19 أبريل,2024

دولة الرسول (3)

اطبع المقالة اطبع المقالة

دولة الرسول (3)

قال تعالى:- (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر ولله عاقبة الأمور)[1]

مدخل:

تحدثنا في الأسبوع الماضي حول نظرية الحكم في الإسلام، وذكرنا ما هو المستفاد من المصدر الأساسي للتشريع الإسلامي، وأشرنا إلى أن هناك نظريتين مطروحتان، وحتى نحتاج محاكمتهما لنخرج بما هو الصحيح منهما، فلابد من دراسة ثلاثة أمور:

1-هل أن المصلحة تقتضي التنصيص على حاكم الدولة الإسلامية بعد رسول الله(ص) بالاسم، أم لا.

2-لا ريب أن رحلة رسول الله(ص) من عالم الدنيا أوجدت فراغاً فمن الذي سيتولى سدّ هذا الفراغ، بعد رحيله.

3-ما هو المرتكز في أذهان المسلمين في حياة النبي(ص)، وبعد رحيله(ص).

وقد تحدثنا عن الأمرين الأولين، وختمنا الكلام في الأمر الثاني، بأنه لما كان هناك فراغ تركه رحيل النبي(ص)، فما هو الخيار لعلاج هذا الفراغ، وقد ذكرنا ثلاثة خيارات، وأِشرنا إلى أن الأول منها ساقط جداً، كما أن الثاني تكذبه الشواهد التاريخية، فيتعين الخيار الثالث وفقاً للقسمة المنطقية الحاصرة.

المرتكز في الأذهان:

هذا والآن نود الحديث حول الأمر الثالث من تلك الأمور، وهو ما يرتكز في الأذهان حول مسألة النصب والتعيـين بالاسم، أو ترك ذلك للأمة، ونود هنا التركيز على ناحيتين:

الأولى: تصور النبي محمد(ص) حول مسألة القيادة من بعد رحلته عن عالم الدنيا.

الثانية: تصور الصحابة حول موضوع الخليفة والحاكم الإسلامي بعد رحيل النبي(ص) عن هذا العالم.

تصور النبي حول قيادة الأمة بعده:

لا يخفى أن واحداً من أهم الأدلة جداً التي تعين على إثبات إحدى الدعويـين المذكورتين في نظرية الحكم في الإسلام هو تصور النبي(ص) نفسه عن هذه المسألة، فلو كان(ص) يتصور أن المسألة لا تكون إلا من خلال نصب الإمام والقائد من بعده، فإن ذلك سوف يعني ثبوت النظرية القائلة بالنصب والتنصيص، بخلاف ما لو كان تصوره أن الأمر للأمة هي التي تختار إليها من تشاء.

هذا والمحتملات المتصورة عندنا في تصوره(ص) للموضوع ثلاثة:

أولها: أن يكون معتقداً أن نصب القائد والحاكم الإسلامي من بعده يمثل قضية إلهية، ولا ربط لأحد به، فيكون من جانب الله سبحانه وتعالى.

ثانيها: أن يكون معتقداً أن نصب الحاكم الإسلامي من بعده شأن شعبي بحيث يكون أمره بيد الأمة واختيارها.

ثالثها: أن يكون معتقداً أن عملية الاستخلاف من بعده تكون موكولة إليه على أقل التقادير، فهو الذي يتصدى للتعيـين والنصب وليس لأحد دخالة في ذلك.

والصحيح من هذه المحتملات الثلاثة هو الأول، ويشهد له شاهدان تاريخيان:

الأول: موقفه مع بني عامر:

جاء وفد بني عامر إلى مكة مع الحجيج قاصدين الحج، فلقيهم النبي محمد(ص)، وعرض عليهم دعوته، فقال له كبيرهم: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا من الأمر بعدك. فقال(ص): الأمر لله يضعه حيث يشاء[2].

وفي هذه العبارة دلالة واضحة، حيث أنه(ص) نص على أن مسألة النصب والجعل للحاكم الإسلامي ليست مسألة شعبية، ولا مسألة شخصية مرتبطة به(ص)، بل هي مسألة إلهية.

الثاني: موقفه مع هوذة ملك اليمامة:

لما بعث النبي(ص) سليط بن عمرو العامري إلى ملك اليمامة، وهو هوذة بن علي الحنفي، وكان نصرانياً، يدعوه إلى الإسلام، وقد كتب معه كتاباً، فقدم على هوذة، فأنزله وحباه، وكتب إلى النبي(ص) كتاباً يقول فيه: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي، وخطيـبهم، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك[3].

تصور الصحابة حول مسألة الاستخلاف والتنصيب:

عندما يقرأ الإنسان تاريخ الصحابة الذين تسنموا السلطة والحكم بعد رسول الله(ص) يرى بشكل جلي وواضح أنهم قد ساروا على طريقته(ص) وهي عملية النصب والتنصيص على الشخص باسمه، بحيث أن الخليفة السابق كان يعين الخليفة اللاحق من بعده من خلال نصه عليه بالاسم، فلم يعهد من أحد منهم أنه أوكل أمر اختيار الخليفة من بعده للأمة.

ولنركز البحث على شاهدين يثبتان ما ذكرناه:

الأول: استخلاف أبي بكر عمر.

الثاني: استخلاف عمر عثمان.

أما الأول، فقد نقل المؤرخون أن أبا بكر دعا عثمان بن عفان، وقال له: اكتب عهدي، فكتب عثمان، وأملى عليه: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة آخر عهده في الدنيا نازحاً عنها، وأول عهده بالآخرة داخلاً فيها، إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن تروه عدل فيكم ظني به ورجائي فيه، وإن بدل وغير فالخير أردت، ولا أعلم الغيب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون[4].

وهذا العهد والاستخلاف نقله ابن الأثير أيضاً في تاريخه إلا أنه ذكر أنه أصابت أبا بكر غشوة أثناء إملاء العهد، وكتب عثمان اسم عمر من عند نفسه، فلما أفاق أبو بكر من غشوته وافق على ما كتبه عثمان[5].

وأما الثاني، وهو استخلاف عمر عثمان، فقد نقل الدينوري أن عمر قال: سأستخلف النفر الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض، فأرسل إليهم فجمعهم، وهم علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وكان طلحة غائباً، فقال: يا معشر المهاجرين الأولين: إني نظرت في أمر الناس، فلم أجد فيهم شقاقاً ولا نفاقاً، فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم، فتشاورا ثلاثة أيام فإن جاءكم طلحة إلى ذلك، وإلا فأعزم عليكم بالله أن لا تتفرقوا من اليوم الثالث حتى تستخلفوا أحدكم[6].

وهذا ابن الأثير ينقل أنه لما طعن عمر قيل له: يا أمير المؤمنين لو استخلفت؟ فقال: من استخلف؟ لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته…ولو كان سالم مولى حذيفة حياً لاستخلفته.

فقال رجل: أدلك عليه؟ عبد الله بن عمر، فقال عمر: قاتلك الله، كيف استخلف من عجز عن طلاق امرأته-إلى أن قال-عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله(ص): إنهم من أهل الجنة، وهم علي وعثمان وعبد الرحمن وسعد والزبير بن العوام، وطلحة بن عبد الله، فلما أصبح عمر، دعا علياً وعثمان وسعداً وعبد الرحمن والزبير، فقال لهم: إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قبض رسول الله وهو عنكم راض، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها، واختاروا منكم رجلاً، فإذا مت فتشاورا ثلاثة أيام، وليصل بالناس صهيب، ولا يأتي اليوم الرابع إلا وعليكم أمير.

فاجتمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلاً منهم، وقال لصهيب: صل بالناس ثلاثة أيام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما، وإن رضي ثلاثة رجلاً وثلاثة رجلاً، فحكموا عبد الله بن عمر، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع فيه الناس[7].

وقد نقل الدينوري مسألة الاستخلاف ولزومها على الخليفة ليس فقط عن أبي بكر وعمر، بل حتى عائشة يوم جاءها ابن عمر يستأذنها عن أبيه ليدفن في بيتها إلى جانب رسول الله(ص) وأبي بكر، قال له: يا بني أبلغ عمر سلامي، فقل له: لا تدع أمة محمد بلا راع، استخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هملاً، فإني أخشى عليهم الفتنة[8].

ومثل ذلك أيضاً عن معاوية عندما قدم المدينة لأخذ البيعة لولده يزيد، حيث علل ذلك بأنه كره أن يدع أمة محمد بعده كالضأن لا راعي لها[9].

الحكومة في الأمم السابقة:

ويمكننا أن نؤيد الأمر بل نؤكده ونستدل عليه بالتمسك بالكبرى القائلة: أنه يجري في هذه الأمة ما جرى في الأمم السابقة من باب السنن التاريخية، وأنه لابد أن تحذو حذوها حذوى القذة بالقذة والنعل بالنعل.

وعندما نتأمل تاريخ الأمم السابقة نجد أن الحكومة والقيادة فيها كانت من خلال النص والتنصيب ولم تكن موكولة للأمة، فراجع ما ذكره المسعودي في كتابه الوصية.

تفويض الأمر للأمة:

هذا ولكن قد يقول قائل بأننا لا نقبل بالاحتمال الأول الذي أخترتموه، ونتبنى الاحتمال الثاني، ونقرر أن قضية تعيـين الحاكم والخليفة الإسلامي في الدولة الإسلامية قضية شعبية، وليست قضية سماوية إلهية بالجعل والتنصيب من قبل الله سبحانه، وتعالى، ونستدل على مدّعانا من خلال الاستناد إلى عمل المسلمين في تعيـين الخليفة بعد رسول الله(ص)، فإننا نجد أن التاريخ يصرح أن المسلمين قد عمدوا بعد رحلة الرسول الأكرم محمد(ص) إلى انتخاب خليفة لهم، وهو أبو بكر، وكذا تعيـين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، حيث أنه كان أيضاً من خلال اختيار الأمة وانتخابها إياه، وهذا يثبت أن مسألة التعيـين للحاكم الإسلامي بيد الأمة هي التي تتولى عملية انتخابه واختياره.

تحليل خلافة أبي بكر:

هذا ولكي نتمكن من تقرير صحة هذه المقالة وتمامية هذه النظرية، نحتاج إلى القيام بعملية تحليها، وواضح أنها ترتكز على أمرين أساسين:

الأول: أن بيعة أبي بكر كانت من خلال انتخاب شعبي.

الثاني: أن عملية البيعة التي تمت لأبي بكر عملية إسلامية.

وعندما نعمد لتحليل كل واحد من الأمرين، نتسائل:

هل صحيح أن عملية انتخاب أبي بكر كانت من خلال انتخاب شعبي واقعي، بحيث اجتمع المسلمون عامة وتشاوروا في الأمر وانتخبوا أبا بكر وفق الضوابط والمعايـير الإسلامية، أم أن انتخابه كان بواسطة عدد محدد يهاب منهم، واتبعه الآخرون بدون تفكير؟…

وهل أن عملية المبايعة التي تم من خلالها انتخاب أبي بكر تمثل أطروحة إسلامية، ترتكز على أصل جاءت به الشريعة، وكان الموجب للعمل على وفقه هو ما أخذوه عن رسول الله(ص)، وتعلموه منه، أم أن العملية التي تمت من خلالها البيعة والاستخلاف لا تمثل منهجاً إسلامياً ولا أطروحة دينية، وإنما هو في الحقيقة شيء من المركوز في الأذهان مما كان قبل الإسلام، ذلك أنهم كانوا يعينون الحاكم ورئيس القبيلة من خلال عملية الانتخاب؟…

أما الأمر الأول، فأدنى قراءة للتاريخ تكشف عن أن عملية التعيـين لأبي بكر لم تكن من خلال مشاركة الأمة الإسلامية في الانتخاب والاختيار، بل إن المنتخبين له لم يتعدوا الأربعة، وهم: عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وبشير بن سعد، وأسيد بن حضير.

فلم يـبايع أحد من الخزرج مع حضورهم في السقيفة، بل كانوا ممتنعين، كما أن الأوسيـين لم يـبايعوا إلا تبعاً لرئيسهم أسيد بن حضير لا انتخاباً منهم لأبي بكر.

كما أن أفاضل الصحابة كأمير المؤمنين(ع)، والمقداد بن الأسود، وأبي ذر، وحذيفة بن اليمان، وسلمان وعمار، وكذلك أبي بن كعب وطلحة والزبير، وعشرات آخرين من الصحابة لم يبايعوا.

نعم بعدما بايع الأربعة أبا بكر في السقيفة، خرجوا وصاروا يأخذون البيعة من كل من صادفوه في الطريق، وقد استمر ذلك ستة أشهر من خلال عملية التهديد والترغيب.

فهل مثل هذه البيعة تمثل انتخاباً شعبياً واقعياً، وحقيقياً؟!!!

وكفى أن تقرأ الأحداث التي جرت أثناء السقيفة، أو التي وقعت بعدها، ففي السقيفة كان للخزرجيـين كلام، يكشف عن عدم الرضا بأبي بكر، فلاحظ موقف الحباب بن المنذر الصحابي البدري لما انتضى سيفه[10].

ولما رأى الزبير القوم وقد عقدوا البيعة لأبي بكر اخترط سيفه، وهو يقول: لا أغمده حتى يـبايع علي، فيقول: عمر عليكم الكلب، فيؤخذ سيفه من يده، ويضرب به الحجر ويكسر.[11]

كما أن المقداد بن الأسود الصحابي الجليل يدافع في صدره[12].

وهذا أبو بكر يـبعث عمر بن الخطاب إلى بيت أمير المؤمنين(ع)، وسيدتنا الزهراء فاطمة بنت رسول الله(ص)، ويتهدد اللائذين به الممتنعين عن مبايعته، ويقول له: إن أبوا فقاتلهم، فيأتي عمر إلى بيت الزهراء(روحي لها الفداء)ويقول: والله لتحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة، ثم يرتفع الدخان حتى يغطي سماء بيت الزهراء(ع)، بعدما أضرمت النار في بابها، وأسقط جنينها، وأنبت المسمار في صدرها.

وأمير المؤمنين(ع) يقاد إلى البيعة كما يقاد البعير المخشوش، ويساق سوقاً عنيفاً، ويهدد إن لم يبايع تضرب عنقه.

وكفى أن تتوجه إلى أن عمر بن الخطاب كان يعبر عن بيعة أبي بكر بأنها فلتة كفلتة الجاهلية وقى الله شرها، ويحذر المسلمين من العود إلى مثلها، ومن عاد إلى إليها فاقتلوه.

هذا كله بالنسبة إلى خلافة أبي بكر.

وأما لو جئنا للحديث حول خلافة أمير المؤمنين(ع)، وما أرد المدعي أن يناله من خلال أنها بيعة من قبل الأمة، فهو غير صحيح، وذلك لأنه(ع)، لم يعتمد في خلافته على اجتماع الآراء، بل كان يستند إلى النصب الإلهي والنص النبوي الوارد في شأن، وقضية يوم الرحبة من القضايا الصريحة والواضحة في هذا المعنى، عندما ذكرهم بما كان له يوم الغدير، ولما امتنع زيد بن أرقم عن الشهادة، دعا عليه(ع) فعمي وكف بصره.

وأما الأمر الثاني، فيكفي أن نعرف أن تعيـين الحاكم الإسلامي والخليفة بالبيعة لم يكن تعليماً إسلامياً، حتى يقال أن العاملين به في السقيفة قد استندوا إلى الشريعة المقدسة، بل إن الطريق لتعيـين الخليفة والحاكم يكون من خلال النصب من قبل الله سبحانه وتعالى، والبيعة لو حصلت إنما تكون على السمع والطاعة والتأيـيد والنصر، كما كان ذلك من الأنصار للرسول(ص).

——————————————————————————–

[1] سورة الآية رقم

[2] السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 424-425.

[3] طبقات ابن سعد الكبرى ج 1 ص 262.

[4] الإمامة والسياسة للدينوري.

[5] الكامل في التاريخ ج 2 ص 292.

[6] الإمامة والسياسة ص 23.

[7] الكامل لابن الأثير ج 3 ص 35.

[8] الإمامة والسياسة ص 32.

[9] المصدر السابق ص 168.

[10] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 106.

[11] الإمامة والسياسة ج 1 ص 11.

[12] تاريخ الطبري ج 3 ص 210.