20 أبريل,2024

فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(4)

اطبع المقالة اطبع المقالة

وجوب كفائي وعيني:

ثم إنه بعدما علمنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات، ينبغي تحديد أنه من الواجبات الكفائية، أم أنه من الواجبات العينية، ونقصد بكون الوجوب كفائياً أنه وإن كان التكليف به متوجهاً لجميع المكلفين، لكنه لا يلزمهم جميعاً فعله وأدائه، بل يكتفى أن يحققه في الخارج بعضهم، لتفرغ ذمة الجميع، مثل تجهيز الميت، فإنه وإن كان الوجوب متوجهاً لعامة المكلفين، لكنه عند تصدي بعض المؤمنين للقيام بهذا العمل، يسقط التكليف عن البقية، ومثل رد السلام، فإنه وإن كان واجباً على جميع الحاضرين، إلا أنه عندما يتصدى بعضهم للرد، كان ذلك موجباً لفراغ ذمة البقية، وهكذا. نعم لو لم يقم به أحد منهم أصلاً، استحق الجميع العقوبة حينئذٍ.

وأما الوجوب العيني، فهو يشترك مع الوجوب الكفائي في كون التكليف متوجهاً لعامة المكلفين، ويختلف عنه بلزوم فعله منهم جميعاً، فلا يكتفى بفعله من البعض دون البقية، بل يلزم الجميع القيام بفعله مثل التكاليف الإلزامية التي تضمنتها الشريعة الإسلامية، من صلاة، أو صوم أو خمس، أو حج، أو بر بالوالدين، وصلة الرحم، وهكذا، فإنه وإن قام بها بعض الأفراد إلا أن ذلك لا يوجب فراغ ذمة البقية، بل تبقى ذممهم مشغولة بذلك، ويكونوا مخاطبين بلزوم الإتيان بها.

ولا يخفى أن المحتملات للمسألة ثلاثة:

الأول: الالتزام بكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات الكفائية.

الثاني: البناء على أنهما من الواجبات العينية.

الثالث: الحكم بالتفصيل بلحاظ مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأننا نعلم أن له مراتباً كما سوف نشير لذلك إن شاء الله، فيبنى على كون الوجوب عينياً في بعض مراتبه، وكفائياً في مراتب أخرى.

والمعروف بين أعلامنا، بل يكاد أن يكون محط اتفاق بينهم، البناء على الاحتمال الأول، أعني القول بكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات الكفائية، من دون فرق بين مراتبه جميعها. وأختار السيدان السيستاني والحكيم(دامت أيام بركاتهما)، الرأي الثالث، فالتزما بوجود وجوبين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أحدهما وجوب عيني يخاطب به عامة المكلفين، ويلزموا بالقيام به، وهو الإنكار القلبي، وإظهار الكراهة والامتعاض من الأمر، سواء بالقول، أم بالفعل من ترك الواجب أو فعل الحرام.

والآخر هو الوجوب الكفائي، الذي يكون متعلقاً بمرتبة الإنكار باللسان، ومرتبة الإنكار باليد، فإنه يكتفى بقيام البعض به دون البقية، فلاحظ.

واستشهد السيد السيستاني(أطال الله في بقاه) لمختاره من الوجوب العيني في الإنكار القلبي بما ورد عن أمير المؤمنين(ع): أمرنا رسول الله(ص) أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة. ويمكن أن يضم إلى ذلك أيضاً أن الأصل في الواجب أن يكون عينياً إلا إذا دل الدليل على كونه كفائياً، فلاحظ.

وقد عدّ السيد الحكيم(حفظه الله) الإنكار القلبي روح الإيمان بالدين وجوهره، وأنه يلزم المؤمن شدة الاهتمام بذلك، والحذر من التفريط في عدم الاهتمام بهذا الجانب.

واستند بقية الأعلام لكون الوجوب كفائياً إلى قوله تعالى:- (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) فإن الآية الشريفة تضمنت الحرف(من)، وهو يفيد التبعيض، فيكون معنى الآية الشريفة كفاية قيام بعض المؤمنين بوظيفة الأمر بالمعروف، وعدم لزوم قيام الجميع بذلك. كما أن رواية مسعدة بن صدقة تدل على ذلك، فقد روى أنه: سئل أبو عبد الله(ع) عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أواجب هو على الأمة جميعاً؟ فقال: لا. فقيل: ولم؟ قال: إنما هو على القوي المطاع، العالم بالمعروف من المنكر، لا على الذي لا يهتدي سبيلاً[1].

شبهة وجواب:

هذا وبعد الفراغ عن تحديد حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد يعترض ويمنع من وجوبه، على أساس أن الأمر بالمعروف يعدّ تدخلاً في شؤون الآخرين الخاصة، لأنهم لا يرغبون في فعل المعروف، ولا يرغبون في ترك المنكر، فالشاب الذي يجلس على قارعة الطريق، ويطيل النظر في النساء اللاتي يذهبن ويرجعن، ويسبب لهن حرجاً وأذى، لا يرضى أن يطلب منه ترك الجلوس على قارعة الطريق، لأنه يرغب في الاستمرار والبقاء، ولا يرضى بالقيام من مكانه، ويعد طلب ذلك منه تدخلاً في شؤونه الخاصة، ومصادرة لحريته الشخصية.

وذلك الرجل الذي يؤدي جاره بإيقاف سيارته أمام بيته، ويعيق حركته، يعتقد أن هذا حق شخصي له، وليس لأحد أن يتدخل فيه، فيطالبه بالوقوف في مكان آخر، لأنه يعتبر ذلك تدخلاً في شؤونه الخاصة وخصوصياته، ومثل ذلك تلك الفتاة التي اتخذت المغنية أو الممثلة قدوة لها، وأصبحت تحاكي حركاتها، وتصرفاتها، فإنها تعقتد أن هذا حق شخصي لها، وأن أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، يعتبر تعدياً على حريتها وحقها الشخصي، وهكذا. وربما يتمسك جميع من ذكرنا بقوله تعالى:- (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)، فإن عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تعد إكراهاً منهياً عنه بنص القرآن الكريم.

ومن الواضح أن الشبهة المذكورة عمدت إلى فصل الإنسان المرتكب للمنكر عن بقية السلسلة الاجتماعية، وجعلته كمن يعيش مستقلاً عن الآخرين، وأنه لا تربطه بهم أي رابطة، وهذا خطأ محض، لأن الإنسان الذي يعيش في مجتمع ما، يرتبط مصيره بالمجتمع الذي يعيش فيه، ولا يكون مستقلاً عنه أبداً. ويشهد لهذا أنه متى ما تسرب الفساد إلى المجتمع، فإنه أول ما يبدأ بنفس الإنسان، فيتسرب إليه، ثم يتسرب إلى عائلته، وهكذا. ولهذا نجد أن النبي(ص) مثل المجتمع الإنساني بركاب السفينة، وأنه إذا عطبت السفينة ولو في جزء صغير منها، سار العطب إلى عامة أجزائها، فعن النعمان بن بشير قال: قال النبي(ص) مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استُهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا: ما لك؟ قال: تأذيتم بي ولابد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم.

ولا يبعد أن يكون هذا أيضاً هو المقصود من قوله تعالى:- (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة).

وقد تحصل من جميع ما تقدم، أن من يعيش في وسط مجتمع، لابد وأن يكون خاضعاً لقوانين ذلك المجتمع، وأنه يسري عليه جميع ما يسري عليهم، ولا يمكنه أن يعيش مستقلاً عنهم.

وأما بالنسبة لحرية الفرد، فإن ما لا ينكر أنها واحدة من القيم الانسانية المحترمة، وأنها حق ثابت للإنسان، إلا أن احترامها ليس مطلقاً، وإنما يقيد احترامها بشرطين:

الأول: أن لا تستلزم الحرية إضراراً بسعادة الفرد، وإلا لم تكن محترمة، بل منع عنها، فالشاب الذي يتعاطى المخدرات، حتى يستنزف قواه، لا يمكن أن يترك بحجة أن هذه حرية شخصية له، وتلك الفتاة التي لا ترتدي حجابها وفقاً للميزان الشرعي، لا يمكن تركها بحجة أن هذه حرية شخصية، وذلك الزوج الذي يسيء معاملة زوجته، لا يمكن تركه بحجة أن هذه حرية شخصية، وهكذا.

الثاني: أن لا تكون الحرية مزاحمة لسعادة المجتمع، لأن كل عمل يضر بمصالح المجتمع، من عفاف أو طهارة، أو أدب وأخلاق، وقيم، ويؤدي إلى شيوع الأمراض الجسمية، والروحية، فهو ممنوع، حسب حكم العقل، والفطرة الانسانية، وعليه جميع العقلاء في العالم.

ومن خلال ما تقدم، يتضح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يحد من حرية الإنسان، ولا ينافيها، وإنما هو بمثابة المراقبة الشعبية لما يضر البلد، فلاحظ[2].

ومن خلال ما قدم، يتضح أنه لا مجال للاستناد إلى آية نفي الإكراه في المقام، وأنها تشير إلى شيء آخر، ليس هذا محل ذكره، فتدبر.

[1] وسائل الشيعة ب 2 من أبواب الأمر والنهي ح 1.

[2] القصص القرآنية ج 2 ص 594-596(بتصرف).