28 مارس,2024

مسألة في الإستغفار و التوبة

اطبع المقالة اطبع المقالة

س: إن القارئ للقرآن الكريم يجده مرة يقدم الاستغفار على التوبة كما في قوله تعالى:- (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه)، وأخرى نجده يقدم التوبة على الاستغفار، كما في قوله تعالى:- (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرون)، فما هو الوجه في ذلك؟

ج: لا يخفى أن الموضوع الذي تضمنته الآيتان اللتين وردتا في السؤال، هو التوبة والاستغفار، وهما من المفاهيم التي يتصور اتحادهما، وأنهما بمعنى واحد، بل ربما توهم البعض ترادفهما، مع أن الصحيح أنهما مفهومان متغايران، ذلك أن التوبة تعني الرجوع، بينما الاستغفار يعني الستر. نعم لا مانع من أن يتحدا في المصداق الخارجي بأن يكون هناك شخص تائب ومستغفر في نفس الوقت، وعليه فحديث القرآن الكريم مرة عن تقديم التوبة، وأخرى عن تقديم الاستغفار، لابد وأن يكون غايته الإشارة إلى أمر ما، وحتى يتضح المقصود من ذلك، لابد وأن نحيط بما يحتاج المذنب حتى يتسنى له التوبة، فهل أن مجرد عزمه وقصده للتوبة يحقق الغرض، أم أنه بحاجة إلى موجبات كي ما يتحصل على ذلك؟

عندما نعود للقرآن الكريم، نجد ثلاثة أساليب وردت فيه حول التوبة:

الأول: جعله سبحانه وتعالى التوبة من نفسه، قال تعالى:- (ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم)، فنجد أنه عز وجل قد قدم التوبة من نفسه أولاً، ثم ذكر بعد ذلك توبة العاصي، نعم لم يتعرض الباري سبحانه لبيان المقصود من توبته عليهم، والظاهر أن المقصود منها عبارة عن التوفيقات والعناية الخاصة التي يوفق الله تعالى إليها العصاة حتى يتوبوا ويرجعوا إليه سبحانه.

الثاني: تقديم الاستغفار على التوبة، قال تعالى:- (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه)، ولم ينحصر تقديم الاستغفار على التوبة في خصوص القرآن الكريم، بل هو في الأدعية كثير جداً، حتى أن المؤمنين غالباً ما بين السجدتين في صلواتهم، يقولون: استغفر الله وأتوب إليه.

الثالث: تقديم التوبة على الاستغفار، كما في قوله تعالى:- (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه)، فإنه سبحانه قد قدم التوبة على الاستغفار، بخلاف ما كان في الأسلوب الثاني، كما هو واضح.

ومن خلال استعراض الأساليب القرآنية الثلاثة للحديث عن التوبة يمكن أن نعرف أن التائب كي ما يتمكن من التوبة يحتاج إلى ثلاثة أمور:

الأول: التوفيق من الله سبحانه وتعالى، والإقبال عليه ليتمكن من الدخول في الصراط المستقيم بعدما كان منحرفاً.

الثاني: تحقق الندم منه على معاصيه، وذنوبه، ولا ريب أن الندم فعل نفسي لا يحرز إلا من خلال وجود مبرز يبرزه، والطريق إلى ابرازه عادة يكون بواسطة الاستغفار.

الثالث: محبة لغفران والاستغفار، فيتكرر منه صدور الندم مرة أخرى.

فالآية في الأسلوب الثاني عندما قدمت ذكر الاستغفار على التوبة، جاءت تشير إلى أنه حتى ينطبق عليكم عنوان التائبين، فلابد وأن يصدر منكم الندم، وطريق إحراز صدوره يكون عادة من خلال الاستغفار، فتقديم ذكره لكونه كاشفاً عن كون الإنسان قد ندم، ورجع عما كان عليه من الانحراف.

بينما هي في الأسلوب الثالث، تتحدث عن بلوغ التائب مرحلة أعلى، إذ أنه وصل إلى مرحلة حب الغفران والاستغفار، كونه قد فرغ من الندامة، وأبرزها من خلال الاستغفار، لكنه الآن يطلب محبة الغفران، وذكر التوبة بعده إشارة إلى تكرار الندامة حتى بعد محبة الغفران والاستغفار، وتأكيد على تحققها خارجاً.

هذا وقد ذكر علماء المعرفة والأخلاق، أن للتوبة أقساماً:

منها: توبة الإنابة، وهي التي تكون عبارة عن الخوف من الله سبحانه وتعالى. ولا ينبغي الخلط بين الخوف من عقابه سبحانه، وبين الخوف منه، إذ أن الخوف منه، لا يلزم أن يكون خوفاً من عقابه، ضرورة أنه قد يكون الموجب للخوف منه يعود لخشية الحرمان من العطاء، والفيوضات الخاصة، فلاحظ.

ومنها: توبة الاستجابة، وهي التي تكون ناشئة من الحياء من الباري سبحانه وتعالى، لأن العبد يرى أنه تعالى قريب منه، وقربه يوجب حياء عنده.

ومنها: توبة العوام، وهي التي تكون بسبب خوف العبد من عقاب الله سبحانه وتعالى، وعذابه.

ومنها: توبة الخواص، ولما كان الخواص لا يتصور فيهم المعصية حتى يتصور فيهم التوبة، قالوا أنهم إنما يتوبون من الغفلة عن ذكر الله تعالى.

ومنها: توبة خواص الخواص، وهي التي تكون للأنبياء والأولياء، وتكون عادة من فعل المباح، والله العالم .

*******

س2: هل أن سقوط العقاب عن التائب من باب التفضل، أم أنه من باب الاستحقاق؟

ج2: لقد تضمنت الأدلة الشرعية، أنه متى تحققت من الإنسان التوبة الصادقة الصحيحة، أوجب ذلك سقوط العقاب عنه، فلاحظ ما جاء عن النبي الأكرم محمد(ص) أنه قال: التائب من الذنب، كمن لا ذنب له. وجاء عن الإمام الباقر(ع) في حديثه مع محمد بن مسلم: يا محمد بن مسلم، ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له، فليعمل لما يستأنف بعد التوبة والاستغفار من الذنوب.

وروى أبو بصير عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: أوحى الله إلى داود النبي(ص): يا داود، إن عبدي المؤمن إذا أذنب ذنباً ثم رجع وتاب من ذلك الذنب، واستحيا مني عند ذكره، غفرت له، وأنسيته الحفظة، وأبدلته الحسنة، ولا أبالي وأنا أرحم الراحمين.

نعم هل أن سقوط الذنب عنه تفضلي من الله سبحانه وتعالى، أم أنه من باب استحقاق العبد لذلك؟

أما البناء على التفضل، فلا ريب أنه لا يوجد ما يمنع منه، خصوصاً وأن نعم الله سبحانه وتعالى لا تحصى على عباده، إلا أنه هل يمكن أن يوجه كونه من باب الاستحقاق، ولا ينبغي أن يخلط في المقام بين الثواب، وهو الذي يكون بنحو التفضل كما عليه المشهور من أصحابنا، وبين المقام، لأنه يمكن أن يقرب القول بالاستحقاق في المقام، بما قد لا يتسنى تقريـبه في الثواب هناك، وحاصل ما يمكن ذكره تقريباً أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى قد جعل هذا الحق للتائب من خلال ما كتبه عز وجل على نفسه، فيكون وعداً صادراً منه، فلاحظ قوله تعالى:- (كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم)، وكذا قوله سبحانه:- (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً)، وهذا يقضي أن يكون وقوع العقاب منه تعالى لعبده التائب بعدما صدرت منه التوبة قبيحاً.

والإنصاف، أنه لو بني على كون سقوط الذنب عن التائب من باب الاستحقاق، لم يكن في ذلك ضير ولا حزازة، والله العالم.