29 مارس,2024

الجفاف الروحي (6)

اطبع المقالة اطبع المقالة

المعطي الثاني: القوة والصلابة والصمود والثبات:

من أهم معطيات الذكر، أنه يملأ حياة الإنسان قوة وصلابة وصموداً وثباتاً، في مواجهة التحديات مهما كانت صعبة وقاسية. خصوصاً إذا التفتنا إلى أن الإنسان المؤمن تواجهه في حركة الحياة ألوان من التحديات، نشير لبعضها:

التحديات النفسية:

وهو ما يعبر عنه في الحوارات بالحرب النفسية، فماذا نعني بالحرب النفسية؟…
هي الحرب التي تحاول أن تسقط الإنسان نفسياً، وأن تهزمه، هي حرب الدعايات والإشاعات، حرب الإعلام المضاد، حيث لا يخفى على أحد كم هي تأثيرات الحرب الإعلامية الموجهة اليوم ضد الإسلام والمسلمين.
والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا هذه الحرب؟…

لا يخفى على أحد أن الغاية الأساسية لهؤلاء هي إسقاط المسلمين معنوياً، فهم يسعون إلى أن يهزموهم نفسياً، والهزيمة النفسية من أخطر أنواع الهزائم، فإذا انهزم الإنسان نفسياً فسوف ينهزم في كل المواقع، لذلك فإن أعداء الإسلام والقوى الاستكبارية يعتمدون هذا الأسلوب الخطير موظفين في سبيل تحقيقه والوصول إليه كل الوسائل والإمكانات.

الحرب النفسية في مواجهة الرسل والرسالات:

وقد واجه الأنبياء والرسل هذا الأسلوب من الحرب، أعني حرب الإشاعات والاتهامات الكاذبة، حرب الاستهزاء والسخرية، حرب التخدير والتـثبيط، وقد صمد الأنبياء وكانوا أقوى من هذه الحرب، لكونهم يحملون في قلوبهم حب الله سبحانه وتعالى، واليقين بنصره.
فهذا سيد الأنبياء والرسل محمد(ص) استخدم معه كفار قريش هذا الأسلوب، فوصفوه مرة بأنه شاعر، واتهموه أخرى بأنه ساحر، وقالوا عنه بأنه كاهن، ومجنون، واتهموا رسالته بأنها إفك قديم، وأساطير الأولين.

ومع ما واجهوه به من استهزاء وسخرية، إلا أنه(ص) صمد ولم يسقط، ولم يضعف ولم ينهزم، بل واجه كل ذلك بصمود وقوة وثبات، لأنه كان واثقاً بالله تعالى، وكان يحمل في قلبه حب الله سبحانه، وكان لسانه يلهج دائماً بذكر الله في زحمة المواجهات القاسية، والتحديات الصعبة، فكان يردد دائماً بكل ثقة واطمئنان: إلهي إن لم يكن غضبك عليّ فلا أبالي.
وهذا الشعار هو ما ينبغي على المؤمن الرسالي أن يحمله أثناء حركته الثقافية، الاجتماعية، وغير ذلك، خصوصاً وهو يواجه اليوم مجموعة من التحديات، يواجه حرب الإشاعات، الدعايات، الافتراءات، الأكاذيب، حرب الإعلام المضاد من قبل كل القوى المعادية للإسلام وللمسلمين، الاستكبار العالمي، الدول الكافرة، الكيانات الظالمة.

حرب المساومات والإغراءات:

وقد واجه نبينا محمد(ص) هذه الحرب، فبعد أن فشلت حرب قريش النفسية، اتخذوا معه(ص) أسلوباً آخر، فعمدوا إلى:
1-الإغراء، بالمال، والمنصب، وغير ذلك، وقد كان جوابه(ص) كلمته الخالدة: والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه.

2-المساومات والتنازلات، وقد أجاب عن ذلك النبي(ص) بأمر من الله سبحانه وتعالى:- ( قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين).
وهذا ما يتعرض له بعض المؤمنين العاملين في ساحة العمل الإسلامي، حيث يواجهون حرب الإغراءات والمساومات، بالأموال والمناصب، والوظائف، وغير ذلك.

وهنا لابد أن يكون موقف المؤمنين هو موقف النبي(ص) الذي أشرنا إليه سابقاً: والله لو وضعوا الشمس…الخ…، كما يجب عليهم مواجهة هذه الحرب بعنفوان الإيمان، وصلابة العقيدة، وثبات المبدأ، فلا يقدمون أي شيء من التنازلات.

حرب العنف والقسوة:

وهذا يعد أسلوباً متقدماً بعد اليأس والفشل عن الوصول للغرض من خلال الأسلوبين السابقين يعمد لمثل هذا الأسلوب، وهو أسلوب العنف والإرهاب، والتعذيب، وقد أستخدم هذا الأسلوب مع النبي(ص) والثلة المؤمنة التي آمنت به وأتبعته في مكة، من قبل المشركين، وصمد النبي(ص) والمؤمنون، وتحملوا العناء والبلاء، والعذاب، وقد كان رسول الله(ص) يملؤهم ثباتاً وصبراً وصموداً وتحملاً.

وصدرت منه في تلك المرحلة مجموعة كلمات تبث روح التحمل والصبر في تلك الفئة الصالحة التي آمنت بربها، فلما مر على آل ياسر، قال(ص) كلمته المشهورة: صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة، وقال في موقف آخر: صبراً أبا اليقظان.
وعندما يمر على بعض المسلمين وهم يعذبون، نراه يقول لهم: لقد كان مَن كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما يصرفه عن دينه.
وقد ضرب هؤلاء المؤمنين أروع الأمثلة في التضحية والصبر، فهذا بلال الحبشي وهو في شدة العذاب، والصخرة على صدره والسياط على جسده يردد بكل ثبات واطمئنان: أحد أحد. إن هذا هو صمود الإيمان، وعنفوان العقيدة، وثبات المبدأ، إنه ذكر الله الذي يملأ الإنسان المؤمن اطمئناناً وهدوءاً ويملأه شموخاً وإصراراً وتحدياً.

اشتمال التاريخ على سجل حافل بالمؤمنين:

وقد حفل التاريخ بعدة نماذج رائعة تمثل الصمود والثبات لرجال مبدئيـين، صمدوا أمام التحديات والإغراءات، وكافة السبل والوسائل التي استخدمت معهم.

رشيد الهجري:

هذه الشخصية الإسلامية كانت تحمل ولاء صلباً لآل محمد(ص)، وحباً عميقاً لأمير المؤمنين(ع)، وقد سعت السلطة الأموية جاهدة لنـزع هذا الولاء والحب منه، إلا أنه رفض ذلك بكل تحدٍ وصمود، فعمدوا إلى قطع يديه ورجليه، ومع ذلك بقي مصراً على خط الولاء والحب، قطعوا لسانه، صلبوه، قتلوه، وهكذا سقط شهيداً صامداً وثابتاً على المبدأ والولاء.

ميثم التمار:

بشره أمير المؤمنين(ع) بالشهادة، عندما أخبره بأنه سوف يدعى إلى البراءة منه من قبل بني أمية، فقال له ميثم: لا أبرأ منك أبداً.
قال أمير المؤمنين(ع): إذاً والله يقتلونك ويصلبونك.
قال: أصبر فذاك في الله قليل…

إن هذه الكلمات تمثل روعة الإيمان والولاء، إذ لا العذاب، ولا القتل ولا الصلب في قبال المبدأ يمثلان شيئاً، لأن المؤمن لا ترهبه السياط، ولا السجون، ولا الزنزانات، بل الإيمان أقوى من ذلك.
وفعلاً بقي ميثم يترقب ذلك اليوم وينـتظره، حتى استدعته السلطة الأموية، وطلبوا منه البراءة من أمير المؤمنين(ع)، فرفض بكل شموخ وتحدٍ، وإصرار، فما كان منهم إلا أن استخدموا أسلوب الإرهاب والتعذيب، فقطعوا يديه ورجليه، وصلبوه على جذع نخلة، فتجمهر الناس يتفرجون عليه، وأخذ يخطب فيهم، ويحدثهم بفضائل أمير المؤمنين(ع)، ولم يستطيع الأمويون إسكاته إلا بعد أن طعنوه بحربة فسقط شهيداً.

السيد محمد باقر الصدر:

ومن هؤلاء أيضاً المرجع الديني آية الله العظمى الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر، وأخته العلوية بنت الهدى، حيث مثلا قمة الصمود والشموخ، أمام كل التحديات، والصعوبات، والإغراءات التي تم عرضها عليهما، لكنهما صمدا بكل شموخ وإباء حسيني، حتى رزقهما الله سبحانه وتعالى الشهادة.

وهكذا يحفل تاريخنا بمثل هذه الشخصيات العظيمة التي قدمت وضحت من أجل العقيدة والمبدأ صابرة وثابتة على هذا الخط، ولم تـتنازل مع كل ما قدم لها من إغراءات وما مورس معها من سبل تعذيب وحرب نفسية، لأن هؤلاء قد عاشوا ذكر الله سبحانه وتعالى بمعناه الحقيقي الصادق، لا كما يعبث به الكثيرون، ألفاظاً لا تحمل مضموناً، ومجرد كلمات باهتة لا تـتفاعل مع الوجدان.