28 مارس,2024

الكلمة المسؤولة

اطبع المقالة اطبع المقالة

كما أن للإنسان تأثيراً على الواقع الاجتماعي من خلال أفعاله، فإن له تأثيراً أيضاً عليه من خلال أقواله، وكلماته، وذلك لأنه بالكلمة تجتمع الآراء، كما أن بها يحصل الاختلاف، ومن خلالها تثار الفتن، وبواسطتها تحل وتعالج، وقد تشن الحروب بسبب كلمة، ويحصل الإنسان على المعارف بالعقائد والأديان من خلال كلمة، والسبيل للتعرف على الأفكار، والإحاطة بالتوجهات هو الكلمة، وإصلاح الأسر واستمرارها بعد قيامها من خلال الكلمة، كما أن كلمة واحدة كفيلة بإنهائها وهدمها بعد بنيانها، وهكذا.

ويكفي أن يلتفت إلى أن الكلمة قد تكون سبباً في إنهاء الوجود الاجتماعي لفرد من الأفراد، كما أنها قد تكون سبباً لاستمراره في الوجود الحياتي، بل تعطيه استمراراً حتى بعدما يخرج من عالم الدنيا.

وبالجملة، لا ينكر ما للكلمة من دور وأهمية في مجالات متعددة، تكشف عن مدى فاعليتها وتأثيرها في الواقع الحياتي والاجتماعي للأفراد.

وهذا الدور البارز للكلمة ومدى تأثيره في الوجود البشري، يبرر لنا سر الاهتمام القرآني بها، وربطها في موارد عديدة كغيرها من الكثير من الموضوعات ذات البعد الاجتماعي بقانون التقوى، قال تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً)[1]، وهو الذي دعى إلى التفصيل في أنواع الكلمة، ليولي أهمية للكلمة الطيبة، فقال تعالى:- (ألم ترى كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء)[2]، فإن هذا التشبيه للكلمة الطيبة بالشجرة التي أخذت حيزاً في الوجود، فامتدت لتشكل صورة واسعة، يكشف عن الدور الفعال الذي تؤديه الكلمة الطيبة، كما عمد إلى التحذير من الكلمة الخبيثة، فقال تعالى:- (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض)[3].

فالكلمة الطيبة هي كل كلمة يراد بها الصلاح والإصلاح للمجتمع، والتي تكون متضمنة للمنفعة والفائدة لأعضائه، بخلاف الكلمة الخبيثة، فإنها تلك الكلمة التي تكون متضمنة للأفكار الهدامة، والأدوار السلبية، وهي التي تطرح المعلومات بخبث، وتوجب ضرراً للناس، وعدم منفعة إليهم.

وبالجملة، يمكن أن تنقسم الكلمة من خلال ما تعطيه من أثر في واقع حياة الأفراد والمجتمعات، وما تتركه عليهم من آثار إلى قسمين، إلى كلمة إيجابية، وكلمة سلبية، فالكلمة الإيجابية هي التي تكون آثارها آثاراً إيجابية، وهي التي عبر عنها القرآن الكريم بالكلمة الطيبة، ويقابلها الكلمة السلبية، وهي التي وصفت في القرآن بأنها كلمة خبيثة.

قيمة الكلمة اكتسابية:

ولا يختلف حال الكلمة بقسميها، الطيبة الايجابية، والخبيثة السلبية، عن بقية الموجودات في هذا الوجود، فشأنها شأن بقية الأشياء الموجودة فيه، فكما أن كل شيء موجود في هذا العالم له قيمة، وهي لا تخلو عن أن تكون إما قيمة ذاتية، أو قيمة اكتسابية[4].

ونقصد من القيمة الذاتية: التي تكون للشيء بنفسه من دون أن يلحظ معه شيء آخر، أو يضم إليه شيء آخر، فالعدل قيمته ذاتية، لأنه يلحظ من دون ملاحظة أي شيء آخر، والظلم قيمته أيضاً ذاتية، لأنها تلحظ فيه بنفسه من دن ملاحظة شيء آخر يضم إليه.

والحاصل، إن القيمة الذاتية للأشياء هي التي تكون ثابتة للشيء بنفسه من دون أن يكون هناك مدخلية لشيء آخر يرتبط به.

وأما القيمة الاكتسابية، فتعريفها: ما يكون معطى للشيء لا بلحاظه بما هو هو، وإنما بملاحظة ما يكون عارضاً عليه، أو يكون مرتبطاً به، بحيث أنه بنفسه لا يكون ذلك الشيء ثابتاً له، وإنما يثبت له جراء شيء خارجي يحيط به فيعطاه، وهذا مثل ضرب الطفل، فإنه بنفسه لا ينطوي على أية قيمة، ولا يكون ملحوظاً من قريب أو بعيد،، إلا أنه عندما يكون بقصد التأديب، لأنه يكتسي قيمة وأهمية، فيوصف عندها بصفة إيجابية، بينما لو كانت الغاية منه التشفي والتعذيب، فإنه يوسم بصفة سلبية، وكذا مساعدة الفقير، لأنها في نفسها لا تمثل شيئاً، إلا أنها إذا كانت من باب الشفقة، عدت قيمة إيجابية، وهكذا[5].

والحاصل، إن القيمة التي ثبتت للأمور المذكورة قد اكتسبتها بما أحاط بها، أو طرئ عليها من الأمور الخارجة، وليس من ذاتها، فلاحظ.

وحتى يتسنى لنا تحديد قيمة الكلمة، وأنها قيمة ذاتية، أو اكتسابية، لابد وأن يرجع للنصوص التي تضمنت التركيز على الكلمة، وعلى دورها وأهميتها، كما سمعت في مطلع الحديث.

فقد سئل الإمام زين العابدين(ع) عن الكلام والسكوت أيهما أفضل؟ فقال(ع): لكل واحد منهما آفات، فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت، قيل: كيف ذلك يا ابن رسول الله(ص)؟ قال: لأن الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما بعثهم بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت، ولا توقيت النار بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام، ما كنت لأعدل القمر بالشمس، إنك تصف فضل السكوت بالكلام، ولست تصف فضل الكلام بالسكوت[6].

ولا يخفى أن المستفاد منه تقديم الكلام على الصمت متى كان سبباً لنيل السعادة الدنيوية والأخروية، وهذا يقضي أنه لو كان الكلام سبباً للشقاء في الدارين، فلا ريب في أفضلية الصمت عليه، وهذا يعني أن قيمة الكلام ليست ذاتية، وإنما قيمته بلحاظ ما يكون منطوياً عليه من مادة، وأنها لو كانت منفعة كانت سبباً لكونه ذا قيمة إيجابية، وإلا فلا.

وجاء في معتبر سليمان بن خالد، عن الصادق(ع) عن آبائه(ع) أن أمير المؤمنين(ع)، قال: جمع الخير كله في ثلاث خصال: النظر، والسكوت، والكلام، فكل نظر ليس فيه اعتبار فهو سهو، وكل سكوت ليس فيه فكر فهو غفلة، وكل كلام ليس فيه ذكر فهو لغو، فطوبى لمن كان نظره عبراً وسكوته فكراً، وكلامه ذكراً، وبكى على خطيئته، وآمن الناس شره[7]. فإن المستفاد منه تقسيم الكلام إلى قسمين، ما يوصف بكونه خيراً، وما لا يوصف بذلك، وسبب توصيفه بالخيرية إنما هو بما يكون متضمناً إياه من مادة، فإن كان مشتملاً على الذكر، كان خيراً، وإن لم يكن مشتملاً على ذلك، فقد عدّه(ع) بأنه لغو، وقد ورد النهي عن اللغو، كما لا يخفى.

وفي مرسل علي بن رباط عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله(ع) قال: لا يزال العبد المؤمن يكتب محسناً ما دام ساكتاً فإذا تكلم كتب محسناً أو مسيئاً[8].

ولا تختلف دلالته عن سابقيه، لو لم يكن أصرح من ثانيهما، فإنه موجب تفضيل الصمت على السكوت، مرجعه لكونه حال تكلمه قد يخرج من دائرة الصلاح والتقوى، للمعصية والخطئية، ولهذا ذكر(ع)، أنه بكلامه قد يكون محسناً، وقد يكون مسيئاً، وهذا يعني أن الكلام قد يكون صالحاً، وقد لا يكون كذلك، فليست القيمة للكلمة ذاتية، بل قيمتها بما يلقى من خلالها، فتدبر.

وجاء في وصية النبي(ص) لأبي ذر(رض)، قال: قال رسول الله(ص): على العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً لسانه، فإن من حسب كلامه من عمله قل كلامه، إلا فيما يعنيه[9].

ومن الواضح أن جعل الكلام من العمل، يشير إلى أن قيمة الكلام بما يتضمن، وأن هذا ليس قيمة ذاتية.

ولعل هذا يبرر لنا ما تضمنته بعض النصوص من جعل إحدى الميز والخصائص التي يمتاز بها أصحابهم(ع)، وشيعتهم الخلص، كونهم خرساً، فقد ورد في معتبر أبي حمزة عن الإمام أبي جعفر الباقر(ع) أنه قال: إنما شيعتنا الخرس[10]. فإن الصمت ليس فضيلة في نفسه، وإنما فضيلته لكونه سبباً لأمرين، من جهة يكون طريقاً للانشغال بالذكر، وبالتالي الارتباط بالله تعالى، ولأنه وسيلة لكف اللسان عن الحديث في ما ينبغي الحديث فيه، من لغو الحديث وفضوله.

ووفقاً لما قد قدم عرضه من النصوص، يمكن القول بأن قيمة الكلمة ليست قيمة ذاتية، وإنما قيمتها قيمة اكتسابية، فإنها تكتسب أهميتها من خلال المادة التي تتضمنها وتلقاها، والهدف الذي تكون من أجله، سواء كانت كلمة طيبة إيجابية، أم كانت كلمة خبيثة سلبية.

وهذا يعني أنه متى كان الكلام متضمناً منفعة للدين والدنيا، كانت له قيمة إيجابية، أما لو كان الكلام مجرد لغو وعبث، كانت قيمته سلبية.

أنواع الصمت:

وكما أن قيمة الكلام بما ينطوي عليه من مادة، وما يترتب عليها من آثار، كذلك الصمت، فليس كل صمت محمود، وليس كل صمت ممدوح وحسن، بل إن ما ذكرناه بالنسبة للكلام، يجري كذلك في الصمت، وعليه يمكن القول أن الصمت على ثلاثة أنواع[11]:

الأول: صمت التفكر والحكمة، وهو الذي يكون ناشئاً من القدرة على التحكم في وسيلة النطق البشرية، وإخضاعها لإرادة الإنسان، وسيطرته، فلا يطلق لها العنان لتقول ما تشاء ووقت ما تشاء، بل يكون هناك سيطرة وإدارة لها، فيقرر لها متى يمكنها الحديث والكلام، ومتى تمنع من ذلك.

وهذا النوع من الصمت، هو الذي تضمنت النصوص حثاً عليه، ووصفته أنه باب من أبواب الحكمة، فعن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: إن الصمت باب من أبواب الحكمة[12].

ولا إشكال في مطلوبية هذا النوع من الصمت، لما فيه من آثار محمودة ينبغي أن يسعى كل مؤمن للوصول عليها، ونيلها.

الثاني: صمت السكوت عن الواجب الشرعي، والتكليف الإلهي، كما لو سكت المكلف عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لو سكت المكلف عن أداء الشهادة، أو سكت عن قول الحق والصدق.

ولا ريب في مبغوضية هذا النوع من الصمت، فضلاً عن حرمته، لما يترتب عليه من تضييع للشريعة، ومخالفة للأوامر الإلهية.

الثالث: صمت الخجل والحياء، وهذا له فردان:

أحدهما: أن يكون ناجماً من زيادة الإيمان والتقوى، كما لو كان الموجود عند الفتاة، أو عند الرجل، صمت حياء وعفة، ولا خلاف في إدراجه تحت النوع الأول من أنواع الصمت، فيجري عليه جميع الأحكام المرتبطة به، فلاحظ.

ثانيهما: أن يكون منشأه انحراف في الطبيعة الإنسانية، لخروج الحياء والخجل الموجود عند الإنسان عن الحد المتعارف، بحيث أصبح كالمرض، لو يكن مرضاً بالنسبة إليه، فأفقده حتى القدرة على اللقاء مع الآخرين، والجلوس إليهم، والحديث معهم، وهكذا.

ولا كلام، في عدم محبوبية مثل هذا النوع من الصمت، بل ذمه ولو في الجملة، لأنه يكون حاجباً وحاجزاً للإنسان عن أداء ما يطلب منه فعله، فلاحظ.

مقومات قيمية الكلمة الإيجابية:

هذا ويستفاد من القرآن الكريم أن الكلمة الإيجابية هي التي تكون متصفة بجملة من الصفات، وأن قيميتها الايجابية، تدور مدار انطباق تلك الصفات عليها، بحيث أن انتفائها عنها، مانع من توصيفها بأنها كلمة ذات قيمة إيجابية، فلاحظ توصيف الباري سبحانه وتعالى الكلام بالحسنى، وكذا ورد توصيفه للكلمة بالطيبة، كما نجد أنه عبر عنها في موارد أخرى بالقول السديد.

ومن الواضح جداً، أن هذه التوصيفات الإلهية، تكشف عن لزوم توفر مجموعة من المقومات والشروط التي توجب اتصاف الكلمة، بأنها كلمة ذات قيمة اكتسابية، وإيجابية، وتكون أفضل من الصمت، والمقومات التي يلزم توفرها أمور[13]:

الأول: حقانية الكلمة: بأن تكون الكلمة قولاً بحق، مجردة عن كل باطل، وزيف وتهم وافتراء وكذب، ولهذا نجد تشديداً في الشريعة على الكلام الذي يلقى على عواهنه، ولا يكون حقاً، ولا ينطلق من الحق، كالإشاعات التي تتعاطى وبأساليب مختلفة، حتى أنه قد أصبحت بعض وسائل التكنولوجيا الحديثة إحدى أسباب الترويج لها.

ويظهر مدى اعتناء الشارع المقدس بضبط كون الكلمة قولاً بحق، من خلال فرضه قانوناً تأديبياً لكل ما يصدر خلاف ذلك، إذ أن في الشريعة حداً يعرف بحد القذف، يعاقب به كل من يوجه التهم للآخرين، ويفتري عليهم دونما دليل منه على ذلك.

ولم تكتفِ الشريعة السمحاء بفرض حد القذف لكل من يتهم رجلاً أو امرأة بفاحشة دون برهان ولا بينه شرعية، بل تضمنت عرض مجموعة من الآثار المعنوية أيضاً نتيجة صدور الكلمة غير المسؤولة، فعن النبي الأكرم محمد(ص) أنه قال: قذف محصنة يحبط عبادة مائة سنة.

وهذا أمير المؤمنين(ع) يضع قانوناً للحد من الاعتداء على الآخرين بكلمات غير متزنة، فقد ورد عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: قضى أمير المؤمنين(ع) في الهجاء التعزير.

الثاني: حقانية الهدف: بأن يكون الهدف من الكلمة هو الحق، وليس له غرض آخر وراء ما يذكر، فالدافع الموجود عنده في ما يقوله من الكلام الحق، إنما هو إبراز الحق وليس شيئاً آخر غيره، ذلك لأن من الممكن جداً أن يكون الصادر من المتكلم حقاً، لكن ليس غرضه من ذلك إبراز الحق، وإنما غرضه شيئاً آخر، فالمستغيب، الذي يذكر أخاه المؤمن بعيب فيه، لم يذكره بشيء باطل، وإنما ذكره بما فيه، وهذا يعني أنه قد ذكر حقاً، لوجود العيب الذي ذكره فيه، لكن ليست غايته من ذكر هذا الحق، بيان الحق، وإنما غايته هي الاستغابة والانتقاص منه، والسعي لإسقاطه في الوسط الاجتماعي،، ولا ريب في عدم مشروعية مثل هذا العمل، وإن كان من خلال ذكر الحق، كما لا يخفى.

ومثل ذلك من يذكر فعلاً قد صدر من شخص لا يعدّ عيبا اجتماعياً، إلا أنه قد ينافي المروة مثلاً، فإن ما ذكره به من فعل وإن كان حقاً، لكن يبقى هدفه من ذكره هو هدم مروته، وإسقاطه اجتماعياً، وهكذا. ولهذا جاءت مقولة أمير المؤمنين(ع) المشهورة يوم صفين: كلمة حق يراد بها باطل، عندما رفع الشاميون المصاحف، وصاروا ينادون لا حكم إلا لله، فإن الصحيح أنه لا حكم إلا لله، لكن لم تكن غاية ابن العاص ومعاوية من هذه المقولة تطبيق ذلك، بل أرادا منها المناورة والحيلة والخديعة.

الثالث: الصياغة السليمة للكلمة: من خلال تجردها عن كل كلمة بذيئة، وخلوها من جميع الألفاظ الجارحة والبذيئة، وعدم تضمنها نبزاً ولا تعريضاً، وهذا يكشف السر في تأكيد الشريعة الإسلامية على ضرورة عفة اللسان وأهميته، وطهارة اللفظ، ونظافة النطق، وقد تضمنت الآيات القرآنية أنصع صورة وأحلى صياغة للتعبير عن أصعب الألفاظ وأعقدها، بما لا يكون موجباً لخدشة الحياء، ولا النيل من العفة، فقد جعل مباشرة النساء بالحرث، فقال تعالى:- (نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم)[14]، وكنى عن العلاقة الطبيعة مع المرآة في آية أخرى بالأرض، فقال تعالى:- (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطؤها)[15].

ولم تخرج الروايات الشريفة عن هذا المضمار، فعن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: من ساء كلامه كثر ملامه. وجاء عنه(ع) في حديث آخر أنه قال: إياك وما يستهجن من الكلام، فإنه يحبس عليك اللئام وينفر عنك الكرام.

ومن المعلوم، أن الكلمات البذيئة والمشينة لا تنحصر في السباب والشتم، بل يشمل ذلك كيل التهم، وتوزيعها بالباطل، فإن الفرية على فرد أو على جماعة، واتهامهم بما لا يكون فيهم، أو نسبتهم لما هم براء منه، أو إخراجهم مما يعتقدون ويدينون، لهي صور جلية على الالفاظ البذيئة والنابية.

الرابع: اتصافها بصفة الوعي: فيراعي المتكلم الظرف الموضوعي الذي تقال فيه، لأنه ليس من الصواب أن يتكلم المتكلم بكل كلمة في كل وقت وزمان، أو كل محل ومكان، أو مع كل أحد، بل إن هناك كلمات لا يحسن أن تقال في بعض الأوقات، كما أن بعض الكلمات يحسن قولها في بعض الأماكن، ويعد قولها في أماكن أخرى مستهجناً لو لم يكن قبيحاً، كما أن الحديث ببعض الموضوعات وبعض القضايا مع بعض الأفراد يوجد العديد من المشاكل، ويجعل المتحدث يواجه العديد من الصعوبات.

كما أن من الوعي مراعاة الطريقة التي يتم عرض الكلام من خلالها فإن بعض الموضوعات تحتاج تفصيلاً، فيكون الإيجاز فيها على خلاف الوعي، كما أن موضوعات أخرى يكون الإطناب فيها على خلاف الوعي، لأنه يكتفى فيها بالإيجاز والاختصار، وهكذا.

ولا إشكال في أن للمتلقي دوراً أساسياً في تحديد كيفية العرض، والأسلوب الأمثل الذي يلزم اتخاذه، فتدبر.

ومن الطبيعي أن هذا يستوجب أن يكون للمتكلم وعي يتسنى له من خلاله الدراية والإحاطة بالمورد الذي يمكنه طرح الكلمة، وكيفية طرحها، وإلى من تلقى. وإلى هذا المعنى يشير أمير المؤمنين(ع)، فيقول: لا تتكلم بكل ما تعلم، فكفى بذلك جهلاً. وجاء عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: صلاح جميع المعايش والتعايش ملئ مكيال؟ ثلثاه فطنة، وثلث تغافل. فنجد أنه(ع) استعمل التعبير بكلمة تغافل، ولم يستعمل كلمة الغفلة، ومن الواضح جداً مقدار الفرق بينهما، فإن التغافل يشير إلى إعراض المؤمن في بعض الأحيان عن مجموعة من الأمور، من خلال غض الطرف عنها.

وأوضح مما تقدم في الدلالة، على مقومية الوعي للكلمة المسؤولة، ودخالته فيها، ما ورد في وصية الإمام الصادق(ع) لأصحابه، فقد قال لهم: اسمعوا مني كلاماً هو خير لكم من الدُّهم الموقفة[16]: لا يتكلم أحدكم بما لا يعنيه، وليدع كثيراً من الكلام فيما يعنيه، حتى يجد له موضعاً، فرب متكلم في غير موضعه جنى على نفسه بكلامه[17].

الخامس: خلو الكلام من الفضول: فلا يكون مشتملاً على ما لا ينبغي ، كما لا يحوي ما لا يكون من اختصاص الإنسان، أو لا يدخل في دائرة اهتماماته، ومسؤولياته، فلا يحسن من رجل الدين مثلاً، أن يجعل حديثه في النظريات الطبية، ويقوم بتحليل ما يذكره الأطباء، فإن ذلك من الفضول في الكلام، لأنه سوف يوجب الوقوع في الخلل والخطأ، أو أن يجعل حديثه مبنياً على دراسة نظريات علماء النفس، وتحليلها، وبيان الصحيح من الخطأ منها، أو ما يذكره علماء الاقتصاد، فإن جميع هذا يدخل تحت عنوان الفضول، كما هو واضح[18].

وقد أكدت النصوص الشريفة على لزوم ترك الإنسان الكلام في ما لا يعنيه، وتدخله في ما لا يكون من شأنه واختصاصه، فقد جاء عن رسول الله(ص) أنه قال: من حسن إسلام المرء تركه الكلام في ما لا يعنيه. وجاء أيضاً: أكثر الناس ذنوباً أكثرهم كلاماً فيما لا يعنيه.

وعن الإمام الكاظم عن آبائه(ع)، قال: مرّ أمير المؤمنين(ع) علي بن أبي طالب برجل يتكلم بفضول الكلام، فوقف عليه، ثم قال: يا هذا إنك تملي على حافظيك كتاباً إلى ربك فتكلم بما يعنيك ودع ما لا يعنيك[19].

وقد عدّ الإمام الصادق(ع) ترك الفضول من الكلام، واحدة من الصفات التي يتصف بها المنتمون إليه، والذين يسمون أنفسهم شيعته، قال(ع): كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حسناً، واحفظوا ألسنتكم، وكفوها عن الفضول، وقبيح القول[20].

وقد أشار القرآن الكريم لشيء من العواقب الوخيمة لصدور فضول الكلام، قال تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم)[21].

الكلمة المسؤولة:

هذا وقد اتضح من خلال العرض السابق، أن الإسلام كما يدعو الإنسان أن يكون هادفاً في جميع الأفعال والأعمال التي تصدر منه، فإنه يوجه له الدعوة أيضاً ليكون هادفاً في جميع الأقوال والكلمات التي تصدر عنه.

وهذا يعني أن للكلمة مسؤولية تلقى على عاتق ملقيها، وأنه لابد وأن يكون صاحب كلمة مسؤولة، وقد أشير إلى ذلك في قوله تعالى:- (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً)[22]، فإن الإخبار عن سؤال الإنسان عن كل ما يصدر عنه، كاشف عن تحمله مسؤولية عليه أن يؤديها. وأوضح من ذلك قوله تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً)[23]، لأن المدلول للآية الشريفة إبراز صفة توجب امتياز المؤمن عن المنافق من خلال تحمله لمسؤولية كلمته، وأنه صاحب كلمة مسؤولة، كما لا يخفى.

كيف تكون الكلمة مسؤولة:

ومع الحديث عن مسؤولية الكلمة، لابد وأن ينساق الكلام، لمعرفة السبل إلى جعل الكلمة مسؤولة، فكيف يمكن للإنسان المؤمن أن يجعل كلمته كلمة مسؤولة، وما هي الوسائل التي يلزمه التحلي بها حتى يكون صاحب كلمة مسؤولة، فإن مما لا ريب فيه، أن ذلك لن يكون لكل أحد، وإنما هو ميزان يصنف من خلاله المتحدثون، كما هو اضح.

وعلى أي حال، يمكن القول، إن اللازم لكون الإنسان صاحب كلمة مسؤولة، امتلاكه أمرين، وهما:

الأول: قانون التقوى: فإنه يشكل حاجزاً أمام المتحدث متى وجد عنده، في عدم إقدامه على كل قول أو كلمة، خصوصاً عندما يتوجه إلى أن حصائد اللسان موجبة لكبّ الإنسان في نار جهنم، فقد سأل رجل رسول الله(ص)، فقال: وهل يحاسبنا ربنا على ما نقول؟ قال(ص): وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم[24].

ولهذا يشكل وجود هذا القانون عند الإنسان فلترة كاملة، وتنقية عملية لكل كلمة قبل أن ينطق اللسان بها، فإن هناك عرضاً لها على هذا الميزان، فإن أعطى مؤشراً بإيجابيتها، وصلاحها ومنفعتها، خرجت وانطلقت مدوية في الفضاء الخارجي، وإلا حبست وردت إلى موضعها، ومنع من خروجها، وهكذا.

الثاني: قانون التفكير والروية: فلا يقدم الإنسان على إلقاء كلمة إلا بعد أن يقوم بالتفكير في الآثار المترتبة عليها، وهل أنها آثار إيجابية، أو أنها آثار سلبية، فإن وجدها آثاراً إيجابية، أطلقها، وإلا حبسها ومنع من خروجها.

ولا يختلف اثنان في أن المتحدثين لو أعملوا الفكر وأعطوا مجالاً للتفكير قبل أن ينطقوا ببنت شفة، كان ذلك سبيل سعادة وخير لهم وللآخرين، لأن الكلمة غير المسؤولة في الحقيقة، هي الكلمة التي تنطلق من دون روية ولا تفكير، فلا يحسب صاحبها لها أي حساب، ولا يعيرها أدنى اهتمام، وهكذا.

وكفى أن يلتفت الإنسان، إلى أن تحكيم هذين الأمرين، يجعلان المتحدث في راحة عن كثير من الأمور، أبسطها التبرير لما صدر منه من كلام في غير موضعه، ومحاولة إيجاد الأعذار لنفسه، وإقناع الآخرين بأنه لم يكن قاصداً لما فهم منه، وهكذا.

[1] سورة الأحزاب الآية رقم 70.

[2] سورة إبراهيم الآية رقم 24.

[3] سورة إبراهيم الآية رقم 24.

[4] شرح رسالة الحقوق ص 104.

[5] لا ينبغي النقض في المورد بأن ما ذكر يكتسي قيمة ذاتية، لأن وصفها بذلك مرجعه لكونه صغرى للعدل، أو للظلم، ونحن لسنا بصدد الحديث عن إرجاعه لأي من الكبريـين، فتدبر.

[6] بحار الأنوار ج 68 باب السكوت والكلام وموقعهما وفضل الصمت ح 1 ص 274.

[7] المصدر السابق ح 2 ص 275.

[8] المصدر السابق ح 12 ص 277.

[9] المصدر السابق ح 19 ص 279.

[10] بحار الأنوار ج 68 ح 40 ص 285. هذا وقد عقب الشيخ المجلسي(ره) على هذه الرواية بالتالي: الخرس جمع الأخرس، أي هم لا يتكلمون باللغو والباطل، وفيما لا يعلمون، وفي مقام التقية خوفاً على أئمتهم وأنفسهم، وإخوانهم، فكلامهم قليل، فكأنهم خرس. بحار الأنوار ج 68 ص 295.

[11] كيف تتصرف بحكمة ص 160(بتصرف)

[12] ميزان الحكمة ج 5 ص 435.

[13] مجالس الدين والحياة ج 1 ص 43-48.

[14] سورة البقرة الآية رقم 223.

[15] سورة الأحزاب الآية رقم 27.

[16] يقصد بها كما في حاشية البحار، الخيل والإبل الشديدة السواد.

[17] بحار الأنوار ج 68 ح 30 ص 282.

[18] لا يمانع من أن يعرض عالم الدين لمثل هذه النظريات، على أن يكون ناقلاً لها، أو يكون محاكماً ومناقشاً لها وفقاً لاختصاصه بعرضها على الأسس والضوابط الشرعية، وما جاءت به الشريعة المقدسة، فتدبر.

[19] بحار الأنوار ج 67 ح 4 ص 276.

[20] بحار الأنوار ج 68 ح 41 ص 286.

[21] سورة المائدة الآية رقم 101.

[22] سورة الإسراء الآية رقم 36.

[23] سورة الأحزاب الآية رقم 70.

[24] ورد مثله في بحار الأنوار ج 68 ح 78 ص 303.