من أكل طين قبر الحسين(ع) غير مستشفٍ به، فكأنما أكل لحومنا.[4] ودلالتها على عدم جواز تناولها بدون ذلك القصد واضحة جداً.

الثانية: النصوص التي تضمنت جواز تناولها بدون قصد الاستشفاء، وإنما لغاية التبرك، كما في يوم الفطر، أو لتحنيك الأطفال حديثي الولادة:

منها: ما رواه الصدوق(ره) قال: قال علي بن محمد النوفلي لأبي الحسن(ع): إني أفطرت يوم الفطر على طين القبر وتمر، فقال(ع) له: جمعت بين بركة وسنة[5].

وقد استفاد العلامة التقي الشيخ المجلسي(ره) من ذلك استحباب الإفطار على التربة الحسينية من دون تقيـيد ذلك بما إذا كان بقصد الاستشفاء، إذ أن الخصوصية في خصوص يوم عيد الفطر كما هو مقتضى النص، نعم أحتاط في نهاية المطاف أن يكون ذلك بقصد الاستشفاء لا مطلقاً، فيقصد الاستشفاء بها لو كان يعاني مرضاً من الأمراض الظاهرية، فإن لم يكن مصاباً بمرض من الأمراض، فليقصد بذلك الأمراض الباطنة.

وقد جعل منشأ احتياطه بأن يكون موجب أكلها هو قصد الاستشفاء، أنه مقتضى الجمع بين الأخبار[6]، فلاحظ.

ومنها: ما رواه الحسين بن أبي العلاء قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: حنكوا أولادكم بتربة الحسين(ع)، فإنها أمان[7].

وقد منع دلالة النصين المذكورين على جواز التناول مطلقاً، فذكر جواباً عن الأول:

أولاً: أنه قضية في واقعة، لأنه يحكي حالة خاصة حصلت للراوي وهو علي بن محمد النوفلي، ولا يستفاد منه حكماً كلياً عاماً. ولهذا لم يصدر منه(ع) نهياً لما فعل، لحصوله لمرة واحدة.

ثانياً: إن من المحتمل جداً أن يكون الآكل قد أكل طين القبر الشريف قاصداً الاستشفاء. نعم ربما يمنع هذا الاحتمال بملاحظة أنه(ع) لم يفصل بين ما إذا كان الآكل قد أكله بقصد الاستشفاء أم كان لغاية التبرك، وتركه(ع) التفصيل بين ما إذا كان لهذا أو مطلقاً يكشف عن أنه لا يعتبر في جواز أكله دخالة قصد الاستشفاء.

ثالثاً: لو رفعنا اليد عما تقدم، فإن الرواية المذكورة ضعيفة السند، وهذا يكفي لرفع اليد عنها، وعدم صلوحها للدليلة[8].

وأجيب عن الثاني، بأن أقصى ما تضمنه الخبر هو تحنيك الأطفال بطين قبر المولى أبي عبد الله(ع)، ولا يخفى أن الطين كما يمكن أن يكون بجعل شيء منه في لهاة الطفل، فإنه يمكن أن يكون بإمرار التربة المقدسة على عنقه الشريف كما ذكر ذلك في حقيقته، وعليه لن يكون الأمر منحصراً في خصوص الأكل، فلا يكون معارضاً لما دل على المنع[9].

نعم الجواب عن النص المذكور بالتفريق بين تربة الإمام الحسين(ع)، وبين طين القبر، فيقال بأن خبر الحسين تضمن التحنيك بتربة الحسين(ع)، وليس بطين قبره، وبالتالي يفرق بين الأمرين[10]، كما ترى.

ثم إن جميع ما ذكر مبني على الالتـزام بأن رواية حنان بن سدير معتبرة السند، ولو بجبرها بعمل المشهور كما أشير لذلك[11]، فتدبر.

أكلها بقصد دفع المرض:

قد عرفت وفقاً لما تقدم انحصار جواز تناول تراب قبر المولى(ع) في خصوص ما إذا كانت غاية الآكل هي تحصيل الاستشفاء به، فلا يجوز لغير ذلك، وعندها يسأل بأنه هل يجوز للإنسان تناول شيء منه لغاية دفع حصول المرض وتحققه، قبل أن يصاب الإنسان به، كما لو علم أنه سوف يصاب بمرض من الأمراض نتيجة حصول مقدماته، وبدء ظهور أعراضه، فهل يجوز له تناولها قبل حصوله، وكذا لو ظن إصابته بمرض من الأمراض، فهل يجوز له أن يتناولها دفعاً لذلك المرض المظنون الإصابة به، أم لا يجوز ذلك كله، وهذا يعني حصر جواز أكلها بما إذا كان مصاباً بالمرض فعلاً؟

لا ريب في أن مقتضى الاحتياط يستوجب الاقتصار على حصر جواز أكلها في خصوص ما إذا كان الإنسان مصاباً بالمرض ومتلبساً به فعلاً، فلا يجوز له أن يتناولها قبل تحقق ذلك عنده.

وإن شئت فقل، إن النصوص التي تضمنت الحديث عن جواز تناولها، قد علقت ذلك على تحقق شرط وهو التلبس بالمرض فعلاً، وهو القدر المتيقن من الجواز، فلا يمكن اسراء الحكم إلى غير ذلك، ولا أقل لكونه من موارد التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فلاحظ.

مقدار ما يؤكل منها:

ثم إنه بعد الفراغ عن جواز أكل التراب الشريف للقبر المبارك، وأنه يعتبر أن يكون الداعي إلى التناول هو تحصيل الاستشفاء، فهل هناك مقدار محدد في الأكل، بحيث لا يجوز تعديه، أم أنه لا يجوز ما يوجب التحديد بذلك، فيجوز للمكلف أن يتناول منه ما شاء وإن كان ما سيأكله كثيراً؟

لا ريب أن مقتضى الأصل القاضي بجواز التناول هو البناء على عدم التحديد بمقدار معين ،فيجوز لمن يود تناول طين القبر الشريف لغرض الاستشفاء عدم الالتزام بمقدار محدد. إلا أن في البين نصاً يوجب رفع اليد عنه، ويقيد جواز التناول بمقدار محدد، فقد ورد عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع) تحديد ما يتناول منها بمقدار الحمصة، وأن تناول أكثر من ذلك كتناول لحومهم ودمائهم(ع)[12]. وكذا ورد عن أحدهما(ع) أنه قال: ولكن اليسير من مثل الحمصة[13].

ومن المعلوم أن الحمصة من الأمور المشككة، فقد تكون كبيرة وقد تكون صغيرة، وقد حدد المقدار المعتبر فيها بخصوص الحمصة المتوسطة[14]، فلاحظ.

[1] مستند الشيعة ج 15 ص 162.

[2] مصباح المتهجد ص 713.

[3] مستند الشيعة ج 15 ص 163.

[4] وسائل الشيعة ب 59 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 6.

[5] من لا يحضره الفقيه ج 2 ح 2056 ص 116.

[6] روضة المتقين ج 3 ص 472.

[7] كامل الزيارات ح 708 ص 466.

[8] مستند الشيعة ج 15 ص 163، فقه الصادق ج 36 ص 334.

[9] مستند الشيعة ج 15 ص 163، فقه الصادق ج 36 ص 334.

[10] فقه الصادق ج 34 ص 334.

[11] عبر عنها بعض الأعلام(حفظه الله) في فقه الصادق بالحسنة، ولعل منشأ ذلك يعود إلى ملاحظة اعتبار طريق الشيخ(ره) إلى حنان في غير المصباح، فيعمد إلى التعويض به، وهو وإن كان متصوراً اعتماداً على نظرية التعويض، لكن الظاهر أن ذلك ليس من صغرياتها، ضرورة أن من المحتمل أن يكون الموجود شيئاً آخر غير ما ثبت الطريق إليه، وتفصيله في محله.

[12] وسائل الشيعة ب 59 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 7.

[13] وسائل الشيعة ب 72 من أبواب المزار ح 1.

[14] مستند الشيعة ج 15 ص 163، مهذب الأحكام ج 23 ص 160.