19 أبريل,2024

التقية في عصر الإمام الصادق عليه السلام

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال أبو عبد الله الإمام الصادق(ع): التقية ديني ودين آبائي.

مدخل:

من المعروف أن الإمام أبا عبد الله الصادق(ع) عاش في مرحلة تعتبر مرحلة انتقالية، وهي نهاية الدولة الأموية وبداية زوال ملكها، وبداية تأسيس الدولة العباسية، وسيطرتها على الأمة الإسلامية.

ولا يخفى على أحد ما قامت به هاتان الدولتان وبكافة الوسائل والسبل من أجل طمس الرسالة المحمدية، من خلال ما كان يجري في قصور حكامها من انغماس في اللهو والمجون والسير خلف الشهوات، بل إشاعة ذلك في الوسط الاجتماعي بين الناس دون وجود من يقوم بالنهي عنه، أو محاربته.

في مثل هذه الأجواء عاش الإمام الصادق(ع)، وكان بين خيارين، لا ثالث لهما:

الأول: أن يقف في مواجهة هذه الأمور، ويتصدى للقيام بثورة على سلطة العصر، وهذا الأمر يتطلب وجود قلوب مستعدة للقيام معه، ولها القابلية على بذل أنفسها دونه، فلا تسلمه حين القيام والوثبة.

وقد كانت تمثل أمامه حركة عمه زيد بن علي(رض)، وما آل إليه أمره، وكيف كانت نهايته، بل الحركات العلوية التي قامت، وماذا كان مصيرها، مما يعني أنه لم تكن هناك الأرضية الصالحة لقيامه(ع)، بهذه الحركة، وبالتالي فقدان نفسه الشريفة.

الثاني: أن يتخذ منهج التقية، فيسكت عن هذه الأمور الموجودة، لكنه يعمد إلى محاربتها من خلال بث التوعية في المجتمع الإسلامي، بتقديم أنواع العلم، وفي شتى المجالات، مما يهيئ المجتمع ليقف سداً منيعاً أمام ذلك الغزو الموجود من قبل السلطات الحاكمة في سعيها لتميـيع الهوية الإسلامية.

وما اتخاذ أبو عبد الله(ع) لمنهج التقية، إلا رغبة منه في الحفاظ على الدين، ومعالم الشريعة الغراء من الإندارس، إذ أن نفسه الزكية، ليست بأعز من الدين، والعناية به، والسعي للحفاظ عليه.

منهج الإمام:

وقد انتهج أبو عبد الله(ع) الخيار الثاني، فعمد إلى الوقوف أمام تيار السلطة الحاكمة، وما كانت تبثه من غزو روحي للمجتمع ببثها المجون والانحلال الأخلاقي بما كان يصدر منه من تعاليم أخلاقية، وقيم عالية، وبيان مركزية الإنسان بين المخلوقات وما يميزه عن الحيوان، وأنه ربما كان أفضل من الملائكة.

بل إن تلك الحكومات لما أرادت بث الشبهات وترويج البدع، والأفكار الإنحرافية الضالة، وقف(ع) منها موقفاً متشدداً، وقام بمجابهتها بوسائل متعددة.

لكن ذلك كله في إطار التقية، والمحافظة على نفسه القدسية، رغبة في الحفاظ على الدين القويم، وشريعة المصطفى(ص).

عدم وجود التقية عند الأئمة السابقين:

هذا وربما يقال: إن التقية التي وجدت عند أبي عبد الله الصادق(ع) من الأمور التي أختص بها هو(ع)، إذ أننا لا نرى شيئاً من التقية في عهد آبائه السابقين(ع) فلا نرى أثراً لها ولا عين في عصر أمير المؤمنين(ع)، وكذا في عصر الإمام الحسن الزكي(ع)، فإنه لم يعهد منه ممارسة التقية أو استعماله لها، بل إن عصر أبي عبد الله(ع)، كان عصر حماسة، وشجاعة، فلم يوجد فيه من التقية شيئاً، وهذا جده الإمام زين العابدين(ع)، يواصل منهجية أبيه المولى الحسين(ع) ببث روح الحماسة، والوقوف أمام الطغاة من دون عمد إلى منهجية التقية.

وربما يشهد لما ذكر، ولا أقل من كونه يؤيده، أن جملة من أصحاب الأئمة(ع) بذلوا مهجهم الشريفة ولم يعمدوا لاستخدام التقية، فشهداء مرج عذراء، حجر بن عدي وصحبه، أبوا التبري من أمير المؤمنين(ع) مع أن ذلك كان بإمكانهم، ونالوا الفوز بالشهادة، وكذا الشهيد عمرو بن الحمق الخزاعي(رض)، قدم مهجته ولم يقبل بأن يبرى من أمير المؤمنين(ع)، مما يؤكد ما ذكر.

أقسام التقية:

هذا ولا يذهب عليك أن من يقول بهذه المقالة لابد عليه أن يلتـزم بداية بأن التقية توجد جذورها في القرآن الكريم، حيث يقول تعالى:- ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة)[1]، كما أن في السنة ما يشير لذلك مما رواه الفريقان، وهي قصة عمار بن ياسر(رض) المعروفة.

وبالجملة، لا ريب في أن التقية ذات جذور شرعية موجودة في المصادر الدينية، مما يعني أن الأمر لا يعدُ بدعاً من القول كما لا يخفى.

نعم تسليط التسائل السابق، ينصب على أن هذا الأمر لماذا انفرد به الإمام الصادق(ع) دون بقية الأئمة الذين سبقوه، ولم يعهد صدور شيء من ذلك عنهم فيه خلال ممارستهم للحياة في المجتمع.

وعندما نسعى للإجابة على التساؤل السابق، نشير بداية إلى أقسام التقية فنقول:

التقية تارة تكون في المبدأ والعقيدة، وتارة أخرى تكون في الحكم الشرعي، إما باتقاء المفتي نفسه، كما لو كان عنده من يخاف منه ويحذره، أو أن يكون منشأ اتقائه من السائل نفسه، إما للخوف عليه، أو للخوف منه.

وعلى أي حال، فإن التقية تنقسم إلى أقسام كما ذكر ذلك غير واحد من أعلامنا(رض)، وهي:

الأول: التقية الإكراهية: وهي ما إذا أكره المؤمن على فعل ما يكره إيجاده، كأن يتكلم كلمة الكفر مثلاً، أو يتكلم بكلمة التبري من أمير المؤمنين(ع)، ومن مصاديق ذلك قضية عمار بن ياسر(رض)، فإنها من التقية الإكراهية.

الثاني: التقية: الخوفية: وهي ما إذا كان المكلف يخاف على نفسه من ممارسة عمل يخاف ما يطلب منه.

الثالث: التقية الكتمانية: وهي كتمان المرام، والمذهب، وعدم ترويجه ظاهراً، بل السعي فيه سراً، وذلك إذا كان يترتب على التظاهر به مفسدة مهمة، مثل هلاك النفس، أو تشتت الجمع، أو المنع عن رواج المذهب، وما شابه ذلك.

ولعل هذا النوع من التقية هو الذي كان مستعملاً في عصر الأئمة المعصومين(ع)، حيث أنهم نهجوا منهجاً حذراً من اندراس المذهب، بل كان سكوتهم وسيلة من وسائل نشر المذهب الشريف، وبثه في الأوساط الاجتماعية بين الناس.

الرابع: التقية المداراتية: وهي تعني حسن المعاشرة مع العامة، من خلال الصلاة في جماعتهم، وعيادة مرضاهم، وحضور جنائزهم، وما شابه ذلك، رغبة في تأيـيد الدين، وسعي للمحافظة على وحدة المسلمين، وإعلاء لكلمة الإسلام.

ولا يـبعد أن يعدّ ما صدر من أمير المؤمنين(ع) في زمان الثلاثة الأُول من هذا المصداق من مصاديق التقية، بل يمكن عدّ ما صدر من بقية الأئمة(ع) منه أيضاً.

ثم بعد معرفة هذه الأقسام للتقية، ينبغي الإلفات إلى أن التقية الموجودة عند الإمام الصادق(ع) يغلب عليها التقية في الأحكام، وهو ما لم يكن مألوفاً عند بقية الأئمة(ع) قبله، كما سمعته من المتسائل.

الجذور التاريخية للتقية في الأحكام:

لا يخفى على أحد أنه كان المرجع الوحيد للأمة في حياة رسول الله(ص) هو المصطفى محمد(ص) في القضايا التشريعية، حيث كان يقوم بمهمة تبليغ الأحكام وبيانها، ويجيب على الأسئلة الموجهة له رغبة من السائل في معرفة الحكم الشرعي في وقائع الحياة. فكان المسلمون يتلقون الأحكام منه(ص)، ويطبقونها، كما كانوا يـبثوها وينشرونها لكل من لم يسمع بها، أو لم تصله.

ولا ريب في أن ما صدر عنه(ص) مهما بلغ مجموعه من حيث الكثرة، لن يفي بتلبية جميع المتطلبات الحياتية للأمة الإسلامية، مما يوجب أن يقيم(ص) من بعده خليفة يعطي الأمة ما تحتاج إليه في كافة شؤونها، من هنا كان المخطط الإلهي يقضي بنصب أمير المؤمنين(ع) ومن بعده الأئمة(ع) خلفاء لرسول الله(ص) كي ما يقوموا بهذا الدور.

لكن الذي حصل أن الأمة خالفت أمر السماء، وغير الحق، فأقصي أمير المؤمنين(ع) عن منصبه السماوي، وتولى القيادة من ليس لها بأهل.

وصار المرجع بعد رسول الله(ص) للأمة هم الصحابة، لكونهم ملتصقين بالنبي(ص)، وتفقهوا على يديه، مع أن المفروض أن المرجع للأمة بعد النبي(ص) هو أمير المؤمنين(ع)، وليس أحد سواه.

إلا أنه ونتيجة لإقصائه عن منصبه السماوي، صار يعامل كما يعامل بقية الصحابة، بمعنى أنه صار ينظر إليه كواحد منهم، نعم كان أبرزهم(ع)، وكان يُعترف له بذلك، لكونه أشدهم قرباً لرسول الله(ص)، لذا كانوا يلجئون إليه كلما استعصى عليهم حكماً شرعياً في مسألة من المسائل.

وقد كان الناس في هذه الفترة يعملون بالأحاديث التي صدرت عن النبي(ص)، التي كان مصدرها في النقل هم الصحابة.

وفي هذه الفترة أيضاً كانت لأمير المؤمنين(ع) مدرسته الخاصة به، كما كان له أتباعه الذين يرجعون إليه ويستفتونه في الأحكام الشرعية، والمسائل الابتلائية التي يواجهونها.

هذا ولا ينكر مدى استفادة المسلمين من هذه المدرسة، وما تركته من أثر عملي على واقعهم الحياتي.

وفي هذه الفترة صدرت مجموعة من الاجتهادات مقابل النص من قبل جملة من الصحابة، وكان يتـزعم هذا التيار الرجل الثاني، إذ عدّ عليه المؤرخون والمحدثون عشرات الاجتهادات مقابل النصوص الواردة عن النبي(ص)، وقد عدّت فيما بعد للأسف من الفقه، ضرورة أنها صادرة من موقع السلطة، وكأنه هو المصدر التشريعي بعد المصطفى(ص).

ظهور الرأي في الشريعة:

ومن الواضح أنه خلال تلك الفترة الزمنية لم يقع إدخال الرأي في الشريعة، لكنه مع تقادم العهد وبعد المدة أخذ هذا الأمر يدخل تدريجياً، وقد كان على نحوين، إما على مستوى فهم النصوص، أو على مستوى تحكيم الرأي، وذلك بسبب فقد النصوص.

ومن الواضح أن هذا الأمر نشأ بسبب قلة الأحاديث التي صدرت عنه(ص)، بالنسبة لوقائع الحياة، وانحراف الناس عن الوصي الحقيقي للنبي(ص).

ولم يقتصر الأمر على فترة وجود أمير المؤمنين(ع) في عالم الدنيا، بل تعدى ذلك إلى ما بعد شهادته، وفي أيام إمامة الإمام الحسن الزكي(ع)، فأخذ العمل بالرأي في التوسع، مع أن الإمامين الحسنين(ع) والجيل الصالح من أصحاب أمير المؤمنين(ع)، كانوا يعمدون إلى إرشاد الناس إلى الفقه الصحيح.

وقد كان بيان ذلك من خلا قيامهم بالتدريس في مسجد النبي(ص)، وإجابتهم على استفتاء الناس متى وردت عليهم.

هذا ولم يكن في هذه الفترة الزمنية وجوداً للتقية في الأحكام، على الرغم من وجود أصل التقية، وإخفاء الشيعة لهويتم بسبب ما كانوا يقاسونه من ظروف عصيـبة ورهيـبة.

أسباب عدم التقية في الأحكام في العصر الأول:

ولو أردنا أن نتعرف الأسباب لعدم ظهور التقية في الأحكام تلك الفترة، لوجدنا كالتالي:

الأول: عدم وجود الفصل بين المدارس الفقهية بنحو يعتد به، مما يعني أنه لم يكثر الخلاف في تلك الفترة ما بينها، مضافاً إلى أن الناس لازالوا يتداولون ما روي عن النبي(ص)، وكان الأئمة(ع) يعمدون إلى بث الأحاديث الواردة عنه(ص)، من دون وجود من يمنع عن ذلك.

الثاني: لم يتسن لحكام الجور في تلك الفترة الضغط على الأئمة المعصومين(ع) بسبب حياة الجيل الأول من الصحابة الذي سمع فضائل أهل البيت(ع)، كما أن مكانة الإمامين الحسنين(ع) لا زالت موجودة بين الناس.

مضافاً إلى المنهج السياسي المتبع من قبل الأئمة(ع) في تلك الفترة، وهو منهج المواجهة والتحدي للانحراف، ومواجهة الباطل، كما كان ذلك من الإمام الزكي(ع) مع معاوية، وما صدر من أبي عبد الله الحسين(ع) مع يزيد.

ومن الواضح أن هذا لم يؤهل معاوية لدعوى أهليته للتصدي في إجابة الناس لمسائلهم.

الثالث: ضعف الصحابة عن القيام بعملية ملئ الفراغ المتروك بعد رسول الله(ص) في جانب الأحكام الشرعية، وهذا أوجد جواً للأئمة(ع) تمكنوا من خلاله بسهولة بث ما عندهم من علوم، دونما مضايقة أصلاً.

ولا يخفى أن معاوية بن أبي سفيان لم يروق له هذا الوضع، فعمد إلى القيام بمجموعة من الأعمال، كانت نتيجتها تغير الوضع العام للأمة، وتبدل حاله عما كان عليه، وذلك من خلال قيامه بمجموعة من الأعمال.

هذا ويـبدو أن الفترة الزمنية التي ظهرت فيها التقية في الأحكام هي الفترة ما بعد شهادة الأمام زين العابدين(ع).

المدارس الفقهية:

هذا وقد ظهرت خلال تلك الفترة الزمنية مدرستان عند أبناء العامة، إحداهما مدرسة المدينة، والثانية مدرسة العراق، وقد كان لكل واحد من هاتين المدرستين مميزاتها التي تميزها عن الأخرى.

أما المدرسة الأولى، وهي مدرسة المدينة: فقد كانت تسلك طريق العمل بالنصوص المروية عن النبي(ص)، وهي المعروفة بمدرسة الحديث.

وأما المدرسة الثانية، وهي مدرسة العراق: فقد اتخذت مسلكاً مغايراً، وهو مسلك العمل بالرأي والقياس، وما إلى ذلك.

ولا يذهب عليك أن تعبيرنا بمدرسة المدينة، ومدرسة العراق، لا يعني انحصار وجود كل واحدة من المدرستين في خصوص المدينة التي نسبت إليها، بل إن لكل واحدة من المدرستين وجوداً في المدينة المنسوبة لها المدرسة الأخرى، عمدة ما كان يكون وجودها أقل عن وجودها في ما نسبت إليه.

هذا ويمكن تبرير التجديد الذي حصل في الفقه بالنسبة لمدرسة الرأي، لكونها بعيدة عن المركز الديني، وهو المدينة، مع ما يحصل كل من مستجدات حياتية توجب الحاجة إلى وجود جواب لتساؤلات الناس، وفي نفس الوقت المدينة منطقة بعيدة، فعندها ظهر العمل بالرأي و القياس والاستحسان، فحكم الرأي في كل ما لا يكون فيه نص، بل ربما قدموه على الموارد التي يكون النص فيها موجوداً.

وهذا بخلاف المدينة، فإنه لم يحصل فيها أي تطور، ولعل ذلك يرجع لكونها المركز الأساس للصحابة ومن ثم التابعين، مما أوجب بقاء الصيغة التقليدية للفقه على حالها دونما تجديد، فقي الحال على ما كان عليه سابقاً من عرض الحديث ثم القيام بعملية شرحه.

هذا ومع أن هاتين المدرستين تختلفان مع بعضهما البعض، وبشكل واضح، إلا أنهما تـتفقان على أمرين، وهما:

الأول: تقديم الصحابة، والتركيز عليهم، من خلال جعلهم القدوة، وما ذلك إلا عملاً بالأطروحة السياسية المطروحة من قبل الأمويـين، للوقوف أمام تيار أهل البيت(ع)، والمنع من بروزهم.

فحدث في تلك الفترة الكذب على النبي(ص)، واختلاق الأحاديث المزورة في فضل الأصحاب، وما شابه ذلك.

وقد كان نتيجة التركيز على الصحابة، وجعلهم قدوة، ظهور مذهب الصحابي وسنـته.

الثاني: رفضهم لكون الأئمة(ع) يمثلون استمراراً لخط الشريعة، بل كان أحس ما يصدر منه في مقام التعامل معهم أنهم مجرد رواة لحديث النبي(ص)، فيكونوا مثلهم مثل غيرهم، بحيث يأخذ منهم الرواية، بينما تـترك آرائهم.

بروز مدرسة أهل البيت:

ولا ريب أنه في ظل هذه الاختلافات، سوف تبرز مدرسة أهل البيت(ع) كمدرسة ثالثة في الفقه الإسلامي.

ومن المعلوم أن هذا الفصل لم يكن موجوداً في عصر الإمامين الحسنين(ع)، ولا في عصر الإمام زين العابدين(ع)، وبهذا المقدار من الوضوح.

لأن الناس وإن كانوا يأخذون من الصحابة، إلا أنه لم تصل الأمور بعدُ في تلك الفترة الزمنية إلى إعمال الرأي، بل كانت عبارة عن الإفتاء بمضامين الروايات.

كما أن العمل وإن ظهر في تلك الفترة لكنه لم يصل إلى مستوى المدرسة، كما أن أولاد الحسين(ع) ليسوا عند الناس بمستوى الإمامين الحسنين(ع)، إذ يكفي أن الحسنين(ع) بنظر الناس من الصحابة، بينما البقية من التابعين، أو من تابعي التابعين، وهذا يوجب أن ينظر إليهم كاتجاه فقهي مقابل الاتجاهات الأخرى.

السلطة تدعم المدارس الأخرى:

هذا ومن المعلوم أن الحكومات التي كانت موجودة في تلك العصور لم تدين لأهل البيت(ع) بالفضل، وبالتالي عمدت إلى استمداد شرعيتها من قبل الفقهاء الآخرين، مما يعني أن المدارس الأخرى نالت نصيبها من تقديم السلطة لها وتقريبها، مضافاً إلى أن الدولة كانت تحتاج هؤلاء الفقهاء للقيام بتولي منصب القضاء.

في المقابل كان الحكام في كل عصر يخشون من الأئمة(ع) لما كانا يعلمونه من مكانة جماهيرية لهم(ع) نشأت من كونهم أصحاب الحق، وأنهم قد زووا عن منصبهم الذي نصبهم الله سبحانه فيه.

وفي ظل وجود المدرستين اللتين سبق وأشرنا لهما برزت مدرسة أهل البيت(ع)، وكان أئمتنا(ع) يمثلون قمة في العلم، يدين بهذه الفضيلة المخالف قبل المحب، ولم تنحصر المركزية الثابتة للأئمة(ع) عند خصوص الشيعة، بل تعدتها بحيث كانوا يمثلون مركزية حتى عند علماء العامة.

ومن المعلوم أن هذا البروز والموقع المتميز للأئمة(ع) كان يسبب هاجساً وقلقاً للحكام في تلك العصور، وبالتالي كانوا يعمدون إلى تضيـيق الخناق عليهم، مضافاً إلى إدخالهم في العديد من المناظرات مع كبار علماء الجمهور، والتي كانت تنهي لصالح الأئمة(ع).

دور الأئمة مقابل ذلك:

وبما أن الحكام سوف يقومون بالتضيـق عليهم(ع) وعى تلامذتهم، فما هي السبل التي اتخذوها إزاء ذلك؟…

لقد قام الأئمة(ع) بمجموعة من الأعمال في مواجهة مثل هذه الأمور:

أولها: عدم إبراز الرضا بالأعمال الصادرة منا لحكام، بل السعي لإبقاء عنصر المعارضة لهم، وبيان أن لهم حقاً مغصوباً من قبلهم وهو الخلافة.

ثانيها: عدم ممارسة الانقلاب العسكري على الدولة من خلال الدخول في أي عمل عسكري ضد الحكام، بسبب أن الظروف غير متوفرة للقيام بمثل هذا العمل.

ثالثها: التوجه لبناء الكوادر العلمية، وتقوية ارتباط الناس بالله سبحانه وتعالى من خلال العبادة.

رابعها: ممارسة التقية في أفعالهم وأقوالهم.

ولا يخفى أن منشأ عمد المعصومين(ع) إلى ممارسة هذه الأعمال لما يحكيه لنا التاريخ من وقوعهم تحت ضغظ شديد جداً، إذ أنهم كانوا محاطين بالجواسيس والعيون التي ترصد كافة تحركاتهم، وما يصدر عنهم من أقوال، ومن الذي يدخل عليهم، ومن يخرج من عندهم.

ولا ريب في أن الحكام كانوا على دراية أن المعصومين(ع) لا ينوون التحرك ضدهم، ولعل هذا ما أوجب أن يفسحوا شيئاً لهم(ع) للالتقاء بالناس والنشاط العلمي وإلقاء العلوم والمعارف.

ولكي يتضح عندنا الوضع الذي كان يعيش فيه الأئمة(ع) أشير لهذه الرواية المروية عن أبي عبد الله الصادق(ع)، والتي يشير فيها إلى لزوم التقية، ومنشأ اهتمامه(ع) بذلك، ففي الحديث المعتبر عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله(ع) قال: أتقوا على دينكم وأحجبوه بالتقية، فإنه لا إيمان لمن لا تقية له، إنما أنتم في الناس كالنحل في الطير، ولو أن الطير يعلم ما في أجواف النحل ما بقي منها شيء إلا أكلته، ولو أن الناس علموا ما في أجوافكم إنكم تحبونا أهل البيت، لأكلوكم بألسنتهم ولنحلوكم في السر والعلانية، رحم الله عبداً منكم على ولايتنا[2].

خاتمة:

أتضح من خلال ما قدمناه منشأ وجود التقية وبروزها في عصر الإمام أبي عبد الله الصادق(ع)، لكن هذا لا يعني أنها لم تكن من قبل موجودة عند الأئمة السابقين عليه، وإنما غلب على التقية الموجودة في عصره ومدى التشديد عليها، الإشارة إلى التقية في الأحكام، وليست التقية في المبدأ والعقيد، وقد أتضح مما تقدم أن منشأ ذلك يعود للخوف من حكام الدولة، فكانت هناك نصوص صادرة موافقة لفتاوى العامة.

————————————————-

[1] سورة آل عمران الآية رقم 28.

[2] وسائل الشيعة ب 24 من أبواب الأمر والنهي ح 7.