25 أبريل,2024

قبس من حياة الإمام الهادي

اطبع المقالة اطبع المقالة

تطالعنا في شهر رجب الأصب مجموعة من المناسبات المباركة والسعيدة كولادة الإمام الباقر والإمام الهادي والإمام الجواد،ثم ميلاد أمير المؤمنين علي(ع).

كما تطالعنا بعض المناسبات الأليمة،كشهادة الإمام موسى الكاظم،وذكرى رحيل شيخ الأبطح أبي طالب،على بعض الروايات،وكذلك شهادة الإمام الهادي(ع)،وهو من خصص الحديث هنا حوله.

الإمام علي الهادي:

الإمام علي بن محمد الهادي،العاشر من أئمة أهل البيت (ع)وهو في غنى عن التعريف لكونه شخصية امتدادية لشخص آبائه وأجداده الطاهرين،وهم الذين ملؤوا الدنيا بأسرها بفضائلهم،وظهرت كراماتهم للقاصي والداني،وآمن بها المحب والمبغض.

الخطوط العامة لمواقف الإمام:

لكن من المناسب ونحن نعيش هذه الذكرى،أن نسعى للتعرف على هذه الشخصية المباركة ولن نحيط بدراساتها من جميع النواحي،ولذا نعمد إلى دراسة موجزة في جوانب منها،وبشكل موجز فتقول:

لقد مارس الإمام الهادي(ع) دوره ونشاطه الإعتيادي بعدما وصل إلى سامراء،تنفيذاً للخطة التي سار عليها جميع خلفاء بني العباس منذ عهد المأمون واستقدامه الإمام الرضا إلى دار الخلافة،وبقيت هذه الحركة مستمرة كذلك حتى وقت الإمام العسكري.

وعلى أي حال كان الإمام الهادي يمارس دوره القيادي والتوجيهي للأمة بصفته الإمام والقائد لمواليه والمشرف على مصالحهم والقائم بالدفاع عن قضاياهم بمقدار ما لديه من مكنة،في تلك الحدود الضيقة المحددة بحدود الضغط والرقابة الموجهة إليه وإلى مواليه.

هذا وقد كان له(ع)موقفان في هذا المجال:

الموقف الأول:اثبات الحق أو نقد الباطل،بحسب وجهة نظره،تجاه الناس من غير الموالين له سواء على المستوى العالي في الجهاز الحاكم وبين رجالات الدولة،أو على مستوى القواعد الشعبية العامة بين عامة الناس.

الموقف الثاني:القيام بعملية المحافظة التامة على أصحابه ورعاية مصالحهم وتحذيرهم من الوقوع في الشرك العباسي،ومساعدتهم في اخفاء نشاطهم،وما إلى ذلك،بحسب الإمكان.

وأظن أنه إذا وفقنا لدراسة هذين الجانبين من حياة الإمام(ع)يمكننا أن نخرج بحصيلة وافية من سيرته العطرة،ونكون عندها في غنى عن التعرض لجميع المفردات التي وردت في سيرته المباركة،لكن هذا لا يعني إهمالها ورفع اليد عتها، بل نريد أن نقول أن التعرف على هذين الجانبين مدعاة إلى الكشف عن كثير من جوانب حياته،التي يستغنى فيها عن مراجعة النصوص الأخرى في هذا المجال.

نشاطه تجاه من لا يعتقد بإمامته:

يمكننا ملاحظة هذا الموقف من شخصيته المباركة من خلال مجموعة من النقاط تظهر للمتأمل في سيرته الطاهرة،ولنشر لبعضها:

النقطة الأولى:النقد السياسي على المستوى الأعلى،عملاً بما جاء عن آبائه(ع)كلمة حق أمام سلطان جائر.

وتظهر لنا هذه النقطة من خلال ملاحظة القضية التاريخية التي ينقلها المؤرخون من العامة والخاصة،فقد وشي به(ع)عند المتوكل،وقيل له إن في منـزله سلاحاً وكتباً،وغيرها من شيعته واوهموه أنه يطلب الأمر لنفسه فوجه إليه عدة من الأتراك ليلاً،فهجموا على منـزله غفلة،فوجدوه وحده في بيت مغلق وعليه مدرعة من شعر،وعلى رأسه ملحفة من صوف وهو مستقبل القبلة يترنم بآيات من القرآن الكريم في الوعد والوعيد ليس بينه وبين الأرض بساط إلا الرمل والحصى فأخذ على الصورة التي وجد عليها وحمل إلى المتوكل في جوف الليل.

فلما مثل بين يديه والمتوكل يستعمل الشراب وفي يده كأس،فلما رآه أعظمه وأجلسه إلى جانبه،ولم يكن في منـزله شيء مما قيل عنه ولا حجة يتعلل بها.

فناوله المتوكل الكأس الذي في يده،فقال:يا أمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط،فاعفني فاعفاه،وقال:انشدني شعراً استحسنه.

فقال:إني لقليل الرواية للشعر.

قال:لابد أن تنشدني شيئاً،فعندها صفعه الإمام(ع)بتلك الصفعة،وأنشده أبياتاً تنسب لأمير المؤمنين(ع):

باتـوا على قلل الأجبال تحرسهم غلب الرجال فلم تنفهم القلل

واستنـزلوا بعد عز من معاقلهـم فاودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخ من بعـد ما قبروا أيـن الأسرة والتيجان والحلل

أين الوجوه التي كانت منعمة من دونـها تضرب الأستار والكلل

فافصح القبر عنهم حين سائلهم تلك الوجوه عليها الدود يقتـتل

قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا فاصبحوا بعد طول الأكل قد اكلوا

قال الراوي:فاشفق من حضر على علي(ع)وظن أن بادرة تبدو إليه،فبكى المتوكل بكاء شديداً حتى بلت دموعه لحيته،وبكى من حضره،ثم أمر برفع الشراب،ثم قال:يا أبا الحسن،أعليك دين؟…قال:نعم أربعة آلاف دينار،فأمر بدفعها،ورده إلى منـزله مكرماً[1].

هذا ويمكننا أن نستخلص من هذه القصة عدة أمور:

الأول:الحالة التي كان يعيش فيها الإمام(ع)مع حكام عصره وكيف كان الجو مكهرباً ومحموماً من قبل السلطة،وكيف كانت معاملتهم معه،تلك المعاملة التي كانت للأتراك اليد الطولى فيها.

الثاني:اظهار الإمام(ع)فضله من خلال العلم الغيـبي الموجود لديه،ولذلك هو أراد عن علم وعمد أن يكون في جوف الليل على الحالة التي رأوه عليها،لعلمه كما قلنا بالعلم الغيـبي بمثل هذا الهجوم المفاجئ،فأخفى مستنداته بنحو تام،وبدأ في تلاوة القرآن في آيات الوعد والوعيد،ليكون ذلك حجة على هؤلاء الأتراك المهاجمين.

الثالث:الأسلوب الذي انتهجه(ع)في تذكير المتوكل وتحذيره بل في مهاجمته ونقض تصرفه لشربه الشراب،من خلال التذكير بالموت والعقاب وما الذي يجري على الموتى وإن كانوا من أعاظم البشر في الدنيا ملكاً وجاهاً.

وهذا الأسلوب يحقق الغرض من جانب،لكنه لا يجعل للسلطة الحاكمة على الإمام ممسكاً،إذ كما قلنا ما هو إلا نوع تذكير بالموت والعقاب.

الرابع:لقد حسس الإمام(ع)المتوكل بالحقيقة التي يعترف بها،لكن نفسه الشريرة تأبى قبولها،ذلك أن المتوكل يعترف في شعوره وبواطن نفسه بأمرين:

1-أن الحق في جانب الإمام الهادي(ع)،وأنه صاحب قضية عادلة.

2-أن الأعمال التي يقترفها،انحراف عن الإسلام وعصيان لأوامر الله سبحانه المتفق على ثبوتها بين كافة المسلمين،لذلك يحس بوقع الجريمة ووخز الضمير.

نعم هذان الأمران تغطيهما أغشية المال والملك والمصالح الشخصية الذي جعلته في قمة المنحرفين والمعادين لأهل البيت(ع).

هذا ومن موارد اثبات الحجة على المستوي الحكومي المتمثلة في شخص الخليفة،ما ورد بشكل مشهور عن زرافة حاجب المتوكل،وحاصل ذلك:

أن مشعوذاً هندياً أراد أن يأنس المتوكل بلعبه،وكان الإمام(ع)حاضراً في المجلس فأراد الهندي أن يخجله ببعض شعوذاته،ووجد من المتوكل رغبة في ذلك،فما كان من الإمام إلا أن اشار إلى صورة أسد مرسومة على احدى الوسائد،فوثبت الصورة على شكل أسد حقيقي فافترس الهندي المشعوذ وعاد إلى شكله الأول على الوسادة.

قال الراوي فتحير الحاضرون،ونهض علي بن محمد فقال له المتوكل:سألتك بالله إلا جلست ورددته.

فقال:والله لا يرى بعدها،اتسلط أعداء الله على أوليائه،وخرج من عنده،ولم ير الرجل بعدها[2].

النقطة الثانية:اثبات الحجة على المستوى العام:

في البداية ينبغي الإلتفات إلى أن التاريخ لم ينقل عن الإمام(ع) أي تعليق تجاه الحوادث التي كانت تقع في عصره،مهما عظمت أهمية الحدث،بل يمكن القول بأنه لم يردنا شيء من المواقف مع خلفاء عصره عدا المتوكل.

ومع ذلك فقد مارس الإمام هذا الدور دون أن يكون ذلك مؤثراً على منهجيته التي اختطها لنفسه من عدم التفاعل مع الأحداث الخارجية،كما أشرنا.

وقد كان قيامه بهذا الأمر بنحوين:

الأول:على المستوى الشخصي،ونعني به قيامه بإثبات الحق وإقامة الحجة تجاه أشخاص بأعيانهم.

الثاني:على المستوى الجماعي،من خلال إثبات ذلك أمام جماعة أو جماعات،كلما سنحت الفرصة بذلك،وتنجز المسؤولية،بشكل هادئ،دون أن يكون فيه تحدٍ للوضع القائم،أو يتضمن مقابلة لخط الحكام.

فمن النحو الأول:

موقف الإمام تجاه ذلك النصراني الذي جاء إلى داره حاملاً بعض الأموال إليه،وبمجرد أن وصل أمام الدار خرج إليه خادم أسود،فقال له:أنت يوسف بن يعقوب؟…قال:نعم.

قال:فانـزل،وأقعده في الدهليـز،فتعجب النصراني من معرفـته لأسمه واسم أبـيه،وليس في البلد من يعرفه،ولا دخله قط،ثم خرج الخادم فقال:المئة دينار التي في كمك في الكاغذ هاتها،فناولها إياه،وجاء فقال:ادخل، فدخل،وكان الإمام وحده،فطالبه الإمام(ع)بالإسلام والرجوع إلى الحق نتيجة الآيات التي رآها بقوله يا يوسف،ما آن لك؟…فقال:يوسف:يا مولاي،قد بان لي من البرهان ما فيه كفاية لمن اكتفى.

فقال:هيهات إنك لا تسلم،ولكنه سيسلم ولدك فلان وهو من شيعتنا،يا يوسف إن أقواماً يزعمون أن ولايتنا لا تنفع أمثالك كذبوا والله،إنها لتنفع،امض فيما وافيت له،فإنك سترى ما تحب.

قال الراوي:فمضيت إلى باب المتوكل فنلت كل ما أردت وانصرفت[3].

وفي المستوى الثاني:

فمن ذلك أن السلطان خرج في يوم من أيام الربيع،إلا أنه صائف والناس عليهم ثياب الصيف،أما الإمام(ع)فعليه لباد وعلى فرسه ثوب يحميه المطر،وقد عقد ذنب فرسه،والناس يتعجبون منه ويقولون:ألا ترون إلى هذا المدني،وما قد فعل بنفسه.

قال الراوي:فلما خرج الناس إلى الصحراء لم يلبثوا أن ارتفعت سحابة عظيمة،هطلت،فلم يـبق أحد إلا ابتل حتى غرق في المطر،وعاد(ع)وهو سالم في جميعه[4].

وهذه القضية تكفي لهؤلاء ليعرفوا كرامة الإمام(ع)

النقطة الثالثة:جهاده العلمي:

وهو الذي كان يقوم به من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل،أو من خلال دفع التحديات التي كانت تطرح عليه،أو كان يؤديه من خلال إجابته للإستفتاءات التي كانت ترد عليه من قبل شيعته.

فمن ما جاء في مقام إثبات الحق المحض من دون أن يكون مسبوقاً بتحدٍ أو إزعاج،ما أجاب به(ع)عن سؤال الأهوازيـين وقد سألوه عن الجبر والتفويض،فأجابهم(ع)ببيان مطول بدأه بمقدمة حول إثبات الإمامة طبقاً للمفهوم الحق الذي يعتقده،ثم عقب ذلك بذكر الجواب الصحيح في بيان الأمر بين الأمرين[5].

ومما كان منه دفعاً للباطل،خصوصاً بعد اشتباه المسألة والتردد فيما هو الحق عند البعض،ما تكلم به(ع)مع فتح بن يزيد الجرجاني،لإزالة بعض الشبهات الواردة في ذهنه[6].

وكذا ما رد به على رجل عباسي حين عزّ عليه تقديم الإمام عليه،مع اعتقاده أنه أشرف منه نسباً[7].

هذا وللمتوكل استفتاءات كثيرة للإمام(ع)،حيث كان يلجأ إليه لتذليل ما يواجهه من مشكلات،وغالباً ما كانت تنطوي تلك الإستفتاءات على جانب التحدي،فيسأل عن الحكمة أو الدليل بقصد الإحراج لا بقصد الفهم الصحيح،وقد كان الإمام يجيـبه بالشكل الذي يراه مناسباً مع فهمه وفهم الحاضرين.

فمن تلك الموارد،أنه قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بإمرأة مسلمة،فأراد أن يقيم عليه الحد،فأسلم،فقال يحيى بن أكثم قد هدم إيمانه شركه وفعله،وقال بعضهم يضرب ثلاثة حدود،وقال بعضهم يفعل به كذا وكذا.

فلما رأي المتوكل هذا الإختلاف بين الفقهاء،أمر بالكتابة إلى ابي الحسن الهادي(ع)لسؤاله عن ذلك،فلما قرأ الكتاب،كتب(ع):يضرب حتى يموت،فأنكر يحيى،وانكر فقهاء العسكر ذلك،فقالوا يا أمير المؤمنين،سله عن ذلك فإنه شيء لم ينطق به كتاب ولم يجئ به سنة.

فكتب إليه:إن الفقهاء قد انكروا هذا،وقالوا:لم يجئ به سنة ولم ينطق به كتاب،فبين لنا لم أوجبت علينا الضرب حتى يموت.

فكتب(ع)بسم الله الرحمن الرحيم:- (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركون فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا)[8]،فأمر به المتوكل فضرب حتى مات[9].

ثم إنا نلاحظ هاهنا أمرين:

1-مع أن المتوكل عاجز عن علاج المشكلة التي وقع فيها ولجوئه للإمام(ع)لكنه لم يكن مستعداً لتنفيذ أمر الإمام.

2-إن تمسك الإمام(ع)بالآية التي استشهد بها يوحي لنا بأن النصراني لم يؤمن إيماناً حقاً صحيحاً،بل كان ما ظهر منه عبارة عن لقلقة لسانية أظهرها للتهرب من الحد وبالتالي النجاة من العقاب.

وبمقتضى الآية المباركة،فكل من اظهر الإيمان خوفاً من العدل الإلهي،فإنه لا يكون نافعاً له،ويكون مستحقاً للعقاب.

الموقف الثاني:رعايته التامة لقواعده الشعبية:

من خلال المحافظة على أصحابه ورعاية مصالحهم ومساعدتهم في اخفاء نشاطهم،وحمايتهم من الإنحراف،ومن الإرهاب العباسي،وماشابه ذلك.

ونتعرض هنا أيضاً إلى عدة نقاط:

الأولى:حماية أصحابه وذويه من الإنحراف:

من خلال بيع الضمائر بأرخص الأثمان للحكام،ولعل من أهم المواقف التي وقفها الإمام(ع)في هذا المجال موقفه في ردع أخيه موسى بن محمد بن علي بن موسى،عن الإجتماع مع المتوكل في المجلس الذي يريده المتوكل له،وهو مجلس اللهو والشراب،ليتوصل بذلك إلى هتك أخيه الإمام الهادي(ع)،والتشهير به.

وقد اتم الله تعالى نوره،فلم يتوصل المتوكل إلى غايته ومقصوده من النيل من قدس ساحة الإمام(ع).

فإن المتوكل تحت سورة من الحقد والغضب،قال لأصحابه في بعض مجالسه:ويحكم قد أعياني أمر ابن الرضا وجهدت أن أجد فرصة في هذا المعنى فلم أجدها.

فقال له بعض من حضر المجلس:إن لم تجد من ابن الرضا ما تريده من هذا الحال،فهذا أخوه موسى قصاف عزاف،يأكل ويشرب ويعشق ويتخالع،فأحضره واشهد به،فإن الخبر يشيع عن ابن الرضا بذلك،فلا يفرق الناس بينه وبين أخيه،ومن عرفه اتهم أخاه بمثله.

وقد لاقى هذا الإقتراح الأذن الصاغية من المتوكل فاستحسنه،فامر باستقدامه إلى سامراء مكرماً،وأمر بإستقبال فخم يحضر فيه جميع بني هاشم والقواد وجماهير الناس،وكان عازماً على أنه إذا قدم اقطعه أرضاً وبنى له فيها وحول إليها الخمارين والقيان،وأمر بصلته وبره،وزاد على ذلك أن أفرد له منـزلاً سرياً يصلح أن يزوره فيه.

وقد علم الإمام(ع)أنه المقصود بهذه المؤامرة،فوقف ضد هذه المؤامرة موقفه الحاسم،فخرج(ع)في ضمن المستقبلين لأخيه في قمطرة وصيف،وهو موضع يتلقى فيه القادمون فسلم عليه ووفاه حقه،ثم جاء دور تحذيره من المؤامرة وتنبيهه على ما ينبغي أن يتصرف بالنحو الذي يقتضيه رضاء الله تعالى وتعاليم الإسلام،فقال له(ع):إن هذا الرجل قد أحضرك ليهتكك ويضع منك،فلا تقر له أنك شريت نبيذاً قط،واتق الله يا أخي أن ترتكب محظوراً.

فقال له متجاهلاً:وإنما دعاني لهذا،فما حيلتي.

قال له(ع):فلا تضع من قدرك ولا تعص ربك ولا تفعل ما يشينك،فما غرضه إلا هتكك.

لكن موسى لم يعر كلام الإمام اهتماماً وأعرض عن جميع ما ذكره(ع)له،وقد كرر الإمام عليه ذلك مرة أخرى بالقول الحسن والوعظ،وهو مقيم على خلافه،فلما رأى الإمام أن آخر الدواء الكي،وأنه لابد أن يقول قوله الحاسم،مستمداً ذلك من وراء الغيب،قال له:أما أن المجلس الذي تريد الإجتماع معه عليه لا تجتمع عليه أنت وهو أبداً.

فكان موسى يـبكر كل يوم إلى باب المتوكل فيقال له:قد تشاغل اليوم فيروح،ويـبكر فيقال له:قد سكر، فيـبكر،فيقال له:قد شرب دواء،فما زال على هذا الحال ثلاث سنين حتى قتل المتوكل،ولم يجتمع معه على شراب[10].

النقطة الثانية:حمايته أصحابه من الإرهاب العباسي:

بمقدار ما يملك من قدرة،وشرط أن لا يتنافى ذلك مع اسلوبه في التعامل مع القضايا الخارجية كما أشرنا لذلك سابقاً.

فمن تلك المواقف موقفه مع محمد بن الفرج الرخجي،إذ كتب إليه محذراً:يا محمد اجمع أمرك وخذ حذرك،فلم يفهم ماذا أراد الإمام بكلامه هذا،ولو كان قد فهم لدفع عن نفسه شراً مستطيراً.

يقول الراوي:فأنا في جمع أمري لست أدري ما الذي أراد بما كتب حتى ورد عليّ رسول حملني من وطني مصفداً بالحديد وضرب على كل ما أملك وكنت في السجن ثماني سنين.

ثم عاد الإمام(ع)وكتب له وهو في السجن:يا محمد بن الفرج لا تنـزل في ناحية الجانب الغربي،قال الراوي:فقرأت الكتاب وقلت في نفسي:يكتب إليّ أبو الحسن بهذا وأنا في السجن إن هذا لعجيب،فما لبثت إلا أياماً يسيرة حتى فرج عني وحلت قيودي وخلى سبيلي[11].

ومما يندرج تحت هذا العنوان مساعدته(ع)لهم من خلال الدعاء،وهو الطريق الغيـبي المتوفر دائماً للإنقاذ من المصاعب وحل المشاكل،حيث كان(ع)يلجأ لهذا الطريق إذا كانت المصلحة تستدعي ذلك.

فمن ذلك موقفه مع أيوب بن نوح وهو أحد أصحابه وثقاتهم حين تعرض له بالأذى قاضي الكوفة السائر على خط الجهاز الحاكم المدعو بجعفر بن عبد الواحد القاضي،فكتب إلى الإمام يشكو إليه ما ناله من الأذى.

قال الراوي:فكتب إليّ،تكفى أمره إلى شهرين،فعزل عن الكوفة في شهرين،واسترحت منه[12].

فقد اطلع الإمام(ع)بشكل سري غيـبي أو بطريق طبيعي على قرار عزل القاضي قبل شهرين من صدور القرار.

النقطة الثالثة:قضاء حوائج أصحابه حسب الإمكان:

حيث يتضح من عدة شواهد أشير لبعضها في طيات التراجم التي تعرضت لسيرة الإمام(ع)الضنك والضيق الذي كان يعانيه أصحابه في الحالة الإجتماعية والإقتصادية معاً،نتيجة لإبعادهم عن المسرح العام سياسياً واجتماعياً.

وقد كان(ع)يتوخى من مساعدتهم عدة فوائد:

1-قضاء حوائجهم الخاصة.

2-تركيز ثقتهم به،لكونه القائد الأعلى وهو الأمل الأسمى عند الظروف القاسية،والمعين عند عدم وجود المعين.

3-تجديد نشاطهم الإجتماعي،بحسب ما يراه(ع)لهم،وتقتضيه سياسته في ذلك العصر،وهي المتمثلة في العمل في سبيل الله والعدل الإسلامي بشكل لا يثير الحقد والخطر عليهم.

هذا ومن تلك المواقف أنه دخل عليه جماعة من أفضل أصحابه وأوجههم عنده وعند قواعده الشعبية،وهم أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري وأحمد بن إسحاق الأشعري وعلي بن جعفر الهمداني،فشكا إليه أحمد بن إسحاق ديناً عليه.

فقال(ع)لعثمان بن سعيد،وكان وكيله:يا أبا عمرو،ادفع إليه ثلاثين ألف دينار وإلى علي بن جعفر ثلاثين ألف دينار،وخذ أنت ثلاثين ألف دينار[13].

ومن الواضح أن هذا العطاء نحو إعجاز فإنه لا يقدر عليه إلا الملوك.

نرجو أن نكون قد وفقنا للإلمام بالخطوط العامة لسياسة الإمام(ع)فيما تمثله من موقفيه الرئيسيـين تجاه قواعده الشعبية وتجاه الآخرين.

——————————————————————————–

[1] المروج ج 4 ص 11 للمسعودي.

[2] كشف الغمة ج 3 ص 184.

[3] كشف الغمة ج 3 ص 183.

[4] المصدر السابق ص 516.

[5] الإحتجاج ج 2 ص 251.

[6] المصدر السابق.

[7] الإحتجاج ج 2 ص 260.

[8] سورة المؤمن الآية 84-85.

[9] المناقب ج 3 ص 509.

[10] الإرشاد ص 312.

[11] إعلام الورى ص 342.

[12] كشف الغمة ج 2 ص 176.

[13] المناقب ج 3 ص 512.