29 مارس,2024

حكم الحج ومصالحه (3)

اطبع المقالة اطبع المقالة

التزام المستجار:

فقد ورد في السنة الشريفة،وثبت في الفقه أنه يستحب للفرد الحاج أن يلتـزم المستجار ويلصق جسمه به ويعترف أمام الله سبحانه بذنوبه.

ومن الواضح الأكيد،أن الاعتراف بالذنب فضيلة،وأنه سبب للغفران،وأنه سبب الخشوع والخضوع والذلة التي يريدها الله عز وجل لعبده أمامه في ذلك الموقف.

يكفي أن نسمع هذه الأدعية الواردة التي يقولها الفرد هناك:اللهم البيت بيتك،والعبد عبدك،وهذا مقام العائذ بك من النار.ثم يقول الإمام(ع)في الرواية:ثم أقرّ لربك بما عملت فإنه ليس من عبد مؤمن يقرّ لربه بذنوبه في هذا المكان إلا غفر الله له إن شاء الله،وتقول:اللهم من قبلك الروح والفرَج والعافية،اللهم إن عملي ضعيف فضاعفه لي واغفر لي ما اطلعت عليه مني وخفي على خلقك.قال:ثم تستجير بالله من النار.

السعي:

قال تبارك وتعالى:- (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم)[1].

فقد سماه الله تعالى طوافاً بالجبلين،كما أن ذلك الطواف طواف بالكعبة المشرفة،ونفي الجناح عن هذا الطواف وهو يعني المطلوبية،فإن كان الحج أو العمرة واجبين كان واجباً وإن كان مستحباً كان مثله،وهو قوله تعالى:- (ومن تطوع خيراً)يعني استحباباً.

وهذا السعي يمثل السعي في حدود الشريعة الإسلامية والأوامر الإلهية التي هي حدود الله.

فالفرد المؤمن ملتـزم بتعاليم الله مقتصر عليها متردد في سلوكه ضمن حدودها،فإن حام حول الشبهة رجع إلى الشريعة،وإن ارتكب مخالفة لجأ إلى التوبة وإن شط به المزار ذكر الله فإذا هو مبصر.

وفي السعي جانب آخر مهم وهو الأسوة الحسنة والإقتداء الجميل والمواساة لما فعلته أم إسماعيل(ع)حين عاشت أياماً في وادٍ غير ذي زرع عند بيت الله المحرم،حيث سعت بين هذين الجبلين من أجل أن تبحث عن أحد تعرّفه أمرها وتشكو إليه بثها،فلم تجد،فكررت ذلك حتى تم لها سبعة أشواط،كما نصت عليه الروايات.

فعن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله(ع)قال:إن إبراهيم(ع)لما خلف إسماعيل بمكة عطش الصبي،وكان فيما بين الصفا والمروة شجر،فخرجت أمه حتى قامت على الصفا فقالت:هل بالوادي من أنيس؟فلم يجبها أجد،فمضت حتى انتهت إلى المروة،فقالت:هل بالوادي من أنيس؟فلم يجبها أحد،ثم رجعت إلى الصفا،فقالت كذلك حتى صنعت سبعاً،فأجرى الله ذلك سنة،الحديث[2].

وهناك جانب آخر مشار إليه في الروايات من مصالح السعي يحتوي على ذلة وكفكفة من غلواء النفس،وخاصة في الهرولة المستحبة في بعض ذلك الطريق.

فعن معاوية بن عمار قال:قال أبو عبد الله(ع)ما لله تعالى منسك أحب إلى الله تبارك وتعالى من موضع المسعى وذلك أنه يذل فيه كل جبار عنيد[3].

وعن أبي بصير قال:سمعت أبا عبد الله(ع)يقول:ما من بقعة أحب إلى الله عز وجل من المسعى لأنه يذل فيه كل جبار[4].

طواف النساء:

ولا يـبعد أن يكون له شكل من أشكال الاستقلال عن الحج…لأننا قد نلتـزم بصحة الحج مع نقصانه وتركه،كل ما في الأمر أن الإشباع الجنسي يكون محرماً على الفرد رجلاً كان أم امرأة،صبياً كان أم بالغاً.

إذن فهذا الطواف،شكل من أشكال التعبد الشرعي الذي جعلته الشريعة سبباً لحلية الجنس الآخر،وليس لاصقاً بالحج ذلك اللصوق كطواف الحج مثلاً.

ومن أدلة ذلك،أنه يأتى بطواف النساء بعد الإحلال من الإحرام،بينما لا يجوز الإتيان بالسعي والطواف بقسميهما الآخرين إلا بالإحرام.

الموقفين:

وهما موقف الحاج في عرفات والمشعر الحرام،وهذان الموقفان يعطيان شعوراً موحداً ورمزاً مشتركاً،وفي تكرار هذا الشعور مزيد من التأكيد على أهميته وترسيخ فكرته في نفوس المسلمين.

إن هذين الموقفين هما الفرصة الأساسية لإطلاع كل فرد من الحجاج على إخوانه في الله والمساهمين معه في إجابة ندائه.

فإن الحاج في سائر أعماله-عدا الموقفين-لن يستطيع أن يحتك بهذا الجمع الغفير المتلاطم ويحس عن قرب بالعدد الضخم العامل في سبيل إطاعة ربه وأداء فريضة حجه.

إن الحجاج يكونون عادة في العمرة،وفي الطواف،وفي السعي،وفي رمي الجمرات،وغيرها من الأعمال،متفرقين مشتـتين،لا يؤدون العمل في زمان واحد،ولا يجتمعون على صعيد واحد….إلا في أرض عرفات وأرض المشعر.

فما هو شعور الفرد المسلم عند مواجهة إخوانه وما أعظم الحكم الإسلامي وما أكبر نداء الإسلام الذي يستطيع أن يجمع هذه الآلاف في هذا العام وفي كل عام.

وما أعظم الأخوة التي تشدّ بعضهم إلى بعض،بالرغم من تباعد البلدان وتشتت اللغات،إنها أخوة الهدف والعمل والعقيدة،وهي أقوى الأخوّات وأرسخها في منطق الإنسانية والتاريخ.

ثم ما أثمن هذه الأرض المقدسة التي شهدت جهود النبي(ص)وأصحابه وابتهالاتهم الصادقة المخلصة،وشهدت ابتهالات القرون المتوالية وجهودها المتواصلة.

ولو كان الموقف واحداً،لأعطي هذا الرمز المقدس الكبير،ولكن المسلمين في هذا العام وفي كل عام،لا يقتصرون على التجمهر في عرفات،بل يدفعهم النداء الإلهي المقدس إلى الإسراع خلال الليل البهيم ليلبوا الواجب المقدس في أرض المشعر الحرام،لكي يعطوا تأكيداً جديداً للإحساس الإسلامي العميق،ولكي يجددوا بابتهالاتهم المتصاعدة الأمل الكبير في غفران الذنوب وستر العيوب وحل المشكلات.

ويمكننا أن نضيف إلى ذلك،الفرق الذي يمكن أن نعرفه بين الموقفين،وهو يتلخص في أمرين:

الأول:أن أرض المزدلفة توصف بالمشعر الحرام،بخلاف أرض عرفات ومنى،فإنها ليست حراماً،بالرغم مما عرفنا من اندراج كل هذه المناطق في الحرم المكي نفسه.

وهذا يعني أن للمشعر حرمة إضافية غير حرمة الحرم المكي،لا تـتصف بها سائر مناطقه،بما فيها عرفات ومنى.

ويمكن قياس هذه الحرمة المعنوية الإضافية على حرمة الكعبة نفسها،لأنها هي البيت الحرام،وهي حرمة زائدة على حرمة الحرم،بل قد أصبح الحرم حراماً من أجلها،فهي المركز والباقي شعاع له وانتشار منه.

وهذا فرقه عن حرمة المشعر الحرام التي لا نجد لها شعاعاً خارجها،مع اشتراكهما في كونها حرمة معنوية وقدساً إلهياً متعالياً.

الثاني:الفرق بين المنطقتين،بمقدار ما يدل عليه الاسم،المشعر وعرفات.

هذا ويمكن أن تعلل التسمية،بلحاظ ما تعطيه المنطقة من نـتائج،فعرفات مشتقة من المعرفة،فالوقوف فيها يعطي المعرفة،والمشعر مشتق من الشعور،فالوقوف فيها يعطي الشعور،وهذه المعرفة والشعور أمران سامقان في درجات الإيمان لا يمكن أن يعرفهم إلا من ذاق طعمهما.

منى:

وهي الأرض المقدسة الأخرى،التي تؤدى فيها شعائر عيد الأضحى المبارك،وينحل فيها القسم الصعب من شرائط الحج.

وقد ورد في سبب تسميتها منى،وهي أنها السبب في إعطاء مُنى الإنسان وأمنياته من قبل الرب الغفور الرحيم.

فعن معاوية بن أبي عبد الله(ع)قال:إن جبرئيل أتى إبراهيم(ع)فقال:تمن يا إبراهيم،فكانت تسمى منى فسماها الناس منى[5].

وعن محمد بن سنان أن أبا الحسن الرضا(ع)كتب إليه العلة التي من أجلها سميت منى،منى:إن جبرئيل(ع)قال هنالك:يا إبراهيم تمن على ربك ما شئت،فتمنى إبراهيم في نفسه أن يجعل الله مكان ابنه إسماعيل كبشاً يأمره بذبحه فداء له،فأعطي مناه.

ونلاحظ هنا أن هذا المعنى يدعم ما هو المشهور من ضم الميم في(منى)وليس بالكسر،كما هو المعتقد بأنه أقرب للفصحى،لأنه بالكسر لا يـبقى له معنى،بخلاف الضم،فإنها تصبح،أرض المنى والأمنيات،وما أكثر الأمنيات التي نتمناها على الله سبحانه وتعالى.

عيد الأضحى:

وقبل الحديث عنه نمهد بمقدمة،فنقول:

تقوم فكرة الأيام المهمة في الدين،على أحد أسس ثلاثة تنقسم الأيام باعتبارها إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول:الأيام التي تكتسب أهميتها باعتبار أن حادثة مهمة قد وقعت فيها…..كولادة النبي(ص)وولادة أمير المؤمنين،أو أحد الأئمة المعصومين(ع)ووقعة بدر ويوم المعراج،ويوم الغدير،ونحو ذلك.

فهذه هي أيام المناسبات التي تعطي للمسلمين بتجدد الذكرى كل عام،ما يمكن أن تعطيه من إلهام مقدس لكل فرد مسلم بمقدار حاله ومستواه.

القسم الثاني:الأيام التي تكتسب أهميتها باعتبار كونها وقتاً لأداء عبادة كبيرة في نظر الشريعة،ومن أهم أمثلة ذلك:ليلة القدر في شهر رمضان المبارك،بل أيام الشهر كله،وكذلك يوم عرفة في الحج،فإنها واقعة في بحران العبادة وقمة اندفاع المكلف في التوجه إلى ربه والتوسل إليه.

القسم الثالث:الأيام التي تكتسب أهميتها باعتبار كونها أول يوم تقريـباً لفراغ المكلف من عبادة مهمة في الإسلام.

فإنه من الوجداني المحسوس أن أداء أي واجب أو مطلوب يقوم به الإنسان يعطي راحة محببة واطمئناناً للضمير وشكراً لله على حسن التوفيق.

وكلما كبرت العبادة وازدادت أهميتها،ازدادت أهمية الفراغ منها،حتى يمكن أن يصل هذا الشعور إلى حدٍ يستحق أن يكون عيداً إسلامياً ينص عليه في الشريعة ويحتفل به المسلمون على طول العصور.

وأهم مثال لذلك:عيد الفطر الذي يأتي بعد الانتهاء من فريضة الصوم خلال شهر كامل،وعيد الأضحى يأتي بعد الانتهاء من الأجزاء الأساسية من الحج،وهما الموقفان:في عرفات والمشعر الحرام…وبالتالي كأن الحاج قد انتهى من حجه بشكل وآخر.

وليس من الصدف أن يقع عيد الفطر بعد ليلة القدر،وأن يقع عيد الأضحى بعد يوم عرفات،بعد أن عرفنا كيف أن ليلة القدر واقعة في قمة أداء العبادة وعيد الفطر واقع في الانتهاء منها،كما أن يوم عرفة واقع في موقف من أهم مواقف الحج،يليه فجر اليوم العاشر الذي هو وقت الوقوف بالمشعر،وهما قمة أداء هذه العبادة:الحج،فيكون عيد الأضحى منذ طلوع شمسه واقعاً عند الانتهاء منها.

الهدي:

يمثل الهدي،وهو التقرب إلى الله عز وجل بالذبح والنحر،عدة معاني سامية يكفي كل منها أن يكون سبباً لتشريع هذه العبادة الجليلة فضلاً عن مجموع المعاني:

أولاً:هو نوع من التضحية المالية في سبيل الله عز وجل،شأنه في ذلك،شأن الزكاة والخمس،بل والحج نفسه بما يكلف الحاج من أموال.

ثانياً:هو نوع من التضحية بالدم الذي يعطي رمزية عن التضحية في سبيل الله بالنفس والنفيس،فإنه ليس لدماء الأنعام أهمية تذكر لولا نتائجها والأفكار الدالة عليها،قال تعالى:- (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم)[6].

ثالثاً:هو من التضحية بالدم كرمز عن التضحية بالشهوات والمطامع والمطامح الدنيوية والدنيئة في سبيل الله سبحانه،فإن المهم الحقيقي هو أن يذبح الفرد نفسه الأمارة بالسوء تجاه قدس الله عز وجل وعظمته،تلك النفس التي تكون سبباً لكل عصيان وطغيان،ويكون القضاء عليها سبباً لكل خير وكمال.

رابعاً:فيه أسوة للطريقة التي كانت معروفة قبل الإسلام من التضحية لله عز وجل بالأنعام،ومن أشهرها القربان الذي قربه ابنا آدم(ع)أبو البشر:- (فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر)[7].

وتدل الآية الأخرى على أن هذه العادة استمرت ردحاً طويلاً من الزمن،وهو قول اليهود لنبي الإسلام(ص)الذي حكاه القرآن الكريم:- (إنا الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم)[8].

حيث أنها تدل على تحقق ذلك في العصور المتأخرة عن آدم(ع).

خامساً:لا شك أننا إذا أردنا احترام شخص عظيم اجتماعياً نحرنا له الذبائح احتراماً له أو فرحاً بقدومه أو شكراً له على بعض المراحم أو لغير ذلك من المقاصد.

وإذا تم ذلك اتجاه العظماء،كان ذلك أولى بالصحة والصدق تجاه خالق العظماء وعظيم العظماء.

سادساً:إن في هذا الذبح مساعدة للفقراء الذي يغلب عليهم صعوبة الحصول على اللحم خلال دهر طويل.

وقد وردت هذه الفكرة في هذه الرواية،فعن السكوني عن جعفر بن محمد عن آبائه قال:قال رسول الله(ص):إنما جعل الله هذا الأضحى،لتنفع مساكينكم من اللحم فأطعموهم[9].

وقد عبر خبر آخر عن فكرة أخرى وهو ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله(ع)،قال:قلت له ما علة الأضحية؟فقال:إن الله تعالى يغفر لصاحبها عند أول قطرة تقطر من دمها إلى الأرض،وليعلم الله تعالى من يتقيه بالغيب،قال الله تعالى:- (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم)،ثم قال:انظر كيف قبل الله قربان هابيل ورد قربان قابيل[10].

سابعاً:إن في هذه الأضحية دفعاً للبلاء،بحسب ما يرى الفرد أنه متورط به،وأحسن دليل على ذلك،كيف أنه اندفع الذبح عن إسماعيل(ع)وعبد الله والد النبي(ص)بالفداء،فإسماعيل فداه الله بذبح عظيم كما نص القرآن الكريم،وعبد الله فداه جده بمائة ناقة كما في قصة ذبحه المعروفة.

فإذا فعل الحاج ذلك دفع البلاء عن نفسه،بمقدار ما يريد،سواء كان منه البلاء المادي،أو المعنوي.

هذه وجوه سبعة ذكرناها،ولعل هناك وجوه أخرى لم نحط بها،والله سبحانه وتعالى الهادي والموفق إلى سواء السبيل.

الحلق والتقصير:

وهذا هو الواجب الثاني بعد الهدي الذي يجب القيام به في منى يوم عيد الأضحى المبارك،وبالإتيان به ينـتهي القسط الأكبر من محرمات الإحرام وتكاليفه،وهو يوجب تحلل الفرد من إحرامه،ولا يـبقى عليه إلا خصوص الطيب والنساء.

وله عدة معان مهمة:

الأول:أن الحلق هو أول فعل يقوم به الحاج،حينما يريد أن يتحلل من إحرامه،فإن الإحرام بعد أن كان يحتوي على جملة من الممنوعات،كان التحلل منه لا محالة بالإتيان بإحدى تلك الممنوعات،المحللة في أصل الشريعة على الآخرين،للدلالة على عدم الالتزام بالإحرام من الآن فصاعداً،وقد اختار الله تعالى لعباده الحجاج الحلق والتقصير ليكون قائماً بهذه المهمة.

الثاني:إننا حين نـنظر إلى الشعر وإلى حلاقته،نجد له معانٍ متعارفة عند الناس يمكن تطبيق أي منها على المفهوم الشرعي،ونعطي لكل واحد منها رقماً من المصلحة.

فمن ذلك:أن الشعر يعتبر جمالاً للإنسان وتكون حلاقته،نوعاً من الزهد والإعراض عن الدنيا.

الثالث:أن الشعر قد ينظر إليه على أنه نوع من الوسخ والإزعاج فيكون حلقه أو تقصيره تنظيفاً وتجملاً،ولطالما أمرت الشريعة بالنظافة والتنظيف.

الرابع:أن الحلق قد ينظر إليه في بعض الأعراف كعقوبة على بعض أفعال الإجرام،ومن هنا يكون الحلق في الحج رمزاً على الاعتراف بالذنب واستحقاق العقوبة،بل من قبيل إنـزال الفرد العقوبة على نفسه اختياراً.

الخامس:إن الحلق إنقاص من جمال الجسم،فيكون مندرجاً في مفهوم ضرورة إنقاص الشهوات واللذات الدنيوية ومحاربة النفس الأمارة بالسوء.

ويخـتلف هذا الوجه عن الثاني،بأنه يحتوي على محاربة النفس الأمارة،وليس لمجرد الزهد المستحب.

وقد يعرض هذا الوجه بتوجيه آخر،وهو أن الحلق يعتبر بتراً لجزء من الجسم،فكذلك يجب بتر الشهوات السيئة،كما يجب أيضاً بتر الأعضاء المذنبة من الجسم كيد السارق وبتر العضو الفاسد في المجتمع.

السادس:إن الحلق يكون خلال هذه العصور للجنود عند أول تجنيدهم،فيكون الحلق في الحج دليلاً ورمزاً على استعداد الفرد للتجنيد لطاعة الله وتفريغ الجسم والنفس لذلك سواء على المستوى الفردي أم المستوى الاجتماعي أم غيرهما.

وهذه الوجوه التي ذكرناها لا ندعي حصر المصلحة المتصورة فيها دون غيرها،بل ربما هناك وجوه أخرى لم نتوصل إليها يصل إليها الحاج المتأمل في تلك المناسك إن شاء الله تعالى.

رمي الجمرات:

إذا كانت الكعبة المشرفة هي الرمز المادي لتوحيد الله تعالى،وكان الطواف واستلام الحجر،هو العمل الأساسي الذي يمثل الإخلاص له،وجعل توحيده المركز الحقيقي للإحساس والسلوك في كل أيام الحياة.

فما أحرى أن يكون هناك رمز آخر يضاد هذا الرمز ويناقضه،ولئن كانت الكعبة مستقطبة لكل معاني الخير العدل،باعتبارهما المنـتوجين الأساسيـين لعقيدة التوحيد،فإن الرمز الآخر لا بد أن يستقطب كل معاني الشر والظلم،باعتبارهما المفتوحين الأساسيـين لما ترمز إليه الجمرة،وهي فكرة الشيطان.

ولئن كان الطواف تعبيراً عن الولاء للخير والعدل،وإظهاراً عملياً لتأيـيدهما،فإن رمي الجمرة بالحصى هو العمل المهم في إظهار الشجب والاستنكار العملي للشر والظلم،وبشجبهما يفهم الفرد بوضوح شجب كل فكرة ناتجة عنهما أو عمل مترتب عليهما من الكفر والضلال والعصيان والفسق والانحراف،وما تستـتبعه هذه الأمور من ذنوب وموبقات.

على أننا لا يجب أن نغفل بهذا الصدد،فرقاً أساسياً،بين هذين الرمزين المستقطبين،فالكعبة بما أنها رمز عن الله سبحانه وعن توحيده إذن فيجب أن يـبقى الرمز واحداً لا يتعدد.

على حين أن الجمرة،بما هي رمز عن الشيطان،والشياطين كثيرون بنص القرآن الكريم،فقد ناسب أن يتعدد الرمز بتعدد المرموز إليه.

فمن هنا نستطيع أن نعزو تعدد الجمرات إلى الرمز عن تعدد الشياطين،كما يمكن أن تعزى إلى تعدد وجهات الفساد والظلم الصادرة عن الشيطان.

ونستطيع أن نلاحظ في هذا الصدد،أن القسط الواجب من إظهار الولاء لله عز وجل بالطواف يعادل في العدد تقريـباً ما تناله كل جمرة من دفعات الاستنكار والرمي،فالطواف الواجب ثلاثة:طواف العمرة وطواف الحج وطواف النساء.

وعدد دفعات الرمي لغير جمرة العقبة ثلاث أيضاً،مرة في اليوم الحادي عشر من شهر ذي الحجة،ومرة في اليوم الثاني عشر،ومرة في اليوم الثالث عشر على تفصيل فيه يلحظ في الفقه.

والرمي في جمرة العقبة ثلاث أيضاً لمن خرج من منى في النفر الأول،وهو اليوم الثاني عشر….وهي أربع لمن بقي للنفر الأخير،أي اليوم الذي يليه،فتـزيد على أختيها بمرة واحدة هي المرة التي ترمى يوم العيد،لأنها أهم منهما.

كما أننا إذا لاحظنا عدد أشواط الطواف وعدد الحصى المرمي في كل جمرة لرأيناه متحداً أيضاً،وهو السبعة في كلا الحالين،فنفهم من ذلك معنى مهماً وهو:أن الوازع إلى الله تعالى والوازع عن الشيطان يجب أن يكونا متعادلين في نفس الإنسان متعاونين في تربيته وكماله،وأي منهما نقص عن الآخر،كان في ضرر الفرد لا محالة.

ولعل من الطريف أن نلاحظ تشريعاً بسيطاً في الحج،لا يكاد يكون ملفتاً للنظر في ذلك الخضم الهائل من الأعمال المتواصلة،وهو استحباب جمع الحصيات من أرض المشعر الحرام،لاستعمالها في رمي الجمرات.

إن هذا ليعطي رمزية كاملة وواضحة عن أن الفرد يجمع سلاحه ضد الشيطان من بقعة إلهية مقدسة من أرض الله تعالى،وهذا صادق دائماً على المستوى الدنيوي والأخروي،المادي والمعنوي.

ولعل من المستطاع أن تستفيد رمزية الجمرة عن الشيطان من تسميتها بهذا الاسم نفسه،باعتبار أن الجمرة من النار،وخلقة الشيطان من النار كما نص عليه القرآن الكريم.

ولا يخفى ما في تشريع رمي جمرة العقبة،التي هي أهم رموز الشيطان،في يوم الضحى المبارك،وتجمهر المسلمين حولها طول النهار راجمين مستنكرين،لا يخفى ما فيه من الإعلان الواضح على رؤوس الأشهاد عن هذا المعنى الجليل،وهو استنكار الشيطان وشجب أعماله ومغرياته من قبل جميع المسلمين.

هذا وقد قيل أن السبب في رمي الجمار يعود إلى استمرار إسلامي لرجم قبر أبي رغال،الذي دل أبرهة الأشرم على مكة عندما قصد هدم الكعبة المشرفة.

وقد رجمت العرب قبر أبي رغال،وأقرّ الإسلام ذلك الرجم فأصبح بشكله الجديد رمياً للجمرات.

وهذا الرأي يمكن المناقشة فيه من عدة جهات:

الأولى:إن التواريخ ذكرت أن العرب رجمت قبر أبي رغال وقد بعثـته ثقيف ليدل أبرهة الأشرم على الطريق حتى أنزله بالمغمس،فلما نزل مات أبو رغال،فرجمت العرب قبره،فهو القبر الذي يرجم.

وهذا ليس له أي ارتباط برمي الجمرات،ولم يذكر المؤرخون ذلك،مضافاً إلى أن أبا رغال مات في المغمس بين الطائف ومكة،لا في منى حتى يقال:إن الرمي فيها استمرار لذلك الرمي.

الثانية:مع التسليم بكون أبي رغال قد دفن في منى،وأنه رجم فيها،فليس له إلا قبر واحد،ومنطقة واحدة،على حين أن الجمرات ثلاث،فما هو السبب في وجود الاثنين الآخرين.

الثالثة:مع صحت القصة المذكورة بكل التفاصيل التي تذكر لها،فهي مما يؤيد ما ذكرناه،من أن النصب الذي يرميه الحجاج هو رمز للخيانة،والخيانة في واقعها أحد مسببات الشيطان وأحد الأفعال المنحرفة للنفس المارة بالسوء.

ومعه يكون الأنسب للذهن أن يخرجها من هذه الدائرة الضيقة ويجعلها رمزاً للشيطان بكل منـتوجاته وللنفس الأمارة بالسوء بكل أفعالها وأشكالها،ليكون رميها استنكاراً لكل ذلك لا للخيانة وحدها.

وعلى أي حال فتطبيق رمي الجمرات على قصة أبي رغال مما لا يصح.

نعم الوجه الصحيح والمشهور بين المسلمين هو ما ذكرناه من رمزيتها عن الشيطان،ويكون هو الجواب التام عن الوجه في تعدد الجمرات وتعدد الرمي.

وهذا المعنى الرمزي الذي أشرنا له هو الوارد عن أهل البيت(ع)،وعلى هذا فالشيطان هو الجدار المضروب بالحصى،وأما الحصى نفسه،فهو السلاح المقدس الوارد من أرض الله الحرام(المشعر)لمكافحة الشيطان.

——————————————————————————–

[1] سورة البقرة الآية رقم 158.

[2] علل الشرائع ص 432.

[3] المصدر السابق.

[4] المصدر السابق.

[5] علل الشرائع ص 435.

[6] سورة الحج الآية رقم 37.

[7] سورة المائدة الآية رقم 27.

[8] سورة آلا عمران الآية رقم 183.

[9] علل الشرائع ص 437.

[10] المصدر السابق.