19 مارس,2024

سؤال حول رواية "و على معرفتها دارت القرون الأولى" في حق الزهراء (ع)

اطبع المقالة اطبع المقالة

س: ما هو المقصود من الرواية الواردة في شأن السيدة الزهراء(ع): وعلى معرفتها دارت القرون الأولى؟

ج: هذا الحديث ذكر في غير واحد من المصادر الحديثية المتعرضة للحديث عن فضائل السيدة الطاهرة فاطمة(ع)، كالبحار على سبيل المثال، فقد ورد بسنده عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: إن الله تبارك وتعالى أمهر فاطمة(ع) ربع الدنيا، فربعها لها، وأمهرها الجنة والنار، تدخل أعداءها النار، وتدخل أولياءها الجنة، وهي الصديقة الكبرى، وعلى معرفتها دارت القرون الأولى.

ولا يخفى أن هذا الحديث يتضمن الإشارة إلى مقامين من مقامات السيدة الزهراء(ع)، وهي كثيرة، والمقامان المشار إليهما في هذا الحديث هما: مقام الصديقية، والثاني: كون معرفتها قد دارت عليها القرون الأولى.
ولما كان السؤال منصباً على بيان المقصود مما جاء في المقام الثاني، فلنقصر الحديث عليه بخصوصه.

إن أول ما ينبغي ملاحظته في معرفة المقصود من قوله(ع): وعلى معرفتها…الخ…، تحديد المقصود من المعرفة، إذ تارة تكون كلمة المعرفة محمولة على معناها الحقيقي من دون تغيـير فيها، لعدم وجود قرينة صارفة لها عن هذا المعنى، وأخرى قد يكون هناك ما يوجب حمل
اللفظ المذكور على غير المعنى المتصور منه بحسب الظهور الأولي.

وعلى أي حال، لو بني على المحتمل الأول، وهو كون اللفظ محمولاً على معناه الحقيقي وما هو الظاهر منه عرفاً من دون تغيـير، فعندها يمكن ذكر ثلاثة احتمالات في المقصود من المعرفة:

الأول: أن يكون المقصود من المعرفة في الحديث هي المعرفة الفطرية: ونقصد منها الأمور التي فطر الإنسان عليها ولم تتلوث أو تتغير نتيجة ما يلاقيه من أمور في الحياة الدنيوية، فتكون هناك معرفة للزهراء(ع) معرفة فطرية، كما أن هناك معرفة فطرية لمن خلق السموات والأرض.
الثاني: أن يكون المقصود منها هي المعرفة الوجودية: وهي التي تقوم على أن لكل شيء من الموجودات نسبة من الإدراك والمعرفة، فمعرفة الزهراء(ع) بلحاظ ما لكل موجود نسبة معرفة وإدراك، نعم يتميز الإنسان على بقية الموجودات بنسبة إدراكية أكثر من غيره.

الثالث: أن يكون المقصود منها المعرفة حال الموت، وأثناء نـزع الروح: لكون الإنسان يعاين المعصومين(ع).
والظاهر أنه لا يقصد من المعرفة في المقام، المعنى الثالث، وبالتالي يكون الأمر دائراً بين المحتملين الأول، والثاني، ولا ينبغي الغفلة عما أشرنا له سابقاً من أن هذا مبني على إبقاء لفظ المعرفة على حاله دونما تغيـير.

بعد هذا نقول، إن في العبارة المذكورة احتمالات ثلاثة:

الأول: أن يكون المقصود من العبارة المذكورة الإشارة إلى عجز القرون الأولى عن معرفة الزهراء(ع)، فكما أن هذه الأمة قد فطمت عن معرفتها، فكذلك الأمم السابقة فطموا عن معرفتها، ويساعد على هذا الاحتمال استعمال كلمة الدوران في اللغة بمعنى الحيرة، فيقال، دار، ويقال حار، فيستعمل أحدهما مكان الآخر، كما قيل، وعليه سوف يكون معنى النص، وعن معرفتها حارت القرون الأولى، وعجزت، ويكون النص حينئذٍ من قبيل ما ورد عن أبي عبد الله(ع) أنه قال:- (إنا أنزلناه في ليلة القدر)الليلة فاطمة، والقدر الله، فمن عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر، وإنما سميت فاطمة، لأن الخلق فطموا عن معرفتها.

ولا يخفى أنه وفقاً لهذا الاحتمال لم يتم التصرف في لفظ المعرفة، ولم يحمل على غير معناه، بل بقي كما هو، فلاحظ.
الثاني: أن يكون المقصود من معرفتها، هو معرفة ولايتها، فيكون المعنى أن الأنبياء والمرسلين قد أُخذ عليهم ولاية فاطمة(ع)، وعليهم أن يأخذوا ولايتها على أممهم أيضاً، فتكون جميع الأعمال الصادرة من الأمم مرهونة بولاية فاطمة(ع)، وعندها تكون صحة تلك الأعمال، وقبولها معلقان على ولاية فاطمة(ع)، فلو لم يكن أحد موالياً لها، فلن يكون عمله صحيحاً، أو لن يكون مقبولاً، وهكذا.

ويساعد على هذا الاحتمال النصوص التي تضمنت أن المعرفة تعني الولاية، فمن لم يعرف، أي من لم يوال، وقد وردت النصوص المتضمنة هذا المعنى بألسنة وسبل متعددة.

الثالث: أن يكون المقصود هو الإشارة إلى مقام الولاية التكوينية الثابتة للسيدة الزهراء(ع) على جميع ما في الوجود، فيكون التعبير الصادر نظير ما جاء في الزيارة الجامعة: حتى لا يـبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا صديق ولا شهيد…..إلا عرفهم جلالة أمركم، وعظم خطركم، وكبر شأنكم، وتمام نوركم.

والفرق بين المحتملات الثلاثة، من خلال السلب والإيجاب، ضرورة أن أولها يشير إلى عجز الأمم السابقة عن معرفة الزهراء(ع)، فتكون الزهراء(ع) سراً من الأسرار الغامضة، التي لا يصلح لمعرفتها كل أحد من العنصر البشري، بخلاف المحتملين الآخرين، فإنهما يتفقان على إمكانية الإحاطة بالمعرفة للزهراء(ع)، لكن الإحاطة لا تكون بمعرفة ذاتها، وإنما تكون بتحصيل ولايتها، والارتباط بها، أو بمعرفة ما لها من مقامات.

هذا والظاهر أن في المحتمل الأول بعداً، ضرورة أنه يــــــبقى عدم وضوح المنشأ والموجب لعجز القرون الأولى عن معرفة الزهراء(ع)، خصوصاً وأن ظاهر الحديث هو الكلام في العالم المادي، وليس الكلام في عالم الأرواح، وعليه فربما يصعب الجزم بظهور هذا المحتمل من الحديث، فيدور في الحقيقة بين المحتملين الثاني والثالث، ولا يبعد كون الثاني منهما أقرب للمقبولية، وتساعد عليه نصوص عديدة، والله العالم.