19 أبريل,2024

محمد خاتم الأنبياء (2)

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال تعالى:- (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيـين)[1].

مدخل:

كنا قد تحدثنا حول هذه الآية الشريفة،وأشرنا إلى أنها تنفي العلاقة الطبيعية النسبية بين الرسول الأكرم(ص)وأي فرد من أفراد الأمة الإسلامية في الجملة،كما أنها تثبت حقيقة العلاقة التي بين الرسول(ص)وبين الأمة.

ومما تعرضت له الآية الشريفة أيضاً مسألة الخاتمية،وأنه(ص)خاتم الأنبياء والمرسلين.

ولقد أثيرت حول هذا المعنى مجموعة من الشبهات،تعرضنا فيما مضى لبعض منها،ونشير إلى البقية إن شاء الله.

فتح باب بعثة الأنبياء:

الشبهة الثالثة:قال تعالى:- (رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق)[2].

فهذه الآية نازلة في زمان النبي(ص)وتدل على أن الله تعالى يبعث من يشاء نبياً،فإذن بعد نبي الإسلام(ص)يبعث الله سبحانه وتعالى من يشاء نبياً من عباده.

والجواب عنها:إن هذه الآية لا تنظر إلى المستقبل،لأن مفادها هو أن الله سبحانه وتعالى يوحي لكل من يريد،وليس ملاك الوحي هو ما يتصوره البعض من امتيازات مادية ودنيوية.

أما متى يوحي؟…فهذا ما لا تفيده الآية،وهي تشبه قوله تعالى:- (الله أعلم حيث يجعل رسالته)[3]،ولا تعين الماضي أو الحال أو المستقبل،والفعل المضارع في مثل هذه الموارد لا يدل على الاستقبال،وإنما هو يريد أن يبين أن إرسال النبي تابع لإرادة الله،وليس باقتراح الناس،فهو سبحانه الذي يعلم من هو الأصلح للرسالة.

مشروعية التعبد بالرسالات السماوية الأخرى:

الشبهة الرابعة:لقد نص القرآن الكريم على عالمية الشريعة الإسلامية،وأبديتها وأنه بالإسلام قد أقفل باب الشرائع ونسخت جميعها،كما ينص أيضاً على أن المؤمنين بالله واليوم الآخر من جميع أهل الشرائع سينالون ثواب الله،وأنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون،قال تعالى:- (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)[4].

والسؤال الذي يطرح هو:إذا كان الإسلام آخر شريعة في الشرائع السماوية وهو الرسالة الخاتمة للرسالات والناسخة للأديان،فلماذا يعتبر القرآن كل من يؤمن بالله ويعمل صالحاً من أصحاب الديانات اليهودية والمسيحية مأجوراً وآمناً من عذابه؟…

إن هذا يعني احتفاظ تلك الشرائع السماوية بشرعيتها إلى جانب الإسلام،ونجاة متبعيها شأنهم شأن من اعترف بالإسلام واتبعه،وكأن شريعة جديدة لم تأتِ،وكأن أمراً ما لم يقع.

والجواب عنها:

ينبغي حين إرادة استفادة معنى من آية من الآيات القرآنية ملاحظة الآيات الأخرى التي تتضمن نفس الموضوع،فهذه الآيات وأَضرابها لا يمكن أن تفسر مستقلة دون أن تلحظ بقية الآيات الأخرى المتضمنة لنفس الموضوع في القرآن الكريم.

كما ينبغي أيضاً ملاحظة كيفية تعامل النبي(ص)مع أصحاب تلك الديانات،إذ من المعلوم أن النبي(ص)لن يخالف القرآن الكريم،في المنهج المتبع،ولن يسير على أسلوب يغاير الأسلوب الذي يطرحه القرآن.

بعد هذا نقول في الإجابة:

إن هذه الآية وأمثالها لا تثبت إعطاء الإسلام الشرعية لتلك الرسالات والاعتراف بها بعد مجيئه،وأنها غير منسوخة به،بل هي بصدد موضوع آخر غفل عنه المستشكل وما أوقعه في ذلك يعود لنظره للآية وأمثالها مستقلة عن بقية الآيات كما قلنا.

والحاصل إن الآية بصدد الحديث عن السابقين من أهل الكتاب فتخبر أنهم ليسوا سواء،فمن آمن منهم وعمل صالحاً فلا خوف عليه ولا حزن يوم القيامة ولا عقاب له،بل له جنة وثواب ورضوان من الله،فهي بصدد إزالة الغموض والاشتباه حول مصير الفريق المؤمن من أهل الكتاب حتى لا يختلط أمرهم بأمر ذلك الفريق الكافر المعاند.

فتكون الآية مرتبطة بذلك الفريق المؤمن من أهل الكتاب الذين كانوا يعيشون في العصور السابقة على الإسلام دون أن يكون لها أي ارتباط بعصر الرسالة وما بعده.

وهذا يعني أن الآية أجنبية عن الدعوى المدعاة من كون الإسلام يعطي شرعية لتلك الديانات،إذ أن الموضوع المطروح فيها على خلاف ذلك،وقد يؤيد ما ذكرناه،بل يدل عليه التعبير الوارد في أول الآية،وهو قوله تعالى:- (الذين آمنوا)فإن المراد به على الظاهر المسلمين.

هذا وتوجد مجموعة أخرى من الشبه حول هذه المسألة أعرضنا عن ذكرها،ويمكن للقارئ العزيز متابعتها،والإجابة عليها إن شاء الله تعالى.

أسئلة حول الخاتمية:

هناك مجموعة من التساؤلات التي تطرح حول مسألة الخاتمية نأتي على بعض منها،ويمكن للقارئ العزيز متابعة البقية.

النبوة التبيلغية:

السؤال الأول:من المعلوم أن الأنبياء يصنفون إلى قسمين:

الأول:الأنبياء الذين يبعثون بشريعة جديدة،ويجيئون بكتاب جديد،ويقال للنبوة حينها نبوة تشريعية،وهذا كما في أولي العزم الخمسة(ع).

الثاني:الأنبياء الذين يبعثون لغاية الدعوة والإرشاد إلى أحكام وقوانين سنها الله سبحانه على لسان نبيه المتقدم،فيقال حينها للنبوة أنها نبوة تبليغية،وأمثلتها كثيرة.

هذا وقد عرفنا أن نبي الإسلام(ص)جاء بأكمل الشرائع وأتمها وأجمعها للصلاح،وأنه جاء بكل ما يحتاج إليه الإنسان في معاشه ومعاده إلى يوم القيامة،ولهذا الاكتمال أوصد باب النبوة التشريعية.

لكن لماذا أوصد باب النبوة التبيلغية التي منحها الله سبحانه للأمم السابقة،فإن الشريعة مهما بلغت من الكمال والتمام لا تستغني عمن يقوم بنشرها وجلائها وتجديدها لكي لا تندرس ويتم إبلاغها من السلف إلى الخلف بأسلوب صحيح.

فلماذا أوصد هذا الباب بعد ما كان مفتوحاً في وجه الأمم الماضية،ولماذا منح الله سبحانه هذه النعمة الأمم السابقة فبعث فيهم أنبياء مبلغين ومنذرين وحرم الخلف الصالح من الأمم؟…

وقبل الجواب أود الإشارة إلى أن انفتاح باب النبوة التبليغية في وجه الأمم السابقة،وإيصاده بعد نبي الإسلام(ص)،لا يعد نعمة معنوية إضافية استحقتها تلك الأمم وحرمة منها هذه الأمة.

بل الوجه أن تلك الأمم كانت محتاجة إلى ذلك،دون الأمة الإسلامية،فإنها في غنى عنها.

هذا ويمكن الجواب عن هذا السؤال بجوابين،يختص الثاني منهما بالشيعة:

الجواب الأول:إن الذي دعى إلى بعث الأنبياء التبليغيين في الأمم السابقة يعود لحاجتها إلى ذلك،واستغناء الأمة الإسلامية عن ذلك،لأن المجتمعات تتفاوت في الإدراك والرشد،فرب مجتمع يكون في أخلاقياته وشعوره كالقاصر،لا يقدر على أن يحتفظ بالتراث الواصل إليه،بل يضيعه،كالطفل الذي يمزق كتابه ودفاتره،دون أن يشعر بقيمتها.

بينما مجتمع آخر بلغ من القيم الفكرية والأخلاقية والاجتماعية،شأواً بعيداً فيحتفظ معه بتراثه الديني الواصل إليه،ويستفيد منه استفادة جيدة،فيكون حينها غنياً عن وجود مروج يروج دينه،أو مبلغ يذكره بما نسيه،أو يرشده إلى القيم الأخلاقية.

وهذا الذي ذكرناه ينطبق على محل كلامنا،فالأمم السابقة كانوا كالقصر غير بالغين في العقلية الإجتماعية،فما كانوا يعرفون قيمة التراث المعنوي الذي وصل إليهم،بل كانوا يلعبون به لعب الصبي بكتبه.

أما المجتمع الإسلامي فقد بلغ من المعرفة والإدراك والتفتح العقلي شأواً،يتمكن معه من حفظ تراث نبيه وصيانة كتابه عن طوارق التحريف والضياع.

ويمكننا أن نتعرف ذلك من خلال الإهتمام الذي يحظى به القرآن الكريم.

الجواب الثاني:إن أئمة الشيعة بحكم حديث الثقلين،يحملون علم النبي(ص)في المجالات المختلفة سواء في مجال المعارف والعقائد،أو في مجال الأحكام والوظائف،أو في مجال الاحتجاج والمناظرة،أو في مجال الإجابة على الأسئلة المستجدة،كل ذلك بتعليم من الله سبحانه وتعالى،من دون أن يكونوا أنبياء يوحى إليهم.

فلأجل ذلك،كل إمام في عصره،يقوم بمهمة التبليغ والترويج،ويرد شبهات المبطلين،فاستغنت الأمة بهم عن النبوة التبليغية.

اختلاف مقتضيات الحياة يستدعي تغير القوانين:

السؤال الثاني:لقد أعلن الإسلام أنه الدين الخالد،وأن قوانينه ونظمه باقية إلى أن يرث الأرض ومن عليها،لقوله(ص):حلال محمد حلال إلى يوم القيامة،وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة.

فلن تتغير القوانين والتشريعات الإسلامية،عبر الأجيال والقرون.

ومن المعلوم أن الهدف من تقنين القوانين والأنظمة هو تأمين الحياة الاجتماعية للمجتمع البشري وصونها عن التصادم.

ولا يخفى أن الحياة الاجتماعية متغيرة وأنها ليست على وتيرة واحدة،فهذا يعني لزوم تغير القوانين والأنظمة،فلا تبقى على حالها جامدة.

واللازم من ذلك تجدد الشرع،ومجيء رسل بشريعة جديدة تتوافق مع المتغيرات الحياتية.

والجواب عن هذا السؤال:

لابد من ملاحظة الأحكام الشرعية وكيفية جعلها،فهل أنها مجعولة بنحو الأحكام الجزئية،أو أنها مجعولة بنحو الأحكام الكلية؟…

فإذا كانت هذه الأحكام مجعولة بالنحو الجزئي،فإنها لن تكون صالحة لكل زمان،وفي كل وقت.

أما لو كانت مجعولة بنحو كلي،فلا ريب في أنها تكون صالحة،ولن يؤثر فيها التغير والتبدل والتحول الذي يطرأ على الحياة البشرية.

والصحيح أن الأحكام الإسلامية مجعولة بالنحو الثاني،وهذا يعني أنها لن تتأثر بالظروف التغيرية التي تطرأ على حياة الأمة.

ولهذا نقول بأن هناك أحكاماً شرعية ثابتة لا يعرض عليها التغيـير والاختلاف،ولا يمكن أن تتأثر باختلاف البيئة والمحيط بشكل من الأشكال.

فمن قواعد الدين الإسلامي ما هو خالد وثابت وهو ما يمس الفطرة الإنسانية وله صلة بالكون والطبيعة.

نعم هناك بعض القوانين الإسلامية متغيرة ومتبدلة،لكنها تلك التي لا تمس واقع العلاقات الاجتماعية والشؤون البشرية،ولا يتجاوز حدود الظواهر الاجتماعية.

فالحكم الكلي الذي يعالج القضايا البشرية على غرار الفطرة وصعيدها الكوني،ثابت وخالد في كل العصور والأزمنة،وإن تطورت الحياة البشرية.

الأمة والإطلاع على الغيب:

السؤال الثالث:إن الشريعة الإسلامية هي أكمل الشرائع،والأمة الإسلامية قادرة على حفظ تراثها،أو أن فيها أئمة يهدون الأمة ويرشدونها،ولأجل هذا ختمت النبوة وأصد باب الرسالة كما عرفنا.

لكن هذا الإيصاد سبب انقطاع أخبار السماء عن أهل الأرض،وانقطاع الإطلاع على الغيوب،وهذا خسران للأمة،مع أنه كان مفتوحاً في وجه الأمم السالفة،فهل هذا يعني أن الأمة الإسلامية أقل جدارة من الأمم السالفة؟…

الجواب:

إن الذي سُد بإغلاق باب النبوة وإيصاد باب الرسالة،إنما هو الوحي في مجال تشريع الأحكام،أو الوحي في مجال تبليغ الشرائع السابقة،وغلق هذا الباب لا محذور فيه،لما عرفت سابقاً من أن الرسالة الخاتمة قد بينت كل الاحتياجات إلى يوم القيامة من خلال الأصول العامة والتعليمات الجامعة التي وضعها خاتم النبيـين(ص).

وعلى هذا فلم يغلق باب الاتصال بما وراء عالم الطبيعة،لأن هناك من لهم ارتباط بعالم الغيب،كالأئمة(ع)فإن لهم ارتباطاً بعالم الغيب،وكذلك المؤمنون الحقيقيون الذين أزالوا الحجب عن قلوبهم ووصلوا إلى مقام المكاشفة والشهادة نتيجة تهذيبهم أنفسهم.

[1] سورة الآية رقم

[2] سورة غافر الآية رقم 15.

[3] سورة الأنعام الآية رقم 124.

[4] سورة البقرة الآية رقم 62.