29 مارس,2024

التكليف الشرعي

اطبع المقالة اطبع المقالة

خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان ووجه إليه مجموعة من التكاليف اشتملت على نوعين أساسين مأخوذان على نحو الإلزام:

أولهما: عبارة عن الواجبات فهو ملزم بامتثالها من خلال إيجادها في الخارج.

ثانيهما: عبارة عن مجموعة من المحرمات، فهو ملزم بالاجتناب عنها، وترك إيجادها خارجاً.

ولا يخفى أن هذا الصادر من الشارع المقدس مبني على ترتب مجموعة من المصالح تشتمل عليها هذه الأمور الإلزامية، ومفاسد تـتضمنها النواهي. وما بين هذين الأمرين هناك ما لا يكون الطلب في إيجاده إلزامياً، لكنه مرغوب فيه من قبل الشارع، وهناك ما لم يـبلغ النهي فيه مرحلة المنع، لكنه لا يرغب في إيجاده.

ولا ريب في أن من الواجبات التي جعلها الشارع المقدس على المكلف الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى:- ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)[1] وعليه يلقى على عاتق كل مكلف إيجاد هذه الأمور التي ورد ذكرها في الآية الشريفة، بل تضمن ذلك العديد من النصوص المعصومية الصادرة عن بيت أهل العصمة والنبوة(ع).

فكل أحد بدون استـثناء بحسب الحكم الأولي ملزم بأن يقوم بإيجاد هذه الأمور التي تضمنـتها الآية الشريفة، فالكل مطالب بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهذا يعني أن هناك تكليفاً إلزامياً ينبغي على كل أحد أن يقوم بامتثاله، وإيقاعه خارجاً، وهو ما يمكننا أن نعبر عنه بالمسؤولية الدينية.

لكن ما ينبغي الالتفات إليه والاعتناء به، وهو أمر جدُّ خطير ومهم هو ما يتداول اليوم على كثير من الألسن في أثناء ممارسته لعمل بدعوى أن هذا يمثل تكليفي الشرعي.

ولعمري أن في البين خلطاً لا ينبغي إغفاله والسكوت عنه، ذلك لأننا عندما ندعو إلى ممارسة العمل الإصلاحي والقيام بالمهمة الدينية، ينبغي علينا أن ننطلق من الأبعاد الشرعية المقررة لنا من قبل الشارع المقدس، وهذا يمنعنا من أن نسوّغ لأنفسنا ما يجعلنا بعد ذلك في موقع المسؤولية، ولنوضح ذلك بمثال، هناك كثير من الناس يعمدون إلى الاستيغابة، ولكي لا يقعوا في الصدّ والردع والنهي لهم من قبل السامعين، يعمدون في البداية إلى القيام بتفسيق الفرد، وإثبات جواز غيـبته، ثم يعمدون بعد ذلك إلى استيغابته.

وهكذا ينطلق البعض في القيام بعمليات التشهير أو الاستنقاص بالآخرين عامداً إلى النيل منهم، بحجة أن هذا هو تكليفي الشرعي، لأنهم عمدوا إلى فعل كذا وكذا مما ربما يكون أجنبياً عن البعد المسوغ له للإقدام على ما يقدم عليه.

وهنا تكمن المشكلة العظمى، والمصيـبة الكبرى، عندما يـبتلى المجتمع الإسلامي حتى حين القيام بمسؤولية الرسالة الإصلاحية، بمن لا يملك الفهم الصحيح للتعاليم الشرعية، فليس معنى أن هناك تكليفاً شرعياً صادراً من الشارع المقدس يلزم المكلف القيام، أنه يسوغ للمكلف الولوغ في أعراض الآخرين، أو التشهير بهم، فضلاً عن الإساءة إليهم.

ولذا نجد كيف اهتم الشارع المقدس بهذا البعد وبشكل كبير، بحيث منع من العمد إلى ممارسة الأمر بالمعروف والنهي على المنكر استناداً إلى الظنة والتهمة، فلقد جعل أن من الشروط المعتبر توفرها ليقال بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو يكون الفاعل للمنكر عاملاً بكونه منكراً، ومصراً على ما أقدم عليه، وهذا يعني أنه لو لم يكن كذلك، فإنه لا يسوغ حينئذٍ الإقدام على ذلك.

بل أكثر نجد أنه في باب الحدود قد جعل أن مجرد الشبهة سبيل من السبل التي يدرأ من خلالها الحد، فبعد ما كان مقرراً إقامة الحد على هذا الفرد، وإذا به ينـتفي عنه بسبب كون المورد مورد شبهة لعدم انطباق موجب الحد عليه.

وكذا عندما يتعرض الشارع المقدس لحفظ حق المؤمن في عرضه، أقرّ الأمور المتعلقة بالقذف، فجعل مجرد تداول الاتهامات التي تصدر على الألسن من دون بينة ولا برهان سبباً داعياً إلى استحقاق المتهم للقذف وهكذا.

وعندما نأتي لمسألة سقوط العدالة نرى أن الشارع المقدس لا يرضى بسلبها عن شخص لمجرد أنه قد صدر منه عمل معين أرتى الفرد الآخر أنه يستوجب فسقاً، بل نجد هنا أنه يحكم بأنه ربما كان معذوراً، أو جاهلاً، أو كان مستنداً إلى حجة شرعية تسوغ له الإقدام على ما أقدم عليه، فلا يسوغ للمقابل رميه بالفسق بمجرد رؤيته ذلك.

بل لو راجعنا ما ورد في مسألة الرد بالنسبة للغيـبة، نجد تشدداً أيضاً من قبل الشارع هنا، وما ذاك إلا لأننا متى قلنا للمتكلم بأنه لا ينبغي عليك أن تغتاب، فلا ريب في أننا سلبنا منه ولو في الجملة العدالة لكونه مقدماً على المعصية، خصوصاً مع كونه ملتفتاً، وهذا ربما يجعله بحاجة إلى إظهار التوبة لكي تعود إليه، مع أنه لم يكن بصدد الغيبة، وهكذا.

فالموارد كثيرة، التي عمد الشرع الشريف إلى الحفاظ على المؤمن، ودعى في نفس الوقت إلى القيام بهذه المسؤولية الدينية، وهذا يكشف أن هناك أمراً ينبغي التوجه له، وهو الانطلاق في القيام بهذه المسؤولية من خلال البعد الديني كما ذكرنا.

فإذاً ينبغي علينا عندما نعمد لممارسة هذا التكليف أن ننطلق من الوحي الشرعي المرسوم من قبل الشارع المقدس، ونكون بعيدين عن خلق الأعذار والمجوزات التي تسوغ لنا إيجاده، حتى لا ينطبق علينا قوله تعالى:- ( خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً)[2].

نسأل الله تعالى أن يوفقنا للقيام بهذه المسؤولية على أكمل وجه وأتم صورة إنه سميع مجيب.

——————————————————————————–

[1] سورة آل عمران الآية رقم 104.

[2] سورة التوبة الآية رقم 102.