29 مارس,2024

مودة القربى

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال تعالى:- (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)[1].

في الآية الشريفة جانبان للبحث، أحدهما الجانب التفسيري، والآخر الجانب الفكري العقدي.
أما الجانب التفسيري فيتمثل في بيان المقصود من مودة القربى التي جعلت أجراً للرسالة، وكيف نتصور أن يسأل رسول الله(ص) أجراً على رسالته.

وأما الجانب الفكري العقدي، فهو الحديث عن معطيات هذه المودة، فما هو الداعي إلى عرضها وطلبها، هل ينحصر ذلك في خصوص الجانب العاطفي فقط، أم أن هناك أمراً وراء ذلك كان يرجى ويسعى لإيصاله للأمة.

وسوف نقصر الحديث فعلاً على الجانب التفسيري، ونأمل التوفيق للحديث عن الجانبا لآخر في وقت لاحق.

مدخل:

إن المستفاد من ظاهر الآية الشريفة جعل مودة قرابة النبي محمد(ص) أجراً لقيامه بإبلاغ الرسالة السماوية، وقد دعى هذا الظهور إلى ورود إشكالين في الآية المباركة:

أحدهما: إن المضمون المستفاد من الآية من جعل مودة قرابة النبي محمد(ص) أجراً لرسالته، يتنافى والعديد من الآيات الشريفة التي اشتملت على نفي ثبوت أجر للنبي(ص) على إبلاغه الرسالة، وقيامه بمهامها، فلاحظ قوله تعالى:- (لا أسألكم عليه أجراً)[2]، وقوله تعالى:- (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين)[3]، وقال سبحانه:- (قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً)[4]، بل يستفاد من بعض الآيات الشريفة أن نفي الأجر على القيام بمهام الرسالة أصبح شعاراً يستكشف منه صدق النبي، أنه مبعوث من قبل الله سبحانه، قال تعالى:- (وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين* اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون)[5].

وقد أوجب حصول المنافاة بين الآية الشريفة محل البحث والآيات القرآنية الأخرى إلى التـزام بعضهم بكونها منسوخة.
ثانيهما: إن القول بجعل أجر للنبي(ص) على ما قام به من عمل يتنافى ومقام النبوة المبارك، إذ كيف يتصور أن يطلب النبي محمد(ص) أجراً على إبلاغ رسالته، وهو في قمة الإخلاص، وأعلى مراتب التفاني في شأن الله سبحانه وتعالى. خصوصاً إذا التفت إلى أن المودة التي طلبها(ص) تختص بفئة خاصة وهم قرابته، مما يشعر بالاهتمام بالعشيرة والأهل، وإبراز محاباة لهم على البقية.

الأقوال المذكورة في الآية الشريفة:

وفقاً لما تقدم، عمد المفسرون إلى عرض جملة من التفسيرات والتأويلات الموجبة لرفع الإشكالين المتقدمين عن الآية الشريفة، وجعلها تنسجم مع الظاهر منها، فذكرت عدة أقوال نشير لشيء منها:

منها: إن منشأ الإشكالين السابقين يعود إلى تفسير القربى الواردة في الآية الشريفة بالقرابة، وبالتالي يأتي ما تقدم ذكره، إلا أن الصحيح أن القربى في الآية ليست بمعنى القرابة، وإنما يقصد منها التودد إلى الله سبحانه والتقرب منه، وعليه سوف يكون معنى الآية الشريفة: لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تتوددوا في ما يقرب إلى الله سبحانه، وتلحو في الدنو منه[6].

ولا يخفى أن تمامية هذا التفسير تعتمد على ثبوت استعمال لفظة القربى الواردة في الآية المباركة في معنى التقرب، وإلا فلا. والصحيح أنه عند الرجوع لكلمات أهل اللغة، لم نجد استعمالاً لها في هذا المعنى، بل الموجود في كلماتهم أنهم يستعملونها بمعنى القرابة، لا بمعنى التقرب[7].

ومع التسليم بأن المقصود من القربى في الآية الشريفة تعني التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فسوف يلزم من ذلك أن يكون المقصود من الأجر الواقع في الآية الشريفة أجراً مجازياً، وليس أجراً حقيقياً، مع أنه بالرجوع لسياق الآية الشريفة يلحظ القارئ أن المقصود من الأجر الواقع فيها أجر حقيقي، وليس مجازياً، وهذا لا ينسجم مع تفسير القربى بما ذكر.

ومنها: إن المنافاة المذكورة بين الآية الشريفة وغيرها من الآيات تتم لو كان الطلب في الآية موجهاً للمسلمين، أما لو كان الخطاب موجهاً للكفار، فهو(ص) فلا يأتي شيء من ذلك، والصحيح أن الخطاب فيها خطاب للمشركين المعارضين له(ص)، وليس للمسلمين، يذكر القرشيـين الرحم بينه وبينهم، ويسألهم أن يكفوا عن أذاه، ويحفظوه ولا ينكلوا به, ويشهد لذلك أن سورة الشورى من السور المكية، وليست من السور المدنية، وعليه يكون المقصود من الآية: يا معشر قريش، ويا كفار مكة، لا أسألكم أجراً على ما بذلته معكم إلا أن تحفظوا قرابتي منكم.

ومن الواضح أن هذا التفسير يعتمد على كون سورة الشورى مكية كما عرفنا، وهذا يعني أنه لو أحرزنا أن الآية محل البحث من الآيات المدنية، فلن يبقى لهذا التفسير وجه أصلاً.

وبالرجوع لكلمات المفسرين، والمؤرخين نراهم ينصون على أن الآية محل البحث من الآيات المدنية، بل والتي نزلت في أواخر حياة رسول الله(ص)، ومجرد وقوعها في سورة مكية لا يعني أنها آية مكية، إذ من الممكن أن تقع آية مدنية في سورة مكية، وبالعكس، بأن تقع آية مكية في سورة مدنية، خصوصاً بالالتفات إلى ما نعتقده من أن الجامع للقرآن الكريم هو النبي الأكرم محمد(ص)، وأنه ما خرج من الدنيا حتى جمعه بالصورة التي هو عليها اليوم، وأن ترتيب السور وآياته المباركة كان بأمر من الله سبحانه وتعالى. مضافاً إلى أنه لو سلم أن الآية الشريفة مكية وفقاً لوقوعها في سورة مكية، إلا أننا لا نعرف وجهاً واضحاً لأن يقع التخاطب بين رسول الله(ص)، وبين المشركين، ليسأل منهم المودة له وحفظ قرابته، وهم الذين لا يصدقونه ولا يؤمنون بمقالته، بل قد جاء يسفه أحلامهم!.

وقد اتضح مما تقدم المناقشة في التفسيرين المذكورين، وضعفهما، وهذا يكشف عن أن هناك داعياً أوجب التمحل في تأويل الآية ومحاولة صرفها عما هي ظاهرة فيه، وكأن الغاية من ذلك إخفاء حقيقة ناصعة واضحة أريد عدم بروزها وظهورها للملأ حذراً مما يترتب عليها، أو خوفاً من معرفة الأمة حقيقة لا يراد لها أن تعرفها.

وعلى أي حال، فما هو المقصود من الآية الشريفة، وكيف يمكننا تفسيرها بنحو لا يستوجب حصول المنافاة بينها وبين ما تقدم ذكره.

الصحيح في تفسير الآية:

إن الظاهر من الآية الشريفة أنه(ص) يسأل الأمة أجراً على رسالته، وكأنه(ص) يقول: إن أجري على رسالتي التي قمت بتبليغكم إياه يتمثل في مودتكم قرابتي. وقد حدد ذلك الأجر في كونه مودة قرابته، وهذا يحتاج إلى بيان أمرين فيها:
الأول: الأجر الوارد في الآية الشريفة.
الثاني: القرابة المقصودة فيها.

وقد اتضح مما تقدم المقصود منهما، إذ عرفنا أن الأجر في الآية أجر حقيقي، وليس أجراً مجازياً، كما عرفنا أن المقصود من القربى فيها الرابطة النسبية بين شخصين ليس إلا، وهذا يعني عدم استعمالها في شيء غير ذلك، نعم ربما استعملت في القرآن أو غيره في غير هذا المعنى، إلا أن ذلك يكون مع وجود قرينة دالة على ذلك. وأما لفظة المودة التي هي موضوع الآية الشريفة، والتي جعلت أجراً على الرسالة، فقد اتفق أهل اللغة على كون المقصود منها عبارة عن الحب[8].

ووفقاً لهذا يتأكد ما ذكرناه في معنى الآية الشريفة، وأنه هو المقصود منها كما لا يخفى.
ويشهد لما ذكرناه، أمران:

الأول: الروايات التي وردت من طرق الفريقين، وتضمنت بيان أن المقصود من القربى في الآية قرابة النبي(ص)، وأن المقصود من مودتهم محبتهم، وقد تعددت النصوص، فجمع العلامة المحقق الأميني(ره) في موسوعته القيمة الغدير جملة وافية، كما أن العلامة السيد هاشم البحراني(ره) نقل في كتابه غاية المرام سبعة عشر حديثاً من طرق السنة، واثنين وعشرين من طرقنا، وقد استقصى السيد المرعشي(ره) في تعليقته على موسوعة إحقاق الحق مصادر الحديث من كتبا لقوم، فنافت على الخمسين مصدراً لأعلام الحديث[9].

هذا ولا بأس من باب التيمن والتبرك، أن نذكر بعضاً من تلك النصوص:
منها: ما ورد عن أبي عبد الله عن آبائه(ع) أنه قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله(ص):- (قل لا أسالكم عليه أجراً إلا المودة فيا لقربى)قام رسول الله(ص) فقال: أيها الناس إن الله تبارك وتعالى قد فرض لي عليكم فرضاً فهل أنتم مؤدوه؟ قال: فلم يجبه أحد منهم، فانصرف فلما كان من الغد قام فيهم فقال: مثل ذلك، ثم قال فيهم فقال مثل ذلك في اليوم الثالث فلم يتكلم أحد، فقال: أيها الناس إنه ليس من ذهب ولا فضة ولا مطعم ولا مشرب، قالوا: فألقه إذاً، قال: إن الله تبارك وتعلى أنزل عليّ:- (قل لا أسالكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)فقالوا: أما هذه فنعم، فقال أبو عبد الله(ع): فو الله ما وفى بها إلا سبعة نفر: سلمان، وأبو ذر، وعمار والمقداد بن الأسود الكندي، وجابر بن عبد الله الأنصاري، ومولى لرسول الله(ص) يقال له: الثبت، وزيد بن أرقم[10].
ومنها: ما عن عبد الله بن عجلان، قال: سألت أبا جعفر(ع) عن قول الله تبارك وتعالى:- (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) قال: هم الأئمة الذين لا يأكلون الصدقة ولا تحل لهم[11].

ومنها: ما عن ابن عباس قال: لما نزلت:- (قل لا أسالكم عليه أجراً)-الآية-قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين أمرنا الله بمودتهم؟ قال: علي وفاطمة وولدها[12].
الثاني: الاحتجاجات والمحاورات التي وقعت بين الأئمة(ع) والآخرين، وكان يعرضون فيها إلى بيان أنهم هم(ع) المعنيون بالقربى الذين فرض الله مودتهم، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما جرى بين الإمام زين العابدين(ع)، وبين الرجل الشامي، كما ذكر ذلك في كتبا لمقاتل، فليلاحظ.

شبهة ابن تيمية:

إلا أن ابن تيمية في منهاج السنة اعترض على تفسير الآية الشريفة بما ذكر، وأشار إلى عدم قبوله بذلك، وقرب مدعاه: بأن سورة الشورى من السور المكية التي نزلت في مكة المكرمة، وهذا يعني أنه بعدُ لم يتزوج علي بن أبي طالب بفاطمة، وبالتالي بعدُ لم يولد الحسن والحسين، فكيف تفسر الآية بعترته(ص)، مع أن أكثرهم لم يكونوا  موجودين زمن نزول الآية؟

ومن المعلوم أن شبهة الرجل تقوم على أن الآية من الآيات المكية، وقد عرفت منا في ما تقدم منع كونها كذلك، ويمكننا أن نشير إجمالاً مرة أخرى إلى نكتة، وهي إن الأعلام قد ذكروا ضوابط أساسية يتم من خلالها معرفة أن الآية من الآيات المكية أم من الآيات المدنية، فذكروا أنه متى كان موضوع الآية يدور حول التوحيد، والمعارف العقلية، وانتقاد الوثنية، ورفض عبادة الأوثان، والدعوة للإيمان بالله، واليوم الآخر وهكذا، كانت مكية، أما لو كان موضوعها معالجة النظام الإسلامي وشؤونه، والاحتجاج على اليهود والنصارى، وبيان الأحكام الشرعية، والنظم الاجتماعية، فهي مدنية.

ولا يختلف اثنان في أن موضوع الآية محط البحث لا يتفق مع موضوع الآيات المكية، مما يكشف عدم كونها كذلك، فلاحظ. على أنه قد نص على أن سورة الشورى كلها مكية إلا أربع آيات منها، أولها الآية محل البحث، فراجع.

جواب الإشكالين:

هذا وبعدما اتضح لنا المقصود من الآية الشريفة، وأنها تشير إلى فرض مودة قرابة النبي(ص)، فهذا يؤكد الإشكالين المشار إليهما في مطلع البحث، وبالتالي نحتاج أن نعمد إلى الإجابة عنهما.

جواب الإشكال الثاني:

إن الإشكال المذكور إنما يتأتى ويكون له أثر لو قلنا بأن الأجر الوارد ذكره في الآية الشريفة يعود بالنفع على الأجير وهو رسول الله(ص)، وأنه هو المستفيد منه، أما لو قلنا بأن الغاية من الأجر عوده بالنفع على المستأجر، وهو الأمة، فلا يرد الإشكال كما لا يخفى، توضيح ذلك: إن الموضوع الذي تضمنته الآية الشريفة هو محبة أهل البيت(ع) ومودتهم، ولا ريب أن هذا متى حصل من الأمة أوجب زيادة الارتباط بينها وبين النبي(ص) وبرسالته، ومن الطبيعي أن زيادة الارتباط هذه تعود بالنفع العميم والكثير على الأمة، فيتحصل أن المقصود من الأجر هو نفع الأمة، وليس المقصود منه منفعة الأجير، وهو رسول الله(ص)، كما هو واضح.

ويشهد لما ذكرنا مواقف النبي(ص) مع جملة من قرابته، وأنه لم يكن يحابي أحداً منهم أصلاً، بل قد ورد ذم لعمه أبي لهب في سورة قرآنية، فلو كانت القضية قضية نسبية يرتجى منها ملاحظة البعد القبلي لم يرد ذلك في أبي لهب، بل في قريش لما بينه وبينهم من رحم، والحاصل، يتضح مما تقدم صدق كون النفع من الأجر يعود للأمة، وليس لرسول الله(ص).
ومن خلال ما تقدم يتضح جواب الإشكال الأول، إذ تبين أن الموضوع في الآية لا يختلف عن بقية الآيات الأخرى، بل تتفق جميعها في أنه لا يطلب(ص)، ولا غيره من الأنبياء أجراً على رسالتهم، وإنما الأجر الحاصل في هذه الآية يعود للأمة ، وليس للنبي(ص)، فلاحظ.

موجب التعبير بالأجر:

هذا ويــبقى تساؤل يطرح في البين، وهو إذا كان الأجر الوارد في الآية الشريفة يعود بالنفع على الأمة، وليس المستفيد منه الأجير وهو رسول الله(ص)، فلماذا عبرت الآية المباركة عنه إذاً بالأجر؟

تضمنت كلمات علمائنا الإجابة عن هذا، فذكر داعيان:

الأول: إن الموجب لهذا التعبير هو ملاحظة المجعول ذلك لهم، وهم قرابة النبي(ص)، فإن شأنهم ومكانتهم الاجتماعية عند الأمة تستوجب أن يكون التعبير عنه بنحو أدبي ولفظي يتناسب وما لهم من منـزلة، لذا كان الحري التعبير عن مودتهم بالأجر.
الثاني: إن مودة أهل البيت(ع) تكلف المرتبط بهم والمحب لهم ثمناً باهضاً بلحاظ ما يلاقيه ويقع عليه من آهات وآلام ويتكبد من محن، لذلك كان التعبير عن ذلك بالأجر.

المقصود بالقربى:

هذا ولا يذهب عليك أنه لا يقصد من القربى في الآية مطلق قرابة النبي(ص)، بل قد عرفت أن المقصود بذلك هم فئة خاصة، وهم الذين عنتهم آية التطهير، وتحدثت عنهم، وهذا يؤكد ما أشرنا له في مطلع الحديث من أن الإشارة للمودة لا يبدو أنها تشير للعنصر العاطفي فقط، وإنما يرجى ويشار فيها إلى شيء آخر، فلاحظ.
 
 

[1] سورة الشورى الآية رقم
[2] سورة الأنعام الآية رقم 90.
[3] سورة الشعراء الآية رقم 109.
[4] سورة الفرقان الآية رقم 57.
[5] سورة يس الآيتان رقم 20-21.
[6] مجمع البيان ج 9 ص 43.
[7] راجع القاموس للفيروز آبادي في مادة قربى، وراجع ابن فارس في مادة قرب، والمنجد، والكشاف ج 3 ص 81.
[8] راجع القاموس المحيط في باب ود، وابن فارس في مادة ود.
[9] الغدير ج 2 ص 280، وج 3 ص 151-153. غاية المرام ص 307-310. إحقاق الحق ج 3 ص 2-18.
[10] تفسير نور الثقلين ج 6 ص 395.
[11] المصدر السابق ص 396.
[12] المصدر السابق ص 397.