29 مارس,2024

تكليف الكفار بالفروع

اطبع المقالة اطبع المقالة

المشهور بين  الخاصة والعامة أن الكفار مكلفون بالفروع كتكليفهم بالأصول .بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه .ونسب الخلاف إلى أبي حنيفة من العامة والمحدث الكاشاني وصاحب الحدائق وبعض المتأخرين من الخاصة             
                                                                             
ولا بأس قبل بيان ما هو الحق من نقل بعض كلمات الأعلام فنقول :   
                               
قال في الخلاف: مسالة97:

 أرتد الإنسان ثم حال عليه الحول ……وأيضا جميع الآيات المتناولة لوجوب الزكاة تتناول الكافر   والمسلم فمن خصها فعليه الدلالة .[1] وتعرض للمسألة في النهاية [2]، والمبسوط[3]، أيضاً. 

وقال في الشرايع: والكافر تجب عليه الزكاة لكن لا يصح منه أداؤها[4].
وقال في المعتبر: تجب الزكاة على الكافر إن لم يصح منه أدائها إما الوجوب فلعموم الأمر …الخ…[5]. 
وقال في التذكرة: أما الكافر فان الزكاة وان وجبت عليه عندنا لأنه مخاطب بالفروع …الخ…[6].
 وبالجملة المشهور بيننا بل المجمع عليه بين قدماء الأصحاب كون الكفار مكلفين بالفروع .

وقد بدأ الخلاف مع ظهور المدرسة الإخبارية[7]، فبدأ ذلك من قبل الأمين الاسترابادي(ره)، كما جاء في الفوائد المدنية، إذ قال:
ومن بعده ألتـزم بذلك الفيض الكاشاني في غير واحد من كتبه، فقد ذكر في الوافي:
وكذا كان هذا هو مختار صاحب الحدائق(ره) في كتابيه الحدائق والدرر، فقد ذكر في الحدائق:

وجاء في الدرر:

ولم يكن لهذا القول وجود في الحركة الأصولية حتى توقف في ذلك المحقق السبزواري(ره)، كما في ذخيرة المعاد.
ولم يجدد القول بهذا القول حتى عصر بعض الأعاظم(ره)، إذ أحيى القول بعدم ثبوت تكليف الكفار في الفروع، وتبعه على ذلك غير واحد من تلامذته.

تحرير محل النـزاع:

وعلى أي حال، فيقع الكلام في تحرير محل النـزاع وتحديد محله بين القائلين بثبوت التكليف للكفار بالفرع، والقائلين بعدمه، فهل هو واقع بينهم في مطلق الأحكام الفرعية من دون فرق بين كونها أحكاماً فرعية عقلية يستقل العقل بها، فيحكم بالمنع عنها، أو يحكم بوجوب إيجادها، أو كانت أحكاماً فرعية شرعية، مما حكم به الشرع ابتداءً، أو أنه يختص محل النـزاع بخصوص الأحكام الفرعية الشرعية الصادرة ابتداءً من الشارع المقدس، من دون أن يكون للشرع مدخلية فيها، وبالتالي لا يكون محل النـزاع شاملاً للأحكام الفرعية العقلية؟

لا ريب في أن القائلين بثبوت التكليف للكفار بالكفار، كتكليفهم بالأصول لا يفرقون في ذلك بين كون الأحكام الموجودة أحكاماً فرعية عقلية، أم كانت أحكاماً فرعية شرعية، فالتكاليف ثابتة عليهم في كليهما.
ويظهر من إطلاق كلمات القائلين بعدم ثبوت التكليف للكفار في الفروع، عدم الفرق بين النوعين من الأحكام الفرعية، فلا يتوجه للكافر خطاب ولا تكليف في كليهما.

ووفقاً لما تقدم، يلزم أن يكون محل النـزاع بينهما في الثبوت وعدمه مطلقاً، لا أنه يجري في مورد دون آخر، كما لا يخفى.
إلا أن صاحب العناوين(قده)، أشار إلى اختصاص محل النـزاع بخصوص الأحكام الفرعية الشرعية الابتدائية، دون الأحكام الفرعية العقلية التي يستقل العقل بالحكم فيها[8].

ومقتضى كلامه(ره) التـزام القائلين بعدم ثبوت تكليف الكفار بالفروع بثبوتها عليهم في ما يستقل العقل بقبحه، فكل حكم عقلي فرعي يستقل العقل بالحكم فيه، لا يفرق في ثبوت الحكم به بين كونه مسلماً، وكونه كافراً، وكأن ذلك لكون الأحكام العقلية لا تقبل التخصيص أو التخصص، مضافاً إلى خضوع ذلك لمبدأ الحسن والقبح العقليـين، وهما لا يفرقان بين المسلم والكافر، فلاحظ.

وهذا الذي ذكرناه جزم به بعض الأعاظم(ره)، إذ خص محل النـزاع أيضاً بخصوص الأحكام الفرعية الشرعية الابتدائية، دون الأحكام الفرعية العقلية، فقال: أن محل الكلام في تكليف الكفار بالفروع إنما هي في الأحكام المختصة بالإسلام، وأما المستقلات العقلية التي يشترك فيها جميع أرباب الشرائع كحرمة القتل، وقبح الظلم، وأكل مال الناس عدواناً، فلا إشكال كما لا كلام في تكليفهم بها[9].

ووفقاً لما ذكره(ره) سوف يكون الكافر مؤاخذاً بما يستقل العقل بالحكم بقبحه، والمنع عنه، كما يؤاخذ بكل ما حكم الشارع بحسنه، وإلزامه به، ولا يؤاخذ بما كان مصدر ثبوته الشرع ابتداءً، فلاحظ.

وما أفيد من تخصيص دائرة محل النـزاع هو الصحيح، بحيث لا يكون شاملاً لما يستقل العقل بالحكم به، ويختص ذلك بما كان الحكم فيه من الشرع ابتداءً، ووجهه أن ما يحكم به العقل لا يتوقف التصديق به والقبول على التصديق بالرسول، وبالمرسل، وصدق الرسالة وما شابه، وإنما حجته هي الحجة الباطنة المشار إليها في غير واحد من الأدلة، فلاحظ.

وكيف كان فتحيق الحال في المسألة يستدعي التعرض لأدلة الطرفين وتمحيصها للخلوص إلى نتيجة تامة .فنقول ومنه نستمد التسديد والتوفيق للصواب :-

أدلة المانعين:   
   
استدل المانعون من ثبوت التكليف للكفار بالفروع، واختصاص ما توجه لهم من خطاب بخصوص الأصول، بأمور:

الأول: التمسك بالكتاب:

وهو قوله تعالى:- (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين)[10]. لدلالة الآية على اختصاص حرمة الزنا بخصوص المسلمين، مما يعني عدم توجه خطاب الفروع للكفار، توضيح ذلك: إن مقتضى ما دل على عدم جواز نكاح المسلمة للمشرك، والمسلم للمشرك،  يوجب أن يكون المقصود من النكاح الوارد في الآية الشريفة أمراً آخر غير العقد، وهو الوطء الخارجي، فتكون الآية مشيرة إلى ما هو المتعارف خارجاً بمقتضى قانون السنخية من أن الزاني لا يجد من يزني بها إلا زانية مثله، أو مشركة، فإن الطيور على أشكالها تقع، والجنس إلى الجنس يميل، وإلا فالمؤمنة لا تطاوعه على ذلك أبداً، وكذا الحال في الزانية، ثم قال تعالى:- (وحرم ذلك على المؤمنين)فخص سبحانه حرمة الزنا بالمؤمن دون الكافر، فيثبت اختصاص التكليف بالمؤمن دون الكافر[11].

وقد منع القول باختصاص حرمة الزنا بخصوص المسلمين، لوجهين:

الأول: دلالة جملة من الآيات القرآنية على حرمة الزنا على الكافر كحرمته على المسلم، فلاحظ قوله تعالى:- (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً)، فإن سياقه يكشف عن كون الخطاب مع المشركين. وكذلك ذكر في وصف عباد الرحمان في سياق الخطاب مع الكفار:- (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً)، وكذلك قوله تعالى:- (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، فإن القدر المتيقن من الفواحش هو الزنا.

الثاني: النصوص الكثيرة والتي تضمنت الإشارة إلى مفاسد الزنا، تكشف عن كون حرمته عامة شاملة لجميع الناس، ولا تختص حرمته بخصوص المسلمين فقط، ففي صحيحة الفضيل عن أبي جعفر(ع) قال: قال النبي(ص): في الزنا خمس خصال، يذهب بماءا لوجه، ويورث الفقر، وينقص العمر، ويسخط الرحمان، ويخخلد في النار، نعوذ بالله من النار.

وقد ورد التشديد في أمر الزنا، ففي معتبرة عبد الله بن ميمون القداح عن أبي عبد الله(ع) قال يعقوب لابنه: لا تزن، إن الطائر لو زنا لتناثر ريشه.
وجاء في معتبرة حنان بن سدير عن أبي عبد الله(ع) قال: سألته عن يهودي فجر بمسلمة، قال: يقتل. لدلالتها على حرمة الزنا على اليهودي، ولا أقل في مورد كون المزني بها امرأة مسلمة، فحكمه(ع) بلزوم قتله يكشف عن حرمة ذلك عليه، وإلا فلماذا يقتل لو لم يكن محرماً عليه[12].

والإنصاف عدم صلوح النقض بالآيتين الأولى والثانية، ضرورة أن الرجوع لسياقهما[13] يكشف عن كون الحديث فيهما كان مع المسلمين، خصوصاً الثانية منهما، فإنها بصدد الحديث عن صفات عباد الرحمان، ومن الواضح أن هذا أجنبي تماماً عما نحن فيه.
نعم يمكن القبول بالآية الثالثة، وإن كان في النفس من ذلك، فتأمل.

وأما ما ذكر من النصوص في الجواب، فلا ريب في كون أولهما أجنبي عن المدعى، ضرورة أنه ليس في مقام بيان شمولية حرمة الزنا للناس جميعاً، وإنما هو بصدد بيان الآثار الناجمة عن الزنا، من دون تعرض منه لكون الزنا محرماً على جميع الناس، أو على خصوص المسلمين، فلاحظ.
ومثل ذلك الثاني منهما، لأنه بصدد الحديث عن الآثار المترتبة على الزنا، والتشديد على خطورة فعله، وليس بصدد الحديث عن بيان توجه الحكم بحرمته لجميع الناس، ليكون شاملاً للكافر.

وأما الثالث، فإن التقريب المذكور وإن كان له وجه، إلا أنه يمكن البناء على الحكم بقتله لما في فعله من انتهاك لحرمة المؤمنين، وتعدي على حرماتهم، فتأمل. على أنه يمكن القول بكونه أجنبياً عن مقامنا، ضرورة أن بحثنا في الكافر والمشرك، والموضوع في النص المذكور هو اليهودي، وهو صاحب كتاب وشريعة، فلعل ما صدر منه(ع) من حكم بلزوم قتله كونه موافقاً لما جاء في شريعته، فلاحظ.

ولا يخفى أن تمامية دلالة الآية الشريفة على مدعى المستدل تعتمد على كون المقصود بالنكاح الوارد فيها هو الوطء الخارجي، وليس العقد، وهذا يعني أن في كلمة النكاح الواردة فيها احتمالان:

الأول: ما يظهر من غير واحد من المفسرين، كالسيد العلامة الطباطبائي(ره) في تفسيره القيم الميزان[14]، وحاصله: أن يكون المقصود منه هو العقد، وعندها سوف يكون المستفاد منها حكماً تشريعياً تحريمياً يفيد عدم صحة زواج الزناة المسلمين إلا من أمثالهم، أو من المشركين، فالزاني والزانية المسلمان لا يتزوجان إلا من مثلهما، أو من مشركة ومشرك، وتخصيص الزناة بالمسلمين، مستفاد من المقابلة بالمشرك أو المشركة في الآية. ووفقاً لهذا الاحتمال يكون المقصود من المؤمنين في ذيل الآية هم المسلمين الذين لا يفعلون الزنا، أو غير المشهورين به.

ويشهد لهذا الاحتمال جملة من النصوص، بينها ما هو معتبر السند، تضمنت أن المقصود من النكاح الوارد فيها، هو العقد، ففي صحيحة زرارة قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن قول الله عز وجل:- (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة)، قال: هن نساء مشهورات بالزنا، ورجال مشهورون بالزنا شهروا وعرفوا به، والناس اليوم بذلك المنـزل فمن أقيم عليه حد الزنا، أو شهر بالزنا، لم ينبغ لأحد أن يناكحه حتى يعرف منه التوبة[15].

وقد رواها شيخنا الكليني بسند أشتمل على سهل بن زياد، وشيء من الاختلاف في المتن الذي لا يوجب اختلافاً في المؤدى، فلاحظ.
وفي خبر أبي الصباح الكناني قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن قول الله عز وجل:- (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة)، فقال: كن نسوة مشهورات بالزنا، ورجال مشهورون بالزنا، قد عرفوا بذلك، والناس اليوم بتلك المنـزلة، فمن أقيم عليه حد الزنا أو شهر به لم ينبغ لأحد أن يناكحه حتى يعرف منه التوبة.

وخبر محمد بن مسلم عن أبي جعفر(ع) في قوله عز وجل:- (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) قال: هم رجال ونساء كانوا على عهد رسول الله(ص) مشهورين بالزنا، فنهى الله عز وجل عن أولئك الرجال والنساء، والناس اليوم على تلك المنـزلة، من شهر شيئاً من ذلك أو أقيم عليه الحد فلا تزوجوه حتى تعرف توبته.

وفي صحيحة محمد بن إسماعيل عن أبي الحسن الرضا(ع)-في حديث-قال: لا ينبغي لك أن تتزوج إلا مؤمنة أو مسلمة، فإن الله عز وجل يقول:- (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين).

وجاء في نوادر أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري عن الحلبي عن أبي عبد الله(ع): إنما كان يكره النبي(ص) نسوة من أهل مكة كن في الجاهلية يعلن بالزنا، فأنزل الله:- (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة)، وهي المؤجرات المعلنات بالزنا، منهن حنتمة والرباب وسارة….. فنهى الله أن ينكح امرأة مستعلنة بالزنا، أو ينكح رجل مستعلن بالزنا قد عرف ذلك منه، وحتى يعرف منه التوبة.

[1] الخلاف:ج   ص:      
[2] النهاية ص:
[3] المبسوط ج     ص 
[4] الشرايع ج1 ص
[5] المعتبر ص
[6] التذكرة ج   ص
[7] عوائد الأيام العائدة رقم 30.
[8] العناوين ج 2 ص 715.
[9] مستند العروة ج ص
[10] سورة النور الآية رقم 3.
[11] مستند العروة ج 1 ص 125-126.
[12] بحوث في شرح المناسك ج 5 ص 300-301.
[13] أما الآية الأولى، فقد وردت في سورة الإسراء في الآية رقم 33، وأما الآية الثانية فهي إحدى آيات سورة الفرقان، ورقمها هو 68، فلاحظ.
[14] الميزان في تفسير القرآن ج 15 ص 79.
[15] وسائل الشيعة ب من أبواب المصاهرة ح