28 مارس,2024

الطعام الطيب

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال تعالى:- (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم)[1].

اعتنت الشريعة الإسلامية في قوانينها بجميع الأمور التي ترتبط بالإنسان، وقدمت كل ما يكفل له حياة سعيدة، ولذا نراها تتواجد في كل شيء يكون مرتبطاً بمصالحه، وكل ما هو دخيل في بلوغه مرتبة الكمال، فلم تقتصر فقط على بيان التشريعات التي ترتبط بجانب الأفعال والأقوال، بل تعدت ذلك لتتدخل حتى في نوعية الطعام والشراب الذي ينبغي أن يتناولهما الإنسان.

ولهذا نجد الآيات القرآنية قد تضمنت بيان نوعية الطعام الذي ينبغي على الإنسان أن يتناوله، مقيدة ذلك بكونه طعاماً طيباً، قال تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم)[2]، وقال تعالى:- (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً)[3]، مما يعني أنه ليس للإنسان أن يتناول ما شاء. ومن الطبيعي أن هذا التدخل في كافة الجوانب يكشف عن أن هناك ارتباطاً وتأثيراً لجميع تلك الأمور في العلاقة الدينية والارتباط العملي بين العبد وربه، بمعنى أن للطعام مدخلية في علاقة العبد بربه، قرباً أو بعداً، وسيتضح ذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

ما هو الأصل في الأشياء:

ومقتضى أن الباري سبحانه وتعالى قد تدخل في كافة الشؤون المرتبطة بالحياة البشرية، بما في ذلك نوعية الطعام والغذاء المتناول من قبله، لما لذلك من تأثير عليه، يستوجب أن تعطى قاعدة عامة واضحة تحدد الأصل في الأطعمة الموجودة على وجه الأرض، وأنها الإباحة فيسوغ للإنسان تناولها إلا إذا قام عنده دليل صادر من الشارع المقدس، أو معتبر لديه بالمنع عنها، أم أن الأصل في الأطعمة الموجودة على الأرض هو المنع والحظر عن تناولها حتى يرد دليل منه يفيد حلية تناولها واستعمالها.

ولا يخفى مقدار الفرق بين المحتملين، ضرورة أنه لو بني على الاحتمال الأول لكان مقتضى ذلك السعة في الأطعمة، لوجود قاعدة كلية تفيد أن كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه، فلو وجد الإنسان طعاماً وشك في حليته ليسوغ له تناوله، أو حرمته ليحكم بعدم جواز تناوله، فوفقاً للاحتمال الأول لن يكون بحاجة إلى انتظار دليل من الشارع المقدس يفيد حلية تناوله، وإنما يكفيه الأصل المقرر من أن كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه، ويجري الأمر في كل ما شك في حليته، وجواز تناوله، والاستفادة منه، وهكذا.

فلو قدم شخص لا يخرج الحق الشرعي من أمواله هدية، فهل يجوز لك قبولها، أم لا يجوز ذلك؟ وفقاً لقاعدة، يحكم بجواز أخذها إلا إذا وجدنا دليلاً دل على عدم جواز ذلك.

وهذا بخلاف ما لو بني على الاحتمال الثاني، فإنه عند الشك في حلية تناول شيء أو حرمته، فإن اللازم على المكلف هو الاجتناب عنه والترك له، إلا إذا جاء من الشرع الشريف ما يفيد الحلية وجواز الانتفاع، وإلا لزمه تركه واجتنابه.

ومن الطبيعي أن كل واحد من الفريقين استند إلى أدلة جعلها حجته في إثبات مدعاه، فعل سبيل المثال استند القائلون بأن الأصل في الأشياء هو الحلية، إلى مثل قوله تعالى:- (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً)[4]، فإن المستفاد منها الدعوة إلى الانتفاع بما يوجد على وجه الأرض من أطعمة، فيفيد ذلك أن الأصل في الأشياء كونها مباحة، إلا إذا جاء دليل فدل على حرمة الانتفاع بها.

ولا يخفى عدم تمامية هذا الدليل، ضرورة أننا نلاحظ أنه سبحانه وتعالى قد قيّد الطعام المتناول في الآية بكونه طيباً، ومن المعلوم أن هذا التقيـيد ينفي عنه الشك في الحلية، فلا يقال عندها أن هذا الطعام يسوغ تناوله وأكله أم لا، لأن مقتضى كونه طيباً يجعله محللاً فلا معنى ليقال بعد ذلك ما هو حكمه، وبالجملة إن التقيـيد المذكور مانع من الشمول لما هو مشكوك الحلية، فلاحظ.

نعم ما لا ينكر دلالتها على رفع ما كان يتصور من حظر ومنع عند الناس، الناجم من تحريم البشر على أنفسهم أشياء ما كانت محرمة عليهم من قبل، فهي بصدد إبطال تلك التحريمات البعيدة عن التشريع السماوي، وإعطاء الضابطة في حلية الطعام، لكن ليس مطلق الطعام، وإنما خصوص الطعام الطيب.
وهذا يعني أنها بصدد بيان رفع توهم الحظر والمنع من تناول الأطعمة، لا أنها بصدد بيان حلية كل طعام طعام، فتدبر.

والحاصل، لسنا بصدد الحديث عن أدلة كلٍ من الطرفين، وإنما ما يهمنا في البين هو الإشارة إلى أن المشهور والمعروف بين أعلامنا، بل يمكن القول أنه محط اتفاق وإجماع بينهم، إلا من شذ، على الأول، وهو أن الأصل في الأشياء جميعها الحلية والانتفاع، إلا إذا جاء دليل من الشارع المقدس، يفيد المنع والاستفادة منه، فلاحظ.

دلالة الآية الشريفة على قاعدة عقلية:

ثم إنه بعد تأصيل الأصل ومعرفة المرجع الذي يرجع له عند الشك في حلية شيء أو حرمته، لنعد للحديث حول الآية الشريفة محط البحث، وبيان ما يستفاد منها، ومدى دلالتها، والموضوع الذي تتحدث عنه.

قد يحصر الموضوع الذي تتحدث الآية الشريفة عنه، وهي بصدد الكلام فيه في خصوص التأكيد على بشرية الرسل والأنبياء، وأنهم بشر ليسوا ملائكة، وذلك من خلال عرض واحدة من الصفات التي توجد في العنصر البشري، ولا يحتاج إلى وجودها الملائكة، وهي مسألة الغذاء والطعام، فالملائكة لا يأكلون أموراً مادية، لما ثبت من أنهم يتكاثرون بالعبادة، ولا يتوقف وجودهم واستمراريتهم في الحياة على تناول الطعام والغذاء، بخلاف البشر، فإن وجوده الفعلي والاستمراري في الحياة متوقف على ما يتناوله من أطعمة وأشربة، فلا يتصور وجود فرد منهم من دون أن يكون معتمداً على ذلك، وهذا يعني أن هذه صفة تميز البشر عن الملائكة، لأن البشر يحتاجون إلى الطعام، بخلاف الملائكة كما عرفت.

وعليه، عندما يتحدث الباري سبحانه عن أن الرسل يتناولون الطعام، فإن ذلك يعني أنهم بشر وليسوا ملائكة، فلاحظ.
ونحن لا نمانع من الحديث عن بشرية الرسل، خصوصاً وقد تضمنت الآيات الشريفة التأكيد على هذا الموضوع، وبصور وأساليب مختلفة، إلا أننا نتوقف في كون موضوع الآية محط البحث ينحصر، أو يتعين في الحديث عن هذا الجانب، إذ أن التأمل فيها يفيد دلالتها على شيء آخر، وتعرضها لموضوع أكبر، فما هو ذلك الموضوع الذي تعمد الآية الشريفة لطرحه، والحديث عنه يا ترى؟

إن الذي يظهر من خلال التأمل في الآية الشريفة، وزيادة التدبر في مضمونها هو دلالتها على قاعدة عقلية، مفادها تأثير الطعام المتناول من قبل الإنسان في كافة أعماله، بحيث يكون هناك نحو من أنحاء التناسب والعلاقة، والارتباط، ذلك أن موضوع الآية الشريفة هو بيان امتياز الرسل على كافة العنصر البشري من خلال نوعية الطعام الذي يتناولونه، وهو خصوص الطعام الطيب دون الخبيث، فالآية الشريفة تتحدث لتقول: يمتاز الأنبياء عن بقية الناس من خلال نوعية الأطعمة التي يتناولونها، فالناس يطلقون العنان لشهواتهم ورغباتهم في تناولهم لما يشاءون، دونما التفات منهم وتوجه إلى أن ما يتناولونه من الطيب، أو أنه من الخبيث، بينما يختلف الأنبياء تماماً، فإنهم لا يقدمون إلا على تناول خصوص الطيب، ومن هنا قلنا بثبوت مبدأ الامتياز للأنبياء والرسل على بقية الناس.

ويؤكد ما ذكرنا، بل يدل عليه توجيه الخطاب في الآية الشريفة للرسل، فإن لذلك مدلولاً واضحاً في بيان امتيازهم على عامة الناس، وليس منشأ ذلك بشريتهم كما أدعى البعض، فلاحظ.

وعلى أي حال، يبقى عندنا جنبة الارتباط بين قوله تعالى:- (كلوا من الطيبات)، وبين قوله تعالى:- (واعملوا صالحاً)، إذ ربما تصور البعض عدم وجود علاقة بينهما، وإنما هما جملتان جائتا لتدلان على مطلبين، تحدث الشارع المقدس عنهما، فذكر الطعام الطيب، ثم ذكر العمل الصالح، وهذا الكلام يصح لو كان في المحاورات البشرية، لا الخطابات الإلهية، ضرورة أننا نعتقد أنه تعالى لا يصفُ كلمة في جوار كلمة، أو يقدم كلمة على أخرى، إلا ويكون ذلك لحكمة وغاية، فهو الحكيم تعالى، وهذا يدعونا للتأمل والتفكر، لماذا قدم سبحانه وتعالى الطعام على العمل، هل لكون الطعام ذو أهمية على العمل، أو لسبب آخر؟

إن الإجابة على ما ذكرنا، هو القاعدة العقلية التي أشرنا إليها في مطلع الحديث، ذلك أن هذا الترتيب يشير إلى ترتب بين الأول والثاني، بحيث أن العمل متأخر رتبة عن الأكل، مما يعني أن للطعام المتناول من قبل الإنسان مدخلية فيما يصدر عنه من أعمال، وتأثير أقرب للعلة في المعلول.
وما ذكرنا يعدّ واحدة من الحقائق القرآنية التي أشير إليها في غير واحدة من آياته، عندما يتحدث عن وجود ارتباط وملازمة بين الأعمال الصادرة من الإنسان وبين الحوادث الكونية، ومن المعلوم أن الأكل عمل يقوم به الإنسان، فيكون له أثر في الحوادث الكونية، كقدرة الإنسان على العبادة والطاعة، وإقباله وعدمه، وهكذا.

وبالجملة، إن المستفادة من الآية الشريفة، تأثير الطعام الطيب في العمل الصالح، بحيث أن نوعية ما يأكله الإنسان يكون سبباً من الأسباب الموجبة لحصول التوفيق للطاعة والعبادة، وعلى العكس تماماً، فإن ما يتناوله الإنسان من طعام خبيث يكون سبباً مانعاً من حصول التوفيق لذلك. ومما يؤكد هذا المعنى ما جاء في ذيل الآية المباركة من الإشارة لمبدأ المراقبة الإلهية، إذ يقول تعالى:- (إني بما تعملون عليم).

هذا وقد ورد التحديد للطيب في كلمات أهل اللغة، إلا أنه يصعب القبول بالمعنى الواسع المذكور في كلماتهم، فيقيد ذلك بكونه ما تستلذه النفس البشرية، ولم يرد فيه نهي من الشرع.
نعم هذا التعريف يحصر الأثر في خصوص العقاب الإلهي، دون الأثر الوضعي التكويني، كما لعله نشير إلى ذلك في نهاية المطاف، فكن من ذلك على ذكر، ولا تغفل.

آثار الأطعمة على النفس الإنسانية:

هذا ولو لم يقبل ما ذكرناه من دلالة الآية الشريفة على القاعدة العقلية، وتمام الارتباط والعلاقة بين نوعية الطعام الذي يتناوله الإنسان، وبين الأعمال الصادرة منه، فإن النصوص الشريفة صريحة في ذلك، إذ تضمنت بيان هذا الموضوع، وأشارت إلى الآثار المترتبة على ذلك بصورة صريحة وجلية، فقد ورد عن النبي الأكرم محمد(ص) أنه قال: من أكل لقمة من حرام لم تقبل منه صلاة أربعين ليلة.

وجاء عنه(ص) أيضاً قوله: العبادة مع أكل الحرام، كالبناء على الرمل، وقيل: كالبناء على الماء.
وفي حديث ثالث تحدث(ص) فقال: من أكل لقمة حرام لم تقبل له صلاة أربعين ليلة، ولم تستجب له دعوة أربعين صباحاً، وكل لحم ينبته الحرام فالنار أولى به.

وقال نبينا محمد(ص)-في حديث-:ومن أكل اللقمة من الحرام فقد باء بغضب من الله، فإن تاب تاب الله عليه، وإن مات فالنار أولى به.
ويقدم النبي(ص) شيئاً من الآثار الفارقة بين الطعام الطيب المتناول وبين الطعام الخبيث، فيقول: من أكل الحلال قام على رأسه ملك يستغفر له حتى يفرغ من أكله. بينما يقول في جانب الطعام الخبيث: إذا وقعت اللقمة من حرام في جوف العبد، لعنه كل ملك في السموات والأرض ما دامت اللقمة في جوفه لا ينظر الله إليه.

ويشير أمير المؤمنين(ع) إلى التلازم والارتباط بين نوعية الطعام، وما يترتب على ذلك من آثار، في وصية يقدمها لأحد تلامذته، وخواصه: يا كميل، إن اللسان يبوح من القلب، والقلب يقوم من الغذاء، فانظر فيما تغذي قلبك وجسمك فإن لم يكن ذلك حلالاً لم يقبل الله تسبيحك ولا شكرك.

ولعمري أن النصوص واضحة الدلالة على المدعى، وبينة في عرض المقصود وإيضاحه، بحيث لا تحتاج بياناً، لأنها قد تضمنت الإشارة إلى العلاقة والارتباط بين الأعمال الصادرة من الإنسان، وبين ما يتناوله من طعام، ونجدها قد نصت على أن الطعام يترك أثراً، فعددت جملة من تلك الآثار:

منها: كون العبادة مع الطعام الحرام، كالبناء على الرمل، أو البناء على الماء، ولا يختلف اثنان في أن البناء على أيهما، لا يعد بناء ولا يقوم، أو يثبت، فلاحظ.
ومنها: عدم قبول صلاة الإنسان أربعين ليلة.

ومنها: عدم استجابة دعائه، وقد ورد أن رجلاً سأل النبي الأكرم(ص) عن المانع الموجب لعدم استجابة الدعاء، فقال له(ص): طهر مأكلك، ولا تدخل بطنك الحرام.
ومنها: عدم قبول الله تعالى تسبيح الإنسان، وشكره.
ومنها: لا ينظر الله تعالى إليه، فيكون مشمولاً لغضبه وانتقامه.
ومنها: يبوء العبد بغضب من الله تعالى.
ومنها: تلعنه جميع ملائكة السموات والأرض.

ولو لاحظنا لوجدنا مدى العدالة الإلهية في المقام، مع أن الإنسان هو المصدر للمانعية المذكورة، ولتحقق التأثير، إلا أننا لا نجد الباري سبحانه قد نص على عدم صحة الأعمال الصادرة، فلم يقل بأن صلاته باطلة، وغير صحيحة، أو تسبيحه غير صحيح، وهكذا، وإنما أشار إلى عدم قبول ذلك، وكلنا يعلم مدى الفرق بين القبول والصحة، فلاحظ.

واقعنا الاجتماعي اليوم:

ولعل ما ذكرنا ينبهنا لواقعنا الاجتماعي اليوم الذي نعيشه، لأنه لا يختلف اثنان في حالة الخلل الذي يعانيه مجتمعنا اليوم، ومدى الابتعاد عن القيم والتعاليم الدينية، ومن المعلوم أن كلاً منا يبحث ويتأمل في الوصول إلى أسباب ذلك، ودواعيه.
وربما نتفق جميعاً على أن لذلك أسباباً عديدة، كانعدام الإحساس بالمسؤولية، وفقدان عنصر الرقابة الداخلية، سواء في الوسط الأسري، أم في الوسط الاجتماعي، وهكذا.

ولا ريب في أن نوعية الأطعمة المتناولة لها مدخلية أساسية في ذلك، ذلك أننا لم نعمد اليوم إلى مراقبة الأطعمة التي نتناولها، كما أننا لم نعمد إلى التدقيق في مصادرنا المالية التي هي السبب في تحصيل الأطعمة، لأنه لا ينفع أن يكون الطعام زكياً في نفسه وطيباً، لكنه تحصّل عليه من كسب حرام، أو مشتبه.
والحاصل، إن الذي يعانيه وسطنا الاجتماعي اليوم، يعدّ أحد الأسباب فيه نوعية الأطعمة المتناولة، وبالتالي يكون الطريق لتغيـيره، وإصلاحه من خلال تزكية الأطعمة، وحصر المتناول في خصوص الطعام الطيب.

اعتبار طيب الطعام واقعاً:

ثم إن الطيب المعتبر حصوله في الطعام، والزكاة المطلوب، هل يقصد منها كونه طيباً زكياً واقعاً، أم يكتفى بكونه كذلك ظاهراً، توضيح ذلك: لقد نصت الشريعة السمحاء على التعامل مع المشكوك الذكاة مثلاً في بعض الموارد معاملة الذكي، وكذا التعامل مع المشكوك الطيب معاملة الطيب، فمثلاً لو وجد المؤمن طعاماً في سوق المسلمين، ولم يكن هناك علم إجمالي بوجود طعام محرم فيه، فإن الشريعة المقدسة تقرر حلية تناول هذا الطعام، وجواز الانتفاع به، وكذا لو شك في أن الطعام المعين تضمن شحم خنـزير أو دهنه، وعلم بتحقق الاستحالة لذلك، فإن الشرع يحكم بحلية تناول ذلك الطعام، وهكذا، وعليه لو ثبت بعد ذلك أن الطعام الذي تناوله المؤمن في حكم الله الواقعي كان طعاماً خبيثاً، ومحرماً، فهل يكون لذلك الطعام تأثيراً على نفسه، أم ينحصر التأثير في خوص ما علم المؤمن أنه حرام بعينه، ومع ذلك أقدم على تناوله، ولنقرب ذلك بمثال أوضح: ربما يدعوك شخص إلى بيته لتناول طعام الغذاء عنده، وأنت تعلم أن هذا الشخص لا يخرج الحق الشرعي من أمواله، وقد سوغت لك الشريعة المقدسة تناول الطعام في بيته من باب لك المهنأ وعليه الوزر، فلو تناولت شيئاً من طعامه، فهل يكون لذلك الطعام المتناول والمباح ظاهراً تأثيراً على نفسية المؤمن، فيكون سبباً لعدم قبول صلاته، وعدم استجابة دعوته، وما شابه ذلك، أم لا؟

وتتضح الإجابة عن هذا السؤال، بتحديد موجب الارتباط بين الطعام المتناول وبين الآثار الخارجية، فلو كانت تلك العلاقة علاقة شرعية، أمكن البناء على التصرف فيها بتخصيصها بموارد دون أخرى، بخلاف ما لو كانت تلك العلاقة علاقة تكوينية، فإنها لا تقبل التخصيص ولا التخصص، وهذا يعني أنه سوف تكون مؤثرة سواء كان ذلك الطعام المتناول حلالاً ظاهراً، لكنه حرام واقعاً، أم كان ذلك الطعام حرام ظاهراً وواقعاً.

والصحيح أن العلاقة علاقة تكوينية، مما يعني ترتب الأثر، وحصوله، ولا مجال لتخصيص ذلك بما ورد من الحلية الصادرة من الشارع المقدس، ولبيان ذلك مجال آخر.
وهذا يعني أنه يلزم على الإنسان أخذ الحيطة والحذر قدر المستطاع، والسعي الحثيث لاجتناب كل ما من شأنه أن يسبب كدارة في نفسه، ويبعده عن ربه.

 

[1] سورة المؤمنون الآية رقم 51.
[2] سورة البقرة الآية رقم 172.
[3] سورة البقرة الآية رقم 168.
[4] سورة البقرة الآية رقم 168.