- موقع سماحة العلامة الشيخ محمد العبيدان القطيفي - https://www.alobaidan.org -

قاعدة إتباع عموم الفكرة

قد يحصل أحياناً أن تـتعرض الآية الشريفة نموذجاً على سبيل المثال لا على سبيل الحصر والتعيـين، وحينئذٍ لا يجوز التقيّد بالنموذج المذكور، بل لابد من إتباع عموم الفكرة المقصودة.

نماذج وأمثلة للقاعدة:

منها: قوله تعالى:- (وأعدّوا لهم ما أستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله) فهل يجب التقيّد برباط الخيل في الحرب، أو أن المقصود كل المعدات العسكرية، والوسائط النقلية اللازمة؟…

لا يخفى أن الصحيح هو الثاني، وأن المذكور في الآية الشريفة إنما ذكر على نحو المثال لغاية تقريب الفكرة التي وقع الكلام بصدد بيانها.

ومنها: قوله تعالى:- (وأذن في الناس يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) فهل المقصود هو حالات المشي إلى الحج على الأرجل(رجالاً)، أو على الإبل الهزيلة(ضامر)، أو أن المقصود هو مختلف صور السعي إلى الحج، وبكل الوسائط النقلية المتوفرة؟…

وهنا أيضاً لا يتصور أن المراد هو خصوص المعنى الأول، بل المراد هو المعنى الثاني، لكن الخطاب قد وقع بنحو المثال لما كان مألوفاً ومتعارفاً في تلك العصور والأزمنة، فلا خصوصية لما ذكر حتى يتصور الاقتصار عليه.

وعلى هذا يتضح، أن مما لا ريب ولا شك فيه أن القرآن الكريم، ذكر هذه المفردات على اعتبار أنها نماذج لما سواها من المفردات المماثلة حسب كل زمان، وكل مكان حيث تعرف أنه لا توجد خصوصية مقصودة لهذه النماذج دون سواها.

والنـتيجة أننا حين نريد استخلاص فكرة أو حكم من الآية القرآنية، فلابد أن نـنظر إلى دائرة الفكرة ولا نتقيّد بدائرة اللفظ.

ويمكننا أن نضرب مثالاً آخر لاستخدام قاعدة(عموم الفكرة) من خلال المناظرة التي جرت بين الإمام الكاظم(ع) وبين هارون الرشيد، فقد جاء فيها:

قال له الرشيد: كيف قلتم إنّا ذرية النبي(ص) والنبي لم يعقب، وإنما العقب للذكر لا الأنثى، وأنتم ولد الابنة ولا يكون ولدها عقباً له.

فقرأ له الإمام الكاظم قوله تعالى:- ( ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين).

وهنا سأله الإمام (ع) عن عيسى هل له أب؟…

فقال الرشيد: ليس لعيسى أب.

فقال(ع): إنما ألحقناه بذراري الأنبياء(ع) من طريق مريم، وكذلك أُلحقنا بذراري النبي(ص) من قبل أمنا فاطمة[o1] .

موارد عدم جريان القاعدة:

ومن الطبيعي أن تجاوز دائرة اللفظ إلى دائرة الفكرة، إنما يصح فيما إذا لم تكن المفردة المذكورة باللفظ مقصودة بالذات، ومعنية بالشخص، وإلا فإن الواجب حينئذٍ التقيد بها.

فإذا قال القرآن الكريم:- ( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم)[o2] .

فإننا لا نستطيع أن نحمل هذه المفردات على أساس المثال والنموذج، وبدلاً من إطعام المساكين أو كسوتهم، نذهب لإطعام مجموعة من الأقرباء والأرحام مثلاً، أو توزيع الكسوة على الجيران، ومن ماثلهم، وبدلاً من عتق عبد من العبيد، نذهب لإطلاق سراح بعض السجناء، أو الأسرى، أو ما شاكل ذلك.

إن المفردات المذكورة في الآية الشريفة لتفيد هذا الحكم، لم تذكر على سبيل المثال، وإنما ذكرت لخصوصية خاصة بها، ولا يوجد في سياق الآية أية قرينة على حذف هذه الخصوصية والسماح بإلغائها.

الميـزان في معرفة الموضوع:

هذا والميـزان في معرفة ما إذا كان الموضوع الخاص قد ذكر على سبيل المثال، أو ذكر على سبيل الاختصاص والحصر، هو مراجعة ظهور الجملة ومجموعة ما تحتف به من قرائن، فإذا تكوّن لنا ظهور في عمومية الفكرة أمكن استفادة حكم عام من الكلام اعتماداً على قاعدة حجية الظهور القرآني.

قاعدة إتباع الاصطلاح القرآني:

مع أن القرآن الكريم قد نزل بلغة عربية، وقد خاطب العرب بلغتهم، إلا أن ذلك لم يمنع عن تأسيس القرآن الكريم لمصطلحات خاصة استخدم فيها نفس الكلمات العربية، إلا أنه تصرف في معانيها بنحو من الأنحاء، ولبعض المناسبات التي تـتعلق بمعناها الأصلي.

وهذا هو ما يصطلح عليه علماء اللغة بـ(النقل) حيث تنقل الكلمة من دلالتها على المعنى الأول إلى الدلالة على المعنى الجديد.

وقد استخدم القرآن الكريم هذه الطريقة أيضاً في استعماله لبعض الكلمات.

وبناءاً على معرفة هذه الحقيقة ووضوحها عندنا، فاللازم علينا حينما نريد تفسير الآيات القرآنية التأكد مما إذا كان للقرآن الكريم نصطلح خاص في بعض مفرداتها، أو لا.

فإذا كان له مصطلح خاص فيجب حمل الآية على ذلك المعنى، وليس على المعنى اللغوي، حيث ستكون الآية وبقرينة هذا الوضع القرآني الجديد للكلمة ظاهرة في ذلك المعنى الجديد، وليس في المعنى اللغوي الأول.

ونعود مرة أخرى إلى القاعدة التي سبق وتحدثنا عنها، وهي قاعدة(اعتماد الظهور القرآني) لتطبيقها على هذا المعنى الجديد الذي تظر فيه الآية الشريفة، ولتوضيح المطلب بشكل أكبر، لنشر إلى بعض الأمثلة.

آية التيمم:

قال تعالى في كتابه الكريم:- ( فلم تجدوا ماءاً فتيمموا صعيداً طيباً) فإن التيمم في اللغة هو القصد والتوجه، لكن القرآن الكريم استعمله في معنى الطهارة الترابية.

آية الزكاة:

قال تعالى:- ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) فإن الزكاة في اللغة تعني النمو والزيادة، لكن القرآن الكريم استعملها في معنى العطاء المالي المخصوص في الشريعة المقدسة نتيجة توفر مجموعة من الشروط.

آية النهي عن إتباع الهوى:

قال تعالى:- ( فلا تـتبعوا الهوى) فإن المستفاد من كتب اللغة في معنى الهوى أنها تعطي معنى عاماً للميول النفسية الحسنة منها والخبيثة. لطن القرآن الكريم استعملها في خصوص الميول النفسية الخبيثة.

تنبيه:

هذا ولا يخفى أن فهم المعنى الجديد للكلمة الذي يمثل اصطلاح القرآن، إنما يجوز اعتماده إذا أضحت الكلمة ومن خلال تكرر الاستعمال القرآني ظاهرة في إرادة ذلك المعنى الجديد وواضحة الدلالة عليه، حيث يدخل الموضوع حينئذٍ تحت قاعدة(اعتماد الظهور القرآني) التي سبق الحديث عنها.

أما إذا لم تبلغ الكلمة هذا المستوى من الدلالة على المعنى الجديد، فإنه لا يصح حينئذٍ حمل الكلمة القرآنية على المعنى الجديد، ولا على المعنى القديم لأنها ستكون فاقدة للظهور حسب الفرض، ومثال ذلك:

لقد استعمل القرآن الكريم كلمة(الروح) في معنى جديد كما في قوله تعالى:- ( تـنـزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم) وقوله تعالى:- ( يتـنـزل بالروح من أمره على من يشاء)، وحينئذٍ إذا افترضنا في بعض موارد الاستعمال القرآني لكلمة (الروح) عدم اتضاح المقصود هل هو المعنى الجديد أم المعنى القديم اللغوي للكلمة، والذي هو عبارة عن(الروح الإنساني، أو عموم الروح الحيواني) كما في قوله تعالى:- ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) فما هو المراد من بالروح هنا؟…هل المعنى اللغوي القديم، أم المصطلح القرآني الجديد؟…

فإنه إذا لم يتضح إرادة أحد المعنيـين بحيث تصبح الكلمة ظاهرة فيه ولو من خلال القرائن، فإنه يجب التوقف حيث تعتبر الآية مجملة حينئذٍ، ولا يصح حملها على المعنى الاصطلاحي الجديد.

ومثل ذلك أيضاً إذا كانت الكلمة وبحسب القرائن المحيطة بها محافظة على دلالتها على المعنى القديم، فإن اللازم حينئذٍ اعتماد ذلك المعنى نفسه. مثال ذلك: كلمة(الصلاة) فإنها شهدت في الاستعمال القرآني معنى جدياً غير معنى الدعاء ورجاء الخير الذي هو معناها اللغوي، ولكن حينما نقرأ قوله تعالى:- ( إن الله وملائكته يصلون على النبي) وقوله تعالى:- ( هو الذي يصلي عليكم وملائكته) فإننا نجد أن الكلمة ما تزال ظاهرة ومستعملة في معناها اللغوي القديم، وحينئذٍ فلابد من تقدير هذه الدلالة واعتمادها.

——————————————————————————–

[o1]الاحتجاج للطبرسي ج 2 ص 164.

[o2]سورة المائدة الآية رقم 89.