19 أبريل,2024

فقه البنوك(6)

اطبع المقالة اطبع المقالة

أدلة المجوزين:

هذا وسوف نشير إلى دليل واحد يدل على جواز الحيل الشرعية بصورة عامة، ونذكر بعد ذلك نصاً خاصاً على جوازه في المقام، أما الدليل العام، فقوله تعالى:- (وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب)[1]. وهذه الآية تشير إلى مفردة من مفردات قصة نبي الله أيوب(ع)، وذلك أنه حلف أن يضرب زوجته إن شوفي من المرض مائة ضربة، وأشفق بعد ذلك عليها، فأعطي حيلة شرعية يتحقق من خلالها البر بحلفه، وفي نفس الوقت لا يكون إيذاء إليها. فتكون دالة على المدعى والمطلوب.

وأما النص الخاص الدال على المدعى في المقام، فصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : سألته عن الصرف فقلت له : الرفقة ربما عجلت فخرجت فلم نقدر على الدمشقية والبصرية وإنما يجوز نيسابور الدمشقية والبصرية فقـال : وما الرفقة؟..فقلت : القوم يترافقـون ويجتمعون للخروج فإذا عجلوا فربما لم يقدروا على الدمشقية والبصرية فبعثنا بالغلة فصرفوا ألفاً وخمسين منها بألف من الدمشقية والبصرية فقال : لا خير في هذا أفلا يجعلون فيها ذهباً لمكان زيادتها. فقلت له اشتري ألف درهم وديناراً بألفي درهم؟..فقال : لا بأس بذلك إن أبي كان أجرأ على أهل المدينة مني فكان يقول هذا فيقولون إنما هذا الفرار لو جاء رجل بدينار لم يعط ألف درهم ولو جاء بألف درهم لم يعط ألف دينار وكان يقول لهم نعم الشيء الفرار من الحرام إلى الحلال.

ودلالتها على المدعى واضحة جداً لا خفاء فيها. ويمكن ذكر غيرها من الروايات، نعرض عن ذلك حذراً من الإطالة، خصوصاً وأن البناء على الاختصار.

خلاف بعض الأعيان في مشروعية الحيل الشرعية:

وخالف بعض الأعيان(قده)، فلم يقبل دلالة هذه النصوص على الحيلة الشرعية فذكر كلاماً مفصلاً في المقام لا يسع ذكره في هذا المختصر، وحاصله:

إن الربا مع هذه التشديدات والاستنكارات التي وردت فيه في القرآن الكريم والسنة من طريق الفريقين مما قلّ نحوها في سائر المعاصي ومع ما فيه من المفاسد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مما تعرض لها علماء الاقتصاد كيف يمكن تحليله بالحيل الشرعية كما وردت بها الأخبار الكثيرة الصحيحة وأفتى بها الفقهاء إلا من شذّ منهم.

ولم ترد حيلة شرعية في الربا القرضي والمعاملي في المتساويـين بحسب القيمة السوقية وما ورد من بعض الأخبار قابل للمناقشة سنداً ومتناً أو للجمع بما لا يلزم منه ذلك، بل مع فرض ورود أخبار صحيحة دالة على الحيلة فيهما فلا بد من تأويلها أو رد علمها إلى أهلها. مضافاً إلى أن الحيلة لا تخرج الموضوع عن الظلم والفساد وتعطيل التجارات. فمع فرض أن القرض إلى سنة بربح عشرين في مأة ظلم فعمل حيلة بيعه مأة دينار بمأة وعشرين نسيئة إلى سنة كان ظلماً وفساداً بلا ريب ولا إشكـال. وكذا مبادلة أكرار من الحـنطة
بضعفيها إلى سنة مع تساوي جنسها صنفاً وصفة فلا يخرجها عن الظلم والفساد ضم منديل إلى الناقص كما لا يعقل تجويز الظلم والفساد، وعلى هذا فلو ورد نص في الجواز لكان مناقضاً للكتاب والسنة وليس تخصيصاً أو تقييـداً.

فإن قلت: إن ما ذكر من الظلم والفساد نكتة جعل الحكم لا علته فيكون مخصصاً ومقيداً.
قلت: إن هذا مسلم، ولكنه لا يصحح المخالفة التامة للدلالة فإذا كانت حكمة حرمة الربا ما ذكر من المفاسد فلا يجوز التخلص عنه في جميع الموارد للزوم اللغوية في الجعل، فتحريم الربا لنكتة الفساد والظلم وترك التجارات وتحليله بجميع أقسامه وأفراده مع تغير عنوان لا يوجب نقضاً في ترتب تلك المفاسد من قبيل التناقض في الجعل واللغوية فيه.

وعلى فرض وجود الحيلة فلماذا لم ينبه عليها رسول الله (ص) منعاً من وقوع الأمة في الحرام بل قد ورد أنه أمر عامله على مكة أن يقتل المرابين إن لم ينتهوا.

وأما الروايات المستدل بها على التخلص من الربا فصنفان:

الأول: ما ورد في التخلص من بيع المتماثلين مع الزيادة فيما كان السعر السوقي كذلك وأعتقد الأصحاب وروده في التخلص من الربا وهو ليس من الربا وهو صحاح كثيرة:
منها: صحيحة ابن الحجاج: فبعثنا بالغلة فصرفوا ألفاً وخمسين منها بألف من الدمشقية والبصرية.

ومنها: صحيحة إسماعيل بن جابر عن أبي جعفر (ع) قال: سألته عن الرجل يجيء إلى صيرفي ومعه دراهم يطلب الأجود منها فيقاوله على دراهمه فيزيده كذا وكذا.
والحاصل أن الحيلة واردة لأجل التخلص من مبادلة المثل بالمثلين، لأن مبادلة ألف درهم وضح بألفين غلة مما كان السعر السوقي كذلك غير صحيحة، لا لأجل الربا بل لأجل عنوان آخر وهو مبادلة المثل بالمثلين فهي واردة في مبادلة المثليات مع الزيادة كان فيها الربا أم لا.
وأما التعليل الوارد في ذيلها (نعم الشيء الفرار من الحرام إلى الحلال) وأمثاله، فصحيح حيث أن المحرم هنا هو تبادل المماثل بالمماثل مع الزيادة لا الربا المنفي في هذا القسم عرفاً وعقلاً.

ومثله ما يظهر من صحيح الحلبي فإن الفرار منصب على المعاملة النقدية فتكون الزيادة لأجل اختلاف السعر فلا ربط له بالربا.
الثاني: الروايات المختصة ببـاب القرض وهي روايات ضعاف، إلا روايـة واحدة وهي رواية محمد بن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي الحسن (ع): يكون لي على الرجل دراهم فيقول أخرني بها وأنا أربحك فأبيعه جبة تقوم علي بألف درهم بعشرة آلاف درهم أو قال بعشرين ألفاً وأوأخره بالمال؟…قال : لا بأس.

إلا أن في النفس منها شيئاً لوجود محمد بن إسحاق في سنده وهو مع توثيق النجاشي له إلا أن الصدوق قد رماه بأنه واقفي فلذا توقف فيه العلامة ومثله صنع ابن داود. مضافاً إلى أن بعض الروايات مشتملة على ما لا يليق بساحة الإمام (ع) كما في خبر محمد بن إسحاق بطريق مجهول عن الرضا (ع) قال : لا بأس به وقد أمرني أبي ففعلت. والمعصوم لا يفعل كل مباح لما في بعضها من تنفر الطباع منها. مضافاً إلى أن مورد تلك الروايات كون القرض أو تأخيره مبنياً على بيع شيء بأكثر من قيمته وهذا لا يخرج الموضوع عن الربا فإنه بمنـزلة الشرط.

وكيف كان فالروايات الواردة في الحيل لما كانت تستلزم إباحة الظلم والمفسدة فهي مصداق لما ورد عنهم (ع): ما خالف قول ربنا لم نقله. والاشتهار في الفتوى لا يصحح الأسانيد لاحتمال أن بعضهم قد أفتى لأجل توهمه أن المطلب على القاعدة لأنه بيع وبعضهم لعله استند إلى الصحـاح المتقدمة2.

ويمكن أن يناقش الكلام الذي أفاده بعض الأعيان(قده)، بما يوجب رفع غائلة الإشكال عن مشروعية الحيل الشرعية، وإدخالها دائرة الحلية والشرعية، بالتالي:

أولا: قد عرفنا عند عرض كلامه(ره) أنه قرر أن السبب الذي دعى إلى تشريع حرمة الربا كونه مصداقاً من مصاديق الظلم والفساد، وهذا البيان ممنوع، بالنقض وبالحل، أما النقض عليه، فببيع العرية لورود الأدلة برفع حكم الربا عنه فلو كان ظلماً لما جاز ذلك إذ كيف يجوز الظلم.

وبالحل، بأن السيرة العقلائية التي يتفق أهلها على قبح الظلم لا يجتمع أهلها بأكملهم على قبح الربا ولا أقل من أنهم لا يرون أن مطلق الزيادة ظلم. مضافاً إلى أن الشارع المقدس قد ندب إلى إعطاء المقترض الزيادة إلى المقرض بدون شرط من المقرض وهذا ينفي كونه ظلماً.
فتحصل إلى هنا أن رد ما ورد في التخلص من الربا بأنه ظلم في غير محله .

ثانياً: إنما يتم ما أفاده (قده) من كون الربا ظلماً لو كانت الحرمة منصبة على الزيادة المأخوذة من قبل المقرض مثلاً. أما لو كانت الحرمة منصبة على نفس المعاملة الربوية فلا مجال لما ذكره.

ثالثاً: إن دعواه (قده) أن التخلص من الربا لازمه أن يكون جعل الربا لغوياً غير صحيح، ولا دليل عليه، لأننا بمجرد أن نقوم بعملية التغيير في العنوان تخرج المعاملة عن كونها ربا فلا يقال بأن هذا يلزم منه اللغوية.

رابعاً: إن عدم تنبيه رسول الله (ص) الناس على الحيل لا يدل على عدم شرعيتها وإلا لزم القول بعدم وجوب الخمس في أرباح المكاسب لعدم النص الدال على ذلك منه (ص) بل الكثير من الأحكام كذلك. مضافاً للتدريج في تبليغ الأحكام حتى لقد قيل بأن هناك بعض الأحكام لا زالت مذخرة عند الإمام صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه) لا تبلغ إلا بعد ظهوره. على أنه قد يقال بأنه لا مانع من الالتزام بعدم تبليغه (ص) لذلك ولا محذور فيه، لما هو الثابت في محله من ثبوت حق التشريع لهم (ع). وإن كنا قد ذكرنا في محله أن الحق هو عدم ثبوت ذلك لهم بمعنى أن لهم الجعل كما كان ذلك له (ص) والتفصيل في محله .

خامساً: قد توقف (قده) في محمد بن إسحاق بن عمار وهو في غير محله، لأن مجرد كون الشخص واقفياً لا يمنع من قبول رواياته لأن المناط في الحجية إما الخبر الموثوق بصدوره وهذا لا علاقة له بكونه واقفياً وعدمه، بل لو كان ثقة إمامياً إلا أنه لم يحصل وثوق بصدور الخبر فلا يعمل به. وإما كون الرواي ثقة فلا يضر كونه واقفياً بعد ثبوت وثاقته لنص النجاشي على ذلك. نعم لو قلنا بحجية خصوص خبر العدل الإمامي لكان للتوقف فيها مجال بل ردها هو المتعين حيث أن الوقف يكون مانعاً عن شمول دائرة الحجية لها فلا
يمكن التعويل عليها بوجه.

هذا وهو (قده) لا يلتزم بذلك. وعليه فيمكن الاعتماد على الرواية وتكون حجة وتفي بالغرض لإثبات المطلوب.
هذا وقد تعرض سيدنا الشهيد الصدر(ره) إلى جملة من الوسائل والطرق التخلصية التي يمكن التخلص بواسطتها عن القرض الربوي في كتابه البنك اللاربوي، لكننا نعرض عن التعرض إليها، حذراً من الإطالة، خصوصاً وأنه لم يكن منهجنا منذ البداية استقصاء جميع الوسائل المتصورة في المقام.

 

[1] سورة ص الآية رقم 44.
2 البيع ج 2 ص 405