29 مارس,2024

القراءات المختلفة للدين (4)

اطبع المقالة اطبع المقالة

الكثرة والحق:

مما يتمسك به القائلون بالتعددية كدليل يسعون من خلاله إلى إثبات صحة هذا المبدأ وهذه الأطروحة التمسك بمبدأ الكثرة والحق، فيقولون أنه لو حصرنا الحق في دين معين، لا يعتنقه إلا القليل، فيلزم من ذلك أن يكون الأكثر على باطل وضلال، لأن الأكثر لا يعتنقون ديناً أو مذهباً معيناً، وإنما البشر يعتنقون أدياناً ومذاهب متعددة، وبذلك سوف لا يكون الأكثر على حق، ولا يرون النجاة، وهل يمكن تقبل مثل ذلك بأن نحصر الحق والنجاة في مجموعة معينة، أو قليلة من البشر، بينما الأكثرية محرومة منه؟…

الجواب عن هذا الدليل:

لكنه من الواضح أن هذا الاستدلال، غير تام، حيث يمكننا أن نلاحظ عليه:

أولاً: لا مجال لأن يكون الحق وفي أي مجال من المجالات محدداً بواسطة الكثرة، بل حسب التصور الإسلامي يتحدد الحق بمرضاة الله سبحانه وتعالى، وموافقته للدين الحق، واشتماله على المصالح والمفاسد الواقعية، لذلك رأينا الأنبياء لم يتبعوا الكثرة وأهواءهم في عصرهم، بل حاولوا هدايتهم، وخالفوا معتقداتهم وتقاليدهم الجاهلية، بل لو كانت الكثرة هي الحق، لم يـبعث الأنبياء وشرائعهم، حيث أنها تقصد هداية البشرية.

ثانياً: إن بإمكاننا أن نقسم هذا الإشكال إلى أقسام:

1-أننا لو أخذنا بمبدأ الكثرة للزمنا القول بأنها مشرعة، وهي ليست مشرعة، لأن التشريع كما هو مقرر في محله يخـتص بالله سبحانه وتعالى، لإحاطته بالمصالح والمفاسد الواقعية وتجرده عن عوامل القصور، لذلك فلا يرجع للناس في أصل التشريع.

2-إنه لا يرجع للكثرة أو للناس في مجال تقويم الأحكام الإلهية الكلية، من حيث نسخها أو تغيـيرها، في غير المجالات المشروعة للتغير، أمثال الحكام الولائية، أو العناوين الثانوية وأمثالها.

نعم في تحديد هذه المجالات المشروعة لتغير الأحكام في وجودها أو مساحتها وحدودها، نعم ربما رجع بعض الناس لبعضهم، أو رجعوا إلى أهل الخبرة، لكن لابد من أن يكون تحديدهم على ضوء الأحكام والمبادئ الإسلامية.

3-كذلك في مجال التطبيقات أو التصرفات لابد أن تكون موافقة للحكام والمبادئ الإسلامية، فهل أن اتفاق الأكثر على مشروعية السفور، ورفض الحجاب، يستوجب أن يكون السفور على حق ومشروعاً، والحجاب باطلاً؟…

الديمقراطية بالمفهوم الغربي:

ولأجل ما ذكرنا نرفض الديمقراطية بمفهومها الغربي الذي يعطي حق التشريع لرأي الشعب أو لأكثريته، أو يبرر تصرفاتها حتى لو خالفت الأحكام الإلهية والإسلامية الحقة.

4-ولأجل ما قدمنا ذكره، لو وجدنا الكثرة قد اتفقت على حكم أو سلوك مخالف للدين الحق كالإباحية الجماعية مثلاً، فهذا لا يعني أنها على حق في تشريعها أو سلوكها، والإسلام إنما يلاحظ في أحكامه وتطبيقاته مرضاة الله سبحانه وتعالى، ومدى تأثيرها في سعادة الفرد والمجتمع وكماله، هذا هو مفهوم الحق حسب التصور الإسلامي، لا مجرد اتفاق الكثرة، كما قال تعالى في القرآن الكريم:- ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض)، وليس من العجيب انحراف الكثير، يقول عز من قائل مخاطباً رسول الإنسانية محمد(ص):- (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)، وقال سبحانه:- ( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أن يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً)، وقال تعالى:- ( وما أكثر الناس لو حرصت بمؤمنين)، وقال:- ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)، وهناك آيات كثيرة بهذا المضمون قريـبة من ثمانين آية.

هذا ويمكن أن يكون السبب هو ما أشرنا إليه من أن الحق يتمثل في اشتماله على المصالح والمفاسد الواقعية، ولا يعلم بها إلا الخالق اللطيف، مع عدم إحاطة البشر بها، لذلك اختص التشريع به سبحانه.

عدم الإجماع إلا مع رضا المعصوم:

ولأجل هذا ذهب علمائنا إلى عدم حجية إجماع العلماء إذا لم يقترن برضا المعصوم، وكذلك ذهبوا إلى عدم حجية سيرة العقلاء في تشريع الأحكام لو لم تكن متصلة بالمعصوم، ليكتسبا الحجية من باب سنة المعصوم وإمضائه وتقريره، الذي يعلم بمدد الله سبحانه بالمصالح والمفاسد الواقعية، لا لتأثير الإجماع أو السيرة نفسها في تشريع الحكم.

5-إن هناك مجالات عديدة حكم فيها علماؤنا بالرجوع لرأي الناس، ولسيرة العقلاء، وفي الغالب تـتحدد في تطبيقات الأحكام، وفي تشخيص وتحديد موضوعاتها، أو في مصاديق الموضوعات، وخاصة في الرجوع إلى أهل الخبرة منهم:

فيرجع إليهم في تحديد الموضوعات والتطبيقات، كما في تحديد تطبيقات وأساليب الجهاد، حيث أنها تـتغير ويرجع في تحديدها إلى الناس، أو لأهل الخبرة، ولابد أن لا تخالف الأساليب الجهادية وتطبيقاتها الأحكام والمبادئ الإسلامية الثابتة، فالإسلام يضع الأحكام للموضوعات الكلية، كما يضع الحرمة لشرب الخمر، ولكن تشخيص أن هذا الشيء مصداق للموضوع الكلي كالخمر، فإنه يرجع فيه للناس أو لأهل الخبرة، ولابد أن يكون تشخيصهم على ضوء الأحكام والموضوعات والمبادئ الإسلامية الثابتة، ويعرف بعض هذه المجالات في علم الأصول بالشبهات الموضوعية، في مجال الشك فيها، فمثلاً يرجع إلى أهل الخبرة خاصة في تعيـين المرجع، لا لكل أحد، حتى من غير أهل الخبرة والفقاهة، بل لابد من الرجوع للفقهاء، ولكن لابد أن يكون تعيـينهم على ضوء الأحكام والصفات الإسلامية، وليس لهم الحق أن يخـتاروا أي مرجع حتى لو لم تـتوفر فيه الصفات الإسلامية المشروعة، ولكن لا يرجع إلى أهل الخبرة أو للناس عامة في اعتبار المرجعية، ومشروعيتها في نفسها، بحيث لو تقبلوا المرجعية فتكون مشروعة ومعتبرة، وإلا لو لم يتقبلوها فلا تكون مشروعة، وذلك لأن المرجعية حكم إسلامي، قد جعله الشارع المقدس دون أن يملك الناس حق نسخه أو تغيـيره، وإنما لهم الحق في الكشف عن مصداق المرجع وتعيـينه أو تطبيقه في ضوء الأحكام الإسلامية، وكذلك الحال في سائر الأحكام الشرعية، فلا يرجع إليهم في وجوب الحجاب، أو حرمة الخمر، فلا يكون الحجاب واجباً، أو الخمر محرماً، فهذا ما لا يؤخذ برأي الناس فيها، لما عرفت من اختصاص حق التشريع بالله سبحانه وتعالى.

العقود والمعاملات:

وكذلك يرجع إليهم في بعض العقود والمعاملات ومصاديقها، لأن أدلتها إمضائية للعقود العرفية حتى المستحدثة في مصاديقها بشروطها التي ذكرها العلماء، فيؤخذ مفهوم العقد من عرف صدور النص وزمانه ومكانه، ولكن مصاديق العقود لا تختص بها، بل تشمل كل ما لا يصدق عليه العقد بشروطه الشرعية، وإن كان مستحدثاً.

سيرة العقلاء:

وكذلك يرجع إلى سيرة العقلاء إذا توفر شرط رئيسي وهو اتصالها بعصر المعصوم(ع) حتى تكتسب شرعيتها من إمضاء الإمام(ع) لها، وتقريره.

وغيرهما من المجالات التي حكم فيها العلماء بالرجوع للعقلاء والعرف وأهل الخبرة، وقد بحثها العلماء في مخـتلف البحوث وخاصة في الفقه والأصول، ولا يسعنا الحديث عنها الآن وتوضيحها، ذلك لأن هذا يستدعي بحوثاً موسعة.

إذن فلا ننكر الرجوع إلى رأي الناس والعقلاء وأهل الخبرة في الكثير من المجالات، لكن هناك مجالات لا يرجع إليهم كما ذكرنا بعضها، كما في مجال التشريع، أو تقويم الأحكام وتغيـيرها ونسخها، أو في التطبيقات التي لا توافق الأحكام الإسلامية، والمعتمدة على أهواء الناس وظنونهم، فهل أنهم لو شرعوا حكماً، أو رفضوا حكماً أو معتقداً مسلماً، كما لو رفضوا الإسلام أو النبي أو الإمام أو بعض الأحكام والمعتقدات الإسلامية الثابتة، فيكون رأيهم على حق، أو كان التطبيق مخالفاً للأحكام والمبادئ الإسلامية الثابتة؟…

خصوصاً إذا قلنا أن الحجة للأكثرية وإن كانت تزيد بقليل جداً على الجهة المقابلة لها مع ما يلاحظ من تأثير الكثير من العوامل في البشر، كعوامل الوراثة والتربية والمحيط ووسائل الإعلام والإرهاب، وقصور العلم والإحاطة بالمصالح والمفاسد الواقعية ومواقعها بمختلف مجالاتها، وتأثير بعض الرغبات والميول أو انحرافاتها مما يتجرد منها الشارع المقدس، فهل يكون حكم مثل هذه الأكثرية على حق ولو خالف رضا الله والمبدأ الحق، والأحكام الإسلامية الثابتة، وكيف يكون مفروضاً على الجهة الأخرى التي لم تقبل هذا القانون، أو السلوك أو التطبيق، وخاصة مع تبدل آرائهم في بعض المجالات بفعل تلك العوامل، فهل يتصور تعدد الحق والواقع!!!.

التبعيض في تعاليم الأديان:

هذا وقد ذكر تفسير آخر للتعددية الدينية غير ما ذكرناه، وهو عبارة عن: أن كل شريعة تشتمل على حق وباطل، على تعاليم حقة وخرافات وباطل، فنقول بالتبعيض بالحق، فلا يوجد دين حق أو باطل بتمامه، فلا يصح القول برفض الإسلام والمسيحية تماماً، بل لابد من احترامهما جميعاً بدرجة واحدة، ومن أجل ذلك يمكن الأخذ بقسم من التعاليم المسيحية والإسلامية واليهودية وغيرها من الأديان، ولذلك قال هيك في بعض أحاديثه، بأنه يقبل الإسلام، ولكن على المسلمين إصلاح إسلامهم مما فيه من تعاليم غير حقة، وإن كانت ثابتة وضرورية الصدور، فمثلاً على الإسلام إلغاء قطع يد السارق، لأن المعيار الذي يعتقده هيك في تقويم الحق والباطل، وهو معيار الشهود، أو المعيار الأخلاقي، يعتبره عملاً غير أخلاقي.

الجواب عن هذا التفسير:

وهذا التفسير للتعددية الدينية، قابل للمناقشة، حيث يمكننا مناقشته بالتالي:

أولاً: لا شك بأن الكثير من الأديان تشتمل على تعاليم حقة، ولا يوجد الباطل المحض في كل مبدأ، بل حتى في غير الأديان الإلهية، فإن الإسلام يعترف بوجود بعض المعتقدات والتعاليم الحقة في سائر الأديان.

ولذا يذكر دائماً أن هناك مشتركات في العقائد والأحكام والأخلاق بين الشرائع الإلهية الأصيلة، بل ربما حتى بعد تعرضها للتحريف، فإن الكثير من تعاليمها الأصلية وإن تغيرت، لكن بقيت بعض التعاليم الحقة فيها.

ثانياً: بعد قبولنا لهذا التبعيض في بعض الأديان الراهنة، وأنها تشتمل على حق وباطل، لما نراه في بعض الأديان من خرافات وأحكام وتعاليم ومعتقدات باطلة، بل مدمرة، لكن الإسلام الأصيل النازل من السماء فإنه حق بكامله، ليس فيه باطل، وإن وجدت بعض الأخطاء في بعض تفسيراته، وخاصة التفسيرات المنحرفة، لكن أصالته حقة، وهو الدين الذي يجب اعتناقه دون سواه في مرحلة الخاتمية، فإنه حق بكامله، حيث إنه تمت النعمة وأكمل الدين الصحيح بنـزوله، وأما الشرائع والمبادئ الأخرى، وإن اشتملت على حق فما كان من تعاليمها موافقاً للإسلام الأصيل فهو حق وإلا كان باطلاً، وخاصة بعد تعرضها للتحريف في المعتقدات والأحكام، فكيف تكون على حق بكاملها؟…

وكذلك سائر المذاهب، ما كان من أحكامها وتعاليمها موافقاً للمذهب الحق المتمثل في القرآن الكريم وعترة الرسول(ص)، فهو حق، وإلا لم يكن صحيحاً بمقتضى حديث الثقلين وغيره من النصوص المتضمنة لذلك.

دليل حقية الإسلام بكامله:

ثم إن الدليل على أن الإسلام حق بكامله، وفي جميع تعاليمه، أن الإسلام في الكثير من نصوصه يرفض التبعيض في الإيمان بالإسلام، أي الإيمان ببعض الآيات والأحكام الإسلامية، والكفر ببعضها، ويرى بأن التبعيض في الإيمان بالتعاليم الإسلامية يساوي الكفر، وعدم الإيمان بكله ورفض التبعيض في الإيمان بالإسلام، يدل على أن جميع تعاليمه على حق، والنـتيجة أن كل ما جاء به الإسلام الأصيل والثقلان المباركان، يمثل الواقع والحق الإلهي، وليس فيها باطل.

وقد ورد في القرآن الكريم رد على التبعيض، قال تعالى:- (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون). وقال سبحانه:- ( إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً).