20 أبريل,2024

لا ضرر ولا ضرار

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال النبي الأكرم محمد(ص):لا ضرر ولا ضرار.

مدخل:

هذا مقطع من حديث النبي(ص)في قصة سمرة بن جندب مع الرجل الأنصاري،وحاصل القصة كما جاء في كتب الحديث عن أبي جعفر(ع)قال:إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار،وكان منزل الأنصاري بباب البستان،وكان يمر به إلى نخلته ولا يستأذن،فكلمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء فأبى سمرة،فلما تأبى جاء الأنصاري إلى رسول الله(ص)فشكا إليه وخبره الخبر،فأرسل إليه رسول الله(ص)وخبره بقول الأنصاري وما شكا،وقال:إن أردت الدخول فاستأذن فأبى،فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله،فأبى أن يبيع،فقال:لك بها عذق يمد لك في الجنة،فأبى أن يقبل،فقال رسول الله(ص)للأنصاري:اذهب فاقلعها وارم بها إليه،فإنه لا ضرر ولا ضرار[1].

هذا وتعتبر قاعدة لا ضرر التي وردت الإشارة إليها في هذا الحديث،إحدى القواعد الفقهية الأساسية التي يعتمد عليها التشريع الإسلامي،ويرجع إليها الفقهاء في مقام استنباط الأحكام الشرعية ومعرفتها،بل بالغ بعض العامة فقال:إن الفقه يدور على خمسة أحاديث،أحدها حديث لا ضرر ولا ضرار[2].

وهي تشير إلى أن التشريع الإسلامي في خدمة الإنسان،وأنه ليس مصدر ضرر له،بل هو يمنع عن كل ما هو ضرري بالنسبة إليه.

لكن قد يقال بأن هناك أحكاماً كثيرة ثابتة في الإسلام،وهي ضررية من قبيل سلب حرية الزوجة من التزوج بزوج آخر،أو عدم جواز خروجها من البيت بدون إذن زوجها،وكذا لزوم دفع الحق الشرعي من المال كالخمس والزكاة،والإنفاق على الزوجة والأقارب وغير ذلك.

ولا ترتفع هذه الأحكام الثابتة في التشريع الإسلامي بقاعدة لا ضرر،مع أنها أمور ضررية على المكلف،بل هي ثابتة عليه مع كونها كذلك.

وهذا يعني أن الإسلام ضرري في كثير من أحكامه،وأنه يوقع أتباعه في الضرر،وهذا تشويه واضح لسمعة الإسلام النـزيه عن هذا وأمثاله،كما أنه ينفي كون التشريع في مصلحة الإنسان وخدمته.

هذا ولكي نستطيع الإجابة عن مثل هذا التساؤل،أو الشبهة التي ربما يثيرها أعداء الإسلام،الذين يسعون للنيل منه،نبدأ بالكلام عن هذه القاعدة بما يتناسب والمقام ثم نعرج على الإجابة عنه.

معنى الضرر والضرار:

اشتمل الحديث على كلمة(الضرر)وكلمة(ضرار)ولابد من توضيح المقصود منهما:

أما مادة الضرر فقد ذكر غير واحد أنه النقص في المال أو البدن أو العوض،وقد يقيد بما إذا كان النقص موجباً لوقوع الشخص في الضيق والشدة،فالتاجر الذي يملك الملايـين إذا ضاع منه بعض الريالات لا يصدق عليه أنه تضرر بخلاف ذلك في الفقير.

وهذا المعنى تشترك فيه الكلمتان،نعم الفرق بينهما هو أن كلمة الضرر اسم مصدر،وكلمة الضرار مصدر،ويعرف الفرق بين المصدر واسم المصدر بالمراجعة للكتب النحوية.

هذا والظاهر أنه لا يخصص النقص بخصوص الموارد الثلاثة التي ذكرت،بل يعمم إلى كل نقص في الحق،فمن كان له حق عقلائي وشرعي في قضية معينة فمنع عن ممارسته لحقه يكون ضرراً عليه.

فمثلاً من حق الشخص أن يعيش في داره حراً،والحيلولة دون ممارسة حقه ضرر.

ومن حق كل إنسان أن يمارس أي عمل شرعي كالتصدير والاستيراد وغير ذلك من الأعمال شرط أن لا يكون هناك خطر يترتب على المجتمع منها،ومنعه من ذلك ضرر.

حق الابتكار:

نعم هناك حقوق متداولة اليوم مثل حق الطبع والنشر وحق الاختراع وحق الابتكار،وأمثال ذلك،فهي إن ثبت أنها حقوق عقلائية وشرعية،كانت طباعة الكتاب تضيـيعاً لحق دار النشر والطباعة،فيكون ذلك محرماً.

أما لو منع عن كونها حقوقاً عقلائية وشرعية لأصحابها،فلا يترتب على الاستفادة منها ضرر حينئذٍ،فيقال بالجواز.

فقه الحديث:

وقع البحث بين علمائنا،في ما هو المقصود من قوله(ص):لا ضرر ولا ضرار،وماذا تريد أن تبين؟…

ذكرت عدة احتمالات في معنى الحديث،نقتصر على ذكر ثلاثة منها:

الأول:إن المقصود من الحديث،هو أن كل حكم ينشأ منه الضرر على المكلف فهو مرفوع وغير ثابت في الشريعة،فالوضوء مثلاً واجب على المكلف إذا أراد الصلاة،لكن إذا ترتب على استعمال الماء ضرر على المكلف كانت وظيفته حينئذٍ هي التيمم،ولم يجز له الوضوء.

وكذا يجب على المكلف الصوم في شهر رمضان،لكن لو ترتب على صومه حصول ضرر له كمرض مثلاً لم يجز له الصوم.

وأيضاً يحرم حلق اللحية،لكن لو ترتب على بقائها ضرر على المكلف لم يحكم حينها بالحرمة.

وهكذا في كشف المرأة عورتها أمام الطبيب من أجل العلاج،أو من أجل التلقيح الصناعي،أو من أجل الولادة،فإنه في جميع هذه الموارد إذا ترتب على عدم الكشف الضرر،يحكم حينها بالجواز،وأمثال ذلك كثير يجده المتـتبع في الفقه.

وبكلمةٍ،كل حكم شرع في الإسلام فهو ثابت ما دام لا يلزم من ثبوته ضرر على المكلف،ومتى لزم منه الضرر وفي أي فترة،فإنه يرتفع ذلك الحكم.

الثاني:إن المقصود من الحديث هو النهي عن الإضرار بالآخرين،وأنه يحرم ذلك،فالتعدي على شخص بالضرب محرم،لأنه إضرار به،والإهانة لشخصٍ محرمة لأنها إضرار به،ودخول سمرة بيت الأنصاري بدون استيذان منه إضرار له.

ومن أزعج الآخرين بصوت المذياع في منـزله أو في الطريق،فقد ارتكب محرماً لأنه إضرار بالآخرين،وهكذا.

وهذا يعني أن الحديث ليس ناظراً إلى الأحكام الشرعية،وأنها منفية في حالة لزوم الضرر.

الفرق بين الاحتمالين:

هذا ويفرق بين الاحتمالين الأول والثاني،،بأن الاحتمال الأول ناظر إلى نفي الأحكام الشرعية في حال ترتب ضرر على المكلف منها،ولا نظر فيه بالنسبة إلى الإضرار بالآخرين،بينما نظر الاحتمال الثاني إلى خصوص الإضرار بالآخرين،ولا نظر فيه إلى نفي الأحكام الشرعية التي يترتب على وجودها ضرر على المكلف.

الثالث من الاحتمالات:

هناك فقرتان في الحديث،فقرة(ضرر)وفقرة(لا ضرار)وكل واحدة منهما يمكن أن يستفاد منها غير ما يستفاد من الفقرة الأخرى،ولا ينبغي التعامل معهما بشكل واحد.

أما فقرة(لا ضرر)فيمكن أن يستفاد منها نفي كل حكم يكون ثبوته مستلزماً للضرر على المكلف،وأما فقرة(لا ضرار)فيستفاد منها النهي عن الإضرار وتحريمه.

الأحكام الضررية في الإسلام:

بعد الإحاطة بمفاد الحديث،نعود للتساؤل الذي سبق وطرحناه في بداية البحث،وحاصله:

إن في الإسلام أحكاماً كثيرة هي ضررية،ولا ترتفع بحديث نفي الضرر،بل هي ثابتة مع كونها ضررية،وهذا يعني أن الإسلام ضرري في كثير من أحكامه،وأنه يوقع أتباعه في الضرر،وهذا يشوه صورة الإسلام وسمعته.

المجتمع الإسلامي:

هذا ويتضح الجواب عن هذا التساؤل من خلال المثال التالي:

لو فرضنا أسرة كبيرة تعيش في بيت واحد،وكان رب الأسرة يشرف عليها ويدير أمرها بما يراه مناسباً وفيه الصلاح لها،فقال من باب الحفاظ عليها:

على الثري من أفراد الأسرة أن يدفع في نهاية كل عام جزءاً من الفائض عنده ليصرف في إصلاح شؤون الفقراء من الأسرة،أو ليرمم به البيت الذي تعيش فيه الأسرة،أو ليشترى به سيارة يستفيد منها كل أفراد الأسرة.

فهل يقال في مثل هذه الحالة،أن رب الأسرة قد أضر بحال من أخذ منه الأموال؟…

مع ملاحظة أن رب الأسرة لم يأخذ الأموال ليضعها في كيسه الخاص،بل أخذها لإصلاح شؤون الأسرة.

وهكذا لو فرض أنه قال:من أتلف أموالاً لغيره بعمد أو بغير عمد،فيلزم أن يدفع عوضها،أو قال:من جنى على غيره فللمجني عليه أو أوليائه الجناية بالمثل أو أخذ الفداء،هل يقال حينها أن أمثال هذه المقررات النظامية التي يصدرها رب الأسرة ضررية،أو أنها عين النفع والاستقامة التي ينتظم بها أمر المجتمع؟…

وهكذا إذا قال:كل من تلوث طعامه بالميكروبات فعليه عدم تناوله حفاظاً على صحته،هل يعد مثل هذا إضراراً بهم؟…

وهكذا إذا قال:على أفراد الأسرة القادرين على حمل السلاح مداهمة العدو والهجوم عليه بين آونة وأخرى حفاظاً على الأسرة منه،هل مثل ذلك يعد إضراراً بها؟…

وهكذا إذا قال:على كل واحد من أولادي المتزوجين سد حاجة زوجته وأطفاله،هل يعد مثل ذلك إضراراً؟…

وهكذا إذا قال:كل من التـزم على نفسه بقضية معينة فعليه الوفاء بالتـزامه،وإذا لم يفِ فعليه دفع غرامة معينة،هل ترى مثل ذلك إضراراً؟…

وهكذا إذا قال:كل من خالف المقررات المرسومة لصالحه عزر،أو سجن لفترة تأديباً،أو يلزمه دفع غرامة معينة،هل يعد مثل ذلك إضراراً؟…

وهكذا إذا قال:على التلاميذ إطاعة المعلم،وعلى الأولاد إطاعة أوامر أبيهم،وعلى الزوجة إطاعة أمر زوجها،هل مثل ذلك يعد إضراراً؟…

إننا إذا قبلنا عدم كون مثل هذه القوانين إضراراً بأفراد الأسرة،أو هي بالأحرى ليست إضراراً بالنظرة العقلائية وبلحاظ القيم العقلائية التي يسمو الإنسان إلى تحقيقها،فلماذا لا نقول مثل ذلك في الإسلام؟…

إن الإسلام ينظر إلى المجتمع الإسلامي كأسرة واحدة،والشارع المقدس هو المشرف على مصالحها،وقد أشار لذلك النبي(ص)بقوله:مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم،كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.

فالقوانين الإسلامية الواردة في الزكاة والخمس والجهاد،والإنفاق على الزوجة والأقارب والضمان والحدود والديات والتعزيرات والقصاص،ترجع مصالحها إلى المجتمع الواحد،فكيف تكون إضراراً؟…

وهكذا الحج الذي يلتقي فيه المسلمون بعضهم ببعض،فيحصل التعرف بينهم لحل مشاكلهم،وعلاج قضاياهم العامة في كافة المجالات،كما يعود بالنفع المادي على ساكني أرض مكة المكرمة،ويستفيد من خلاله الفقراء بالذبائح،ويتم التعرف فيه على مهد الرسالة ومهبط الوحي ونزول الأمين جبرئيل،ويكون المؤمن في أشرف بقعة ليزداد علاقة واتصالاً بالله سبحانه،هل في مثل ذلك ضرر؟…

والإنصاف أننا لو أردنا تأسيس مجتمع مثالي يعيش في المدينة الفاضلة،لما عدونا مثل هذه القوانين.

ولهذا لا نرى وجهاً للقول بأن التشريعات الإسلامية ضررية،لأن العقلاء يرون أن لها نفعاً،يعود إما للفرد،أو للمجتمع.

وعلى فرض كونه ضرراً بحسب المعنى اللغوي،إلا أن العقلاء لا يقبلونه،ولا يعتنون به.

ضرر الإنسان لنفسه:

بقي أن نشير في الختام،إلى مسألة إضرار الإنسان بنفسه،وهو يتصور على أقسام:

الأول:أن يكون الإضرار بالنفس بدرجة كبيرة توجب الموت،ولا إشكال في حرمة مثل ذلك،لقوله تعالى:- (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)[3].

الثاني:أن يكون بدرجة أقل من بلوغه مرحلة الموت،كقطع الإنسان يده أو رجله،أو قلعه لعينه مثلاً،وهذا الظاهر فيه أنه مبغوض شرعاً،فيحكم بحرمته.

الثالث:أن يكون مغايراً للقسمين السابقين،لكونه أخف درجة منهما،كالضرر الحاصل من التدخين،أو الضرر الحاصل من استعمال الماء للمريض،وأمثال ذلك.

وهذا بحسب الظاهر،لا يوجد دليل يستفاد منه الحكم بحرمته،ولذا يحكم بعدم الحرمة فيه،والله العالم.

——————————————————————————–

[1] وسائل الشيعة ب 12 من إحياء الموات ح 3.

[2] تنوير الحوالك للسيوطي ج 2 ص 122.

[3] سورة البقرة الآية رقم 195.