29 مارس,2024

فقه البنوك(4)

اطبع المقالة اطبع المقالة

أما المقام الأول : وهو ملكية العنوان :

فالظاهر هو قابلية العنوان والجهة للملكية ويستدل لذلك بالسيرة العقلائية . ويمكن تقريبها:

إن السيرة العقلائية من زمن الدول القديمة كالدولة الآشورية قائمة على ملكية العنوان، بل سيرة المتشرعة، بل تأسيس الشارع على ذلك لما ورد من أن المسجد الحرام في أيام الرسول يملك مع أنه عنوان، وكذا غيره من المساجد . وكذلك الوقف فله أموال لا يجوز التصرف فيها وله حق وعليه مثله ويمكن عقد معاهدات تجارية بينه وبين الناس ويكون متولي الوقف ممثلاً له ويتولى صيانة حقوقه فيشتري ما يحتاج إليه الوقف وللوقف أن يتملكه كما للمتولي أن يقترض للوقف حين الحاجة . وكذلك ملكية عنوان الفقراء للزكاة وملكية عنوان الإمامة للخمس وملكية العبد وملكية السيد له وهكذا . وكذلك من الناحية العرفية ، فالعناوين تملك كما يملك الأفراد فنراهم يقولون هذا الكرسي ملك للمستشفى الفلاني بل في الأعراف العقلائية للعنوان قابلية على الملكية الطولية فالشركة مالكة لتلك البنايات أو الأراضي وتلك الأراضي مملوكة لتلك البنايات وهكذا .

المقام الثاني : في ملكية الدولة :

هذا وبعد وضوح إمكانية مالكية الجهة والعنوان، فإن ما تقدم بمثابة الكبرى، ولنجعل صغراها الدولة، فهل يمكن أن ينطبق عليه ما سببق، فيحكم بثبوت الملكية فيها أم لا؟…

أما القائلون بالملكية، فهم في راحة،لما عرفت فيما تقدم من قابلية العنوان والجهة للملكية، ولا موجب للتفصيل بين عنوان وآخر، وعليه يكون الحكم في الجميع واحداً، فمن قال بالتفصيل هو الذي يحتاج إلى إقامة دليل على دعواه.

وهذا يعني أن القائلين بعدم الملكية إما عليهم أن يثبتوا خطأ القول بكون العنوان له قابلية الملكية، أو الإتيان بما يمنع من قابلية بعض العناوين للملكية.
ومن الطبيعي أن الاستقراء لجميع الأقوال والاحتمالات المذكورة في مقام الاستدلال يخرجنا عن الهدف المنشود، من عرض إجمالي بشيء من البيان للمسائل المستحدثة وبعض ما يرتبط بها من المباني الاستدلالية، لذا سوف نقصر الأمر على عرض خصوص ما يذكر كمانع يمنع من القول بملكية الدولة والعناوين المشابهه، كالبنك مثلاً، بعد التسليم والقبول بوجود المقتضي لثبوت الملكية فيها، فنقول:

يمكننا تصوير المانع بنحوين:

الأول: إن الالتـزام بثبوت حكم لموضوع ما يحتاج إلى وجود دليل يدل على ثبوت ذلك، فالحكم مثلاً بحلية أمر ما، أو بحرمته، أو وجوبه يتوقف على وجود ما يدل على ذلك، فما لم يكن الدليل واقعاً في الخارج فلا مجال للقول بثبوت الحلية أو الحرمة أو الوجوب وهكذا.

ومقامنا من هذا القبيل، إذ إننا نقرر أن الملكية أمر اعتباري سهل المؤونة كما عرفنا ذلك فيما تقدم، وأنها بيد المعتبر يجعلها لمن يشاء، وهذا يعني أنه يمكن أن يجعل المعتبر الملكية للدولة، ويجعلها للبنك، وهكذا، إلا أن هذا الاعتبار حتى يكون ذا فاعلية وأثراً، فإنه يحتاج إلى دليل يعطيه هذه الفاعلية والأثر، وهذا يعين أنه ما لم يكن هناك دليل يدل على ذلك، فلا مجال لترتيب آثار على مثل هكذا أمر.

وعندما نعود للبحث عن وجود دليل يدل على ثبوت الملكية للدولة، فإننا لا نجد ما يتضمن ذلك، فلا يوجد عندنا ما يثبت أن البترول ملك للدولة، كما أنه لا يوجد عندنا ما يدل على أن الغابات ملك للدولة.

وبالجملة، إن عدم الدليل الدال على ثبوت الملكية للدولة والبنك وما شابههما من العناوين يمنعنا من الالتـزام بثبوت الملكية لهما، وهذا هو الفارق بينهما وبين ما دل على ملكية الوقف، وملكية جهة الفقراء، وما شابه ذلك، إذ أن الملكية الثابتة في هذين مثلاً ترجع إلى وجود الدليل الدال على ذلك، وهذا بخلافه في مقامنا كما ذكرنا، فلاحظ.

 الثاني: ما أشير إليه في بعض استفتاءات سيدنا الخوئي(قده)، وحاصله: إن كل من يتصرف في شيء لابد وأن يكون مالكاً حق التصرف فيه، إما بكونه مالكاً لذلك الشيء أو تكون له الولاية على التصرف في ذلك الشيء، والطرف الذي يوقع المعاملة عوضاً عن الدولة، كالموظف مثلاً، فليس له ولاية على التصرف في ذلك، لأن المالك بحسب الفرض هو عنوان الدولة، والشخص المتصرف ليس مالكاً لولاية شرعية في التصرف، فالموظف الذي يدفع قرضاً للمقترض من البنك لن يتحقق القرض خارجاً، والمدفوع له المال لا يملك المال، لأن الموظف ليست له ولاية شرعية على التصرف في أموال الجهة.
وبالجملة، إن الذي يريد أن يتصرف في مثل الأموال العامة يحتاج إلى ثبوت ولاية له على التصرف، وما لم يكن له ذلك، فلا يحق له التصرف.
ثم إنه ووفقاً لعدم الحكم بثبوت الملكية للدولة بالبيان الذي ذكرنا، أم ببيان آخر غير ذلك، فإنه سوف يحكم بأن الأموال الموجودة عندها أموال مجهولة المالك، وبالتالي لا يحق لأحد التصرف فيها إلا وفقاً لأحكام مجهول المالك، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

الفرق بين البيانين:

هذا ولا يخفى أنه وفقاً للنحو الأول، فالنتيجة هي الحكم بعدم ملكية الدولة، وترتيب آثار مجهول المالك على الدولة، سواء كانت دولة شرعية، أم كانت دولة ظالمة.
وهذا بخلافه لو بنينا على البيان الثاني، فإنه يحكم بعدم كون المال الموجود مجهول المالك إذا كانت الدولة خاضعة لولاية الفقيه العادل الجامع لشرائط الفتوى، فلاحظ. 

عود على بدء:         
   
ثم بعدما اتضح لنا موضوع ملكية الدولة، وما يتعلق به، يتضح الآن منشأ التقسيم الثلاثي، لأنه بناءً على القول بعدم ملكية الدولة، يكون المال مجهول المالك، وعندها يكون معنى للتقسيم الثلاثي، وهذا بخلافه لو قلنا بملكية الدولة، فإن الأموال الموجودة عندها لا تسمى مجهولة المالك، بل تكون بمثابة الملك الشخصي، وتعامل معاملة الجهة المالكة، فلاحظ.