29 مارس,2024

منكر الضروري (1)

اطبع المقالة اطبع المقالة

لا خلاف في بين الأصحاب كفر منكر الضروري بل يظهر من بعض الأعاظم (قده) أنه من المسلمات وعن مفتاح الكرامة حكاية الإجماع عليه. نعم الخلاف بينهم في أن إنكار الضروري سبب مستقل للكفر تعبداً أو أنه يرجع إلى إنكار النبوة، قولان:

الأول: ما أختاره المشهور من أن إنكار الضروري بما هو ضروري يستلزم الارتداد[1].
الثاني: إن إنكار الضروري في حد نفسه لا يستوجب الحكم بكفر المنكر، إلا إذا رجع إنكاره للضروري إلى إنكار الرسالة والنبوة حكم عندها بكفره.

هذا ولا يخفى مقدار الفرق بين القولين، ذلك أن القول الأول يقرر كون نفس الإنكار لضرورة من ضروريات الدين سبباً مستقلاً لانطباق عنوان الكافر على المنكر، بخلافه في القول الثاني، لأنه يحصر انطباق عنوان الكافر على منكر الضروري إذا رجع إنكاره للضروري لإنكار للرسالة.

كما أنه يمكن عرض فارق آخر بينهما، وهو أن القول الأول لا يقيد انطباق عنوان الكافر على المنكر بحال ما إذا كان عالماً بكون ما أنكره من الضروريات، بل هو يشمل ما إذا كان المنكر عالماً، أو كان غير عالم.

وهذا بخلافه على القول الثاني، لأن مقتضى تقيـيد الإنكار برجوعه لإنكار الرسالة، يقضي حصر مورد الإنكار بصورة العلم بكون المنكر ضرورة لا مطلقاً، فلاحظ.
وهذا يعني أن القول الأول أوسع دائرة من القول الثاني، فتكون النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق.

ولا يخفى أن القول الأول لما كان مخالفاً للقواعد العامة الدالة على كفاية الشهادتين في صدق عنوان المسلم على الفرد خارجاً من دون حاجة إلى أخذ قيدية عدم إنكاره ضرورة من ضروريات الدين، صار لزاماً إقامة الدليل عليه، وهذا بخلاف القول الثاني، ضرورة أن إنكار الرسالة يؤدي لانطباق عنوان الكافر، لأنه يكون منكراً لأحد الركنين الذين يقوم بهما الإسلام ويتحقق من خلالهما خارجاً.

هذا وقد يشار إلى وجود تفسير آخر لقول المشهور غير ما ذكر، بأن يقال بأن الذي عليه المشهور أن إنكار ضروري من ضروريات الدين في حدّ نفسه يوجب انطباق عنوان الكافر على المنكر في حالات العلم بثبوت الضرورة، وحالة الجهل البسيط، والجهل المركب.
ومقتضى هذا التفسير هو البناء على تضيـيق دائرة الحكم بكفر منكر الضروري ليكون مختصاً بما إذا كان المنكر عالماً بكون ما أنكره ضرورة من ضروريات الدين.

ويفرق هذا التفسير عن التفسير السابق بكون الموجب للكفر ليس مطلق الإنكار، وإنما الإنكار المسبق بالعلم بالضرورة، ولذا يكون الموجب لانطباق عنوان الكافر وإن كان هو إنكار الضروري، لكنه مقيد بكونه معلوم الضرورة عند أهل الدين، وعامة المسلين.
وتظهر الثمرة بين التفسيرين لقول المشهور في حديث العهد بالإسلام، وكذا في المسلم الذي يعيش في البلدان البعيدة عن العالم الإسلامي،فإن إنكار هذين لضرورة من ضروريات الدين لا يوجب انطباق عنوان الكافر عليهما وفقاً للتفسير الثاني، لأن الغالب أن إنكارهما يعود لعدم إطلاعهما على كون الشيء المنكر ضرورياً عند المسلمين، وهذا بخلافه على التفسير الأول، فإنه سوف يحكم بكفرهما[2].

ومع تردد قول المشهور بين التفسيرين السابقين، نحتاج البحث عما يصلح لتعيـين أحدهما. ويمكن البناء على أن مختار المشهور هو التفسير الثاني، دون الأول، لقرائن:

منها: إن الرجوع لكلمات المحققين من أصحابنا يكشف عن عدم حكمهم بكفر منكر الضروري مطلقاً حتى لو لشبهة عنده، أو مع عدم علمه بكونه من الضروريات في الدين، ولذا لم يلتـزموا بكفر منكر الضروري إذا كان حديث عهد بالإسلام، كما لم يحكموا بكفر منكر الضروري لو كان بعيداً عن دار الإسلام.

ومنها: اشتمال جملة من كلمات الفقهاء على هذا التفسير،  وهي على نوعين:

الأول: ما تضمن التصريح بتخصيص المنكر للضروري بالتفسير الثاني:
مثل ما جاء في كلام الفاضل الهندي(ره) في كشف اللثام، حيث قال: وكل من أنكر ضرورياً من ضروريات الدين مع علمه بأنه من ضرورياته[3].

الثاني: ما يظهر منه إرادة التفسير الثاني، ولو بضم كلامه بعضه مع بعضه وتفسيره :
مثل ما ذكره العلامة(ره) في القواعد عند تفسيره لما يتحقق به الارتداد، وأنه يحصل إما بالفعل أو بالقول، قال: وإما بالقول كاللفظ الدال بصريحه على جحد ما علم ثبوته من دين الإسلام ضرورة، أو على اعتقاد ما يحرم اعتقاده بالضرورة من دين محمد(ص)، سواء كان القول عناداً أو اعتقاداً، أو استهزاءً.

ولا يخفى أن ظاهر أول العبارة بلحاظ قوله(ما عُلم ثبوته)البناء على التفسير الأول في كلام المشهور، وكذا أيضاً ما جاء في ذيل العبارة، وهو قوله: سواء كان القول عناداً أو اعتقاداً، أو استهزاءً. لكن هذا يتنافى مع ما جاء في كلامه قبله، إذ أن قوله(ره): أو على اعتقاد ما يحرم اعتقاده بالضرورة.

والجمع يقضي بالحمل على التفسير الثاني، وهو في صورة الاعتقاد، فيكون المقصود من قوله(ما عُلم ثبوته) ما علم في الجملة، ومن قبل الغير لا ما عُلم من قبل نفس الجاحد، لأنه مع علمه بثبوت ما جحده في الدين يستحيل أن يعتقد عدم ثبوته.

ويمكن جعل عدم تمامية دليل على التفسير الأول قرينة ثالثة، ضرورة أنه لا يتصور أن يفتي أعاظم المذهب(رض)، دونما وجود دليل واضح يصح الاستناد إليه[4].
وكما يمكن ذكر جملة من القرائن لترجيح التفسير الثاني، كذلك يمكن أن تذكر جملة من القرائن لترجيح التفسير الأول أيضاً:

منها: أن جميع التعبيرات الواردة في كلمات الأصحاب مطلقة خصوصاً مع قراءتهم لعبارة(ما يُعلم)بالمبني للمجهول، فيكون المقصود منها أوسع دائرة من المنكر، فتفيد أن ثبوت كون المنكر من الضروريات المعلومة عند المسلمين يكفي للحكم بكفر منكره، وإن لم يكن المنكر عالماً بكونه ضرورياً.

وجعله موافقاً للتفسير الثاني، بناءً على أن المقصود ما يكون معلوماً عند عامة المسلمين، كما عن بعض الأساتذة(حفظه الله) غريب جداً[5]، وجه الغرابة كونها منافية لما قرره من أنه يعتبر في انطباق عنوان الكفر على المنكر للضروري كون المنكر عالماً بكون ما أنكره ضرورياً، وإلا لو لم يكن كذلك، فأي فرق بين التفسيرين.

ومنها: إن تمثيل المحقق الحلي(ره) على سبيل المثال لمنكر الضروري بالخوارج دون تقيـيدٍ لذلك بكون ما أنكروه معلوماً عندهم أنه من ضرورات الدين، يثبت عدم اعتبار هذا القيد في ثبوت الحكم على الموضوع.
ومنها: ما سيأتي منا كدليل أول ورد في كلمات المشهور، وهو عطف منكر الضروري على الخارج عن الإسلام.

ومنها: إن عبارات الأصحاب مطلقة وغير مقيدة بصورة العلم بكون ما أنكره المنكر ضرورياً، ومقتضى الإطلاق الحكم بانطباق العنوان من دون تقيـيد.
ثم إن بعض الأساتذة(حفظه الله) ذكر أن هذه القرائن تنسجم مع التفسير الثاني لكلام المشهور، بل هو الظاهر منها، فذكر:

أن التمثيل لمنكر الضروري بالخوارج، يعود لأنهم يعلمون أن ما أنكروه يعدّ عند المسلمين من ضروريات الدين وإن كانوا لا يرونه كذلك.
ومسألة مغايرة المعطوف والمعطوف عليه، لا تنـتفي حتى مع القول بتقيـيد كفر منكر الضروري بحال علمه بضرورية ما أنكر، إذ أنه سوف يكون نفس الإنكار المقيد سبباً مستقلاً للحكم بالكفر، لا أنه يعود لإنكار الرسالة.

وإطلاق كلمات الأصحاب محمولة على المنكر الذي يعيش الإسلام ويتلبس به، ويعاشر المسلمين، وهذا يفترض في مثله الإطلاع على أساسيات الدين وضرورياته عند المسلمين، فإذا أنكر كان كافراً لتحقق المناط السابق فيه، وإن لم يعتقد بكونه كذلك.

وكيف كان ينبغي ملاحظة الأدلة، فهل هي مساعدة على التفسير الأول لمقالة المشهور، أم أنها تساعد على التفسير الثاني، أم أنها تفيد واحداً من الأقوال الأخرى المذكورة في المسألة.

أستدل للتفسير الأول لقول المشهور بأمور:

1-إن منكر الضروري عطف في كلام الأصحاب على الخارج عن الإسلام والعطف ظاهره المغايرة.
وفيه نقضاً وحلاً: أما النقض: فإنه لا اعتبار بعباراتهم الشريفة مالم تكن مورد نص أو إجماع معتبر.
وأما الحل: فإنّا نسلم بأن ظاهر العطف يقتضي المغايرة، ولكن نقول بأن المراد من الخارج من الإسلام الخارج منه بالكلية، ومنكر الضروري مؤمن ببعض وكافر ببعض فتحققت المغايرة.
وإن شئت فقل إنه لا يعتبر في حصول المغايرة وتحققها خارجاً أن تكون بالجملة، وإنما يكتفى أن تكون ولو في الجملة، فلاحظ.

2-إن الحكم بكفر منكر الضروري لو لم يكن بنحو السببية المطلقة، لزم من ذلك إلغاء خصوصية العنوان(الضروري)، لأنه لا فرق حينئذٍ بينه وبين كل ما كان من الدين وإن لم يكن ضرورياً، لأن إنكاره مع العلم به يوجب الكفر أيضاً، لأنه يستلزم إنكار الرسالة.
ولا ينحصر ذلك في خصوص الأحكام بل يشمل حتى الموضوعات الخارجية التي أخبر عنها رسول الله(ص)، مثل قوله(ص): استرضعت من بني سعد، فإنه مع العلم بذلك يكون المنكر كافراً لرجوعه إلى تكذيب رسول الله(ص).

ولا يخفى أن الدليل المذكور يعتمد على المحافظة على خصوصية العنوان، وهو منكر الضروري، والظاهر أن هذا لا يختص بالتفسير الأول، إذ يمكن المحافظة على العنوان المذكور حتى مع البناء على التفسير الثاني لقول المشهور كما لا يخفى، فيحكم بكفر منكر الضروري بقيد إطلاعه على كون ما أنكره ضرورياً عند عامة المسلمين[6]. 
وأما التقيـيد بالضروري فلعله لحصول العلم بداهة لكل من عاشر المسلمين في كونه من الدين، فإنكاره يرجع إلى إنكار النبوة والرسالة.

3-إن التمثيل الوارد في كلمات الأصحاب لمنكر الضروري بالخوارج والنواصب وأمثالهم، يقضي بحمل المقصود في كلماتهم على التفسير الأول، لأن الحكم بكفر هؤلاء لا يمكن حمله على تكذيب الرسالة، ضرورة أنهم يؤمنون بالرسول والرسالة، فلابد أن يكون الحكم بكفرهم مبنياً على القول الأول.

وقد عرفت الجواب عن هذا الوجه في جوابنا عن أول الوجوه، حيث ذكرنا هناك أنه لا عبرة بما ورد في كلمات الأصحاب(رض)، بل العمدة ما جاء على لسان المعصوم(ع)، ولما لم يكن شيء مما ذكر وارداً في كلامهم(ع)، فيتضح فساد هذا الوجه.
ثم إنه لو قيل: أنه قد ورد في بعض النصوص الإشارة إلى كفرهم، كما في معتبرة الفضيل قال: دخلت على أبي جعفر(ع) وعنده رجل، فلما قعدت قام الرجل فخرج، فقال لي: يا فضيل: ما هذا عندك؟ قلت: وما هو؟ قال: حروري، قلت: كافر، قال: إي والله مشرك[7].

فإنه يقال: إن هذا النص لا يدل على خصوص التفسير الأول لقول المشهور، إذ يمكن حمله على التفسير الثاني أيضاً، وهو السببية المقيدة، فيقال: أن الحكم بكفره يعود لإنكاره ما هو ضروري الثبوت لدى عامة المسلمين، من لزوم ولاية أهل بيت العصمة والطهارة، فتدبر.

4-الإجماع، ويمكن ذكر صيغتين له:
الأولى: الصيغة المألوفة، وهي وجود دعواه في كلمات بعض الأصحاب كصاحبي مفتاح الكرامة والجواهر.
وفيه: لا عبرة بمثل هذه الإجماعات في استنباط الحكم الشرعي لاشتمالها على علتين تمنعان من ذلك:

الأولى: كونها مدركية، وبعيدة عن التعبدية الكاشفة عن الدليل الشرعي على الحكم.
الثانية: كونها من الإجماعات الحاصلة بين المتأخرين لعدم عنونة المسألة بين القدماء فلا كشف فيها عن الارتكاز المتشرعي على الحكم الشرعي، الذي يعدّ الدليل الذي يكشف عنه الإجماع. ويشهد لما ذكرناه أن عبارات القدماء من أصحابنا خالية عن بيان كفر منكر الضروري، أو قل هي خالية عن التعرض لكون إنكار الضروري سبباً مستقلاً للحكم بكفر المنكر.

نعم وردت بعض العبائر التي قد توهم الحكم بكفر منكر الضروري على أنه سبب مستقل، لكن للتأمل في ذلك مجال واسع، لأنه يمكن إرجاعها إلى أن الحكم بكفر المنكر لكونه منكراً للرسالة، فلاحظ.

ويؤكد ما ذكرناه-بل يصلح شاهداً عليه- الرجوع لكتاب مفتاح الكرامة، فإنه قد جرت عادة السيد العاملي(قده) فيه عند استعراضه الأقوال في المسألة أن يشير لأقوال قدماء الأصحاب، كما يشير لأقوال المتأخرين منهم، وبالعود إلى الكتاب المذكور لا تجده يذكر أحداً من القدماء، مما يعني عدم عنونة المسألة عندهم، قال(ره): ويدخل في الكافر كل من أنكر ضرورياً من ضروريات الدين. وقال في التحرير: الكافر كل من جحد ما يُعلم من الدين ضرورة، سواء كانوا حربيـين، أو أهل كتاب، أو مرتدين، وكذا النواصب والغلاة، والخوارج. ومثله في الشرائع، ونهاية الأحكام والإرشاد والذكرى والتذكرة والروض والروضة والحاشية الميسية وغيرها[8].

الثانية: أن يقرر أن تسالم الأصحاب على كفر الخوارج والنواصب مطلقاً، وإن كان عن شبهة معللين ذلك بأنهم جحدوا ما علم ثبوته في الدين ضرورة، فيكشف ذلك عن الاتفاق على أن مجرد إنكار الضروري بنفسه سبب مستقل للحكم بالكفر.

ويلاحظ عليه: أولاً: بأن تمامية هذه الصيغة تعتمد على أن يكون هذا التعليل موجوداً في كلمات قدماء الأصحاب حتى يكون كاشفاً عن ارتكاز متشرعي بينهم ليكون للإجماع حجية فيعول عليه، وقد عرفت في الحديث عن الصيغة الأولى، خلو كلمات الأصحاب عن ذلك، وهذا يعني أنه لم يحرز موجب حكمهم(ره)، بكفر الخوارج والنواصب، بل يحتمل استنادهم إلى شيء آخر، كإطلاقات النصوص. نعم لا ينكر ورود هكذا تعليل في كلمات المتأخرين من أصحابنا.

ثانياً: مع التسليم بورود التعليل المذكور في كلمات قدماء الأصحاب، إلا أنه لا يثبت دعوى الإجماع، ضرورة أنهم غير متفقين على كفر الخوارج والنواصب بقول مطلق، وإنما يقيد بعضهم كفرهم بما إذا لم تكن هناك شبهة عنده، وعليه لو كانت عنده شبهة لم يحكم بكفره، فلاحظ.

5- النصوص وهي على طوائف:

الأولى: ما أخذ فيها عنوان استحلال الحرام:
منها: صحيحة عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن الرجل يرتكب الكبيرة فيموت هل يخرجه ذلك من الإسلام؟..وإن عذب كان عذابه كعذاب المشركين أم له مدة وانقطاع؟..فقال: من أرتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنها حلال أخرجه ذلك من الإسلام وعذب أشد العذاب، وإن كان معترفاً أنه ذنب ومات عليها أخرجه من الإيمان ولم يخرجه من الإسلام وكان عذابه أهون من عذاب الأول[9]. وتقريب الاستدلال بها:

لقد دلت على أن ارتكاب كبيرة باعتقاد أنها حلال وإنكار حرمتها، يؤدي إلى الكفر والخروج عن الإسلام، ومقتضى الإطلاق عدم الفرق بين أن يكون ملتفتاً إلى الملازمة أو لا يكون ملتفتاً إليها لشبهة أوجبت غفلته عنها مع إيمانه الإجمالي بالرسالة.
وبالجملة، المستفاد من الصحيح الحكم بكفر منكر الضروري مطلقاً، سواء كان عالماً بالحرمة، أم كان جاهلاً جهلاً بسيطاً(شاكاً)، أو جهلاً مركباً.

وقد أجيب عن الاستدلال بها بعدة أجوبة:
منها: ما جاء في كلمات المحقق الهمداني(قده): من أن استحلال الحرام أو عكسه موجب للكفر من غير فرق بين كونه ضرورياً أو غيره، وحيث لا يمكن الالتـزام بإطلاقها يتعين حملها على إرادة ما إذا كان عالماً بكون ما استحله حراماً في الشريعة، فيكون نفي الإثم عن نفسه واستحلاله منافياً للتدين بهذا الدين، ومناقضاً للتصديق بما جاء به سيد المرسلين، فيكون كافراً، سواء كان الحكم في حدّ ذاته ضرورياً أم لم يكن[10].

وحاصل كلامه، أن النظر في الصحيح المذكور لا يخلو من أحد أمرين:
الأول: إبقاء الصحيح على حاله، والعمل به كما هو وفقاً لما هو الظاهر منه.
الثاني: العمد إلى التصرف في ظهوره، لوجود قرينة خارجية مانعة من العمل على وفقه، والبناء على ما هو الظاهر منه.

أما الأمر الأول، فلا يمكن المصير إليه، لاستلزامه ما لا يمكن الالتـزام به، وهو الحكم بكفر الجاهل القاصر حديث العهد بالإسلام، والحكم بكفر المجتهدين المخطئين، ومقلديهم فيما لم يثبت عندهم الحرمة الواقعية فأفتوا بالحلية اشتباهاً وخطأً. وعليه، سوف يكون المتعين هو الأمر الثاني، وهو يقضي تقيـيد الصحيح بصورة العلم بحرمة الشيء شرعاً، فيعود إلى إنكار الرسالة.

وأجاب عن ذلك بعض الأعاظم(قده) وتبعه على ذلك بعض الأساتذة(حفظه الله)[11]، بأن القرينة المذكورة لا تصلح للمانعية من انعقاد الإطلاق الظاهر من الصحيح، لأن مقتضى الصناعة هو التمسك بإطلاق الصحيح إلا إذا قام دليل على خلافه، وقد قام الدليل على أن المجتهد متى استفرغ وسعه كان مأجوراً، وإن أخطأ في اجتهاده[12].

وحاصل كلامه(ره)، إن اللازم المشار إليه في كلام المحقق الهمداني(ره) لا يوجب رفع اليد عن إطلاق الصحيح بقول مطلق، وإنما يلزم منه إخراج من ذكر من تحت الإطلاق  للجزم بعدم كفره فيـبقى الإطلاق على حاله.

والظاهر عدم ورود هذه المناقشة على المحقق الهمداني(ره)، ضرورة أن نظره إلى أمرين:
الأول: أن يكون تقيـيد الصحيح بما ذكر من الأمثلة ليس لخصوصية فيمن ذكر، وإنما اللحاظ للعنوان، وهذا يعني أن المستـثنى من الصحيح هو الجاهل، ولعله أعم من البسيط والمركب، فينحصر الأمر عندها في خصوص العالم بالحرمة، وبكون ما أنكره من الضروريات، فتأمل.
الثاني: أن الإطلاق الظاهر في الصحيح يلزم منه ما لا يلتـزم به، فنرفع اليد عنه بهذا المقدار، لعدم الحجية، وما يكون حجة هو خصوص ما دل على كفر من كان عالماً بكون ما أنكره من ضروريات الدين، فتأمل.

ومنها: ما أجاب به بعض الأعاظم(قده) بأن للكفر مراتب عديدة:
منها: ما يقابل الإسلام، وهو عدم إعلان الشهادتين.
ومنها: ما يقابل الإيمان، كما هو الحال في العامة المحكوم بإسلامهم في الدنيا، وعدم إيمانهم.
ومنها: ما يقابل الطاعة، حيث سمي العاصي في بعض الروايات كافراً.
والمقصود من الكافر في الصحيحة، هو القسم الأخير دون القسمين الأولين[13].
ولا يخفى ما فيه، إذ مضافاً إلى عدم ذكره ما يشهد لاختياره المحتمل الثالث دون الأولين، فإن ما أفاده(قده) خلاف الظاهر جداً من الصحيح، فلاحظ قوله(ع):  من أرتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنها حلال أخرجه ذلك من الإسلام وعذب أشد العذاب، فإن هذا التعبير بخروجه عن الإسلام لا يتصور فيه أن المقصود عدم الطاعة.

ومنها: ما ذكره بعض الأكابر(قده): من أن الصحيح أجنبي عن مدعى المشهور، وذلك لعدم ثبوت إطلاق له للحكم بكفر كل من أنكر ضرورياً ولو كان عن شبهة أو ما شابه، ويدل على نفي إطلاقه قرينـتان:

الأولى: لفظة العقاب التي وردت فيه.
الثانية: لفظة الارتكاب الذي لا يصح مع عدم التنجز.

وعليه فالصحيح مختص بالمستحل الذي تنجزت عليه الحرمة بالعلم، أو غيره من المنجزات، فلا يشمل من أنكر الضروري لشبهة أوجبت غفلته عنه مع إيمانه بالرسالة[14].   
وأيّد هذا الاستظهار بعض الأساتذة(حفظه الله) بما جاء في الصحيح بقوله(ع): وإن كان معترفاً أنه ذنب، إذ جعلها (ع) مقابل قوله: من ارتكب كبيرة فزعم أنها حلال، وهذا يجعل المقسم لكل من القسمين هو ارتكاب الكبيرة مع العلم بكونها كذلك، ويفترق القسمان في زعم أنها حلال وعدمه[15].

أقول: للتأمل في التأيـيد المذكور مجال، ضرورة أن الاعتراف الموجب لجعله عالماً إنما أخرجه من الإيمان، ولم يخرجه من الإسلام، مع أن البحث فيما يوجب إخراجه من الإسلام، ليكون كافراً، فلاحظ.

والإنصاف، عدم تمامية القرينـتين المذكورتين لإثبات المدعى، إذ ينقض بما ورد من استحقاق الكفار العقاب، وفقاً للقول بتكليف الكفار بالفروع كما هو الصحيح.
هذا والحق في الجواب عنه أنه يقال: إن الظاهر أن مرتكب الكبيرة ملتفت إلى شمول الرسالة لها، والقرينة على ذلك استحقاقه أشدّ العذاب والعقوبة على ارتكابها، فلو كان ارتكابه إياها لغفلة فلا ملاك لاستحقاقه العقاب فضلاً عن أشده. وهذا يعني أن الصحيح مقيد انطباق عنوان الكفر عليه بعدما ثبت علمه بالحرمة، فلا يحكم بداية بمجرد الإنكار، ولو عن شبهة، بل يتقيد الحكم بذلك حال كونه عالماً بالحرمة، أو محتمل لها. على أنه لا دلالة للصحيح المذكور على المدعى، لأن الموجب للحكم بكفره يعود لإنكاره الرسالة، إذ أن مقتضى علمه بكونها كبيرة، وإنكاره إياها، يعود حقيقة لتكذيـبه بالرسالة النبوية، فلاحظ.

وبالجملة، إن الظاهر من الصحيح أن الحكم بكونه كافراً لا يعود لإنكاره ضرورياً، وإنما يرجع لكونه منكراً للرسالة، بعدما التـفت إلى شمولها له، وهو يستدعي التقيـيد بما إذا كان عالماً بالحرمة. نعم قد يناقش فيها من جهة السند لوقوع إبراهيم بن هاشم في طريقها وهو وإن لم يضعف إلا أنه ممن لم ينص عليه بتوثيق فعلى القول بعدم شمول دائرة الحجية للخبر الحسن لا يمكن الاعتماد على رواياته.

والصحيح أن دائرة الحجية شاملة للخبر الحسن كما ذكرنا ذلك مفصلاً في الأصول، لأن المناط فيها للوثوق. وعليه فلا إشكال في اعتبار خبره والعمل بناءً عليه. مضافاً إلى أن إبراهيم ثقة، لا لأجل وقوعه في أسانيد تفسير علي بن إبراهيم كما عن بعض الأعاظم (قده)، بل لتوثيق السيد الجليل ابن طاووس له.

ومنها: معتبرة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (ع) -في حديث-: أرأيت المرتكب للكبـيرة يموت عليها أتخرجه من الإيمان؟ وإن عذب بها فيكون عذابه كعذاب المشركين أو له انقطاع؟ قال: يخرج من الإسلام إذا زعم أنها حلال، ولذلك يعذب بأشدّ العذاب وإن كان معترفاً بأنها كبيرة وأنها عليه حرام وأنه يعذب عليها وأنها غير حلال فإنه معذب عليها وهو أهون عذاباً من الأول ويخرجه من الإيمان ولا يخرجه من الإسلام[16].

وتقريب دلالتها: لقد نصت على خروجه من الإسلام بمجرد إنكاره كونها كبيرة وأستحق لذلك العذاب عليها.
وأما السند فقد يقال بضعفها لورود مسعدة بن صدقة فيها وهو ممن لم يرد في حقه توثيق فلا يمكن الاعتماد على خبره. إلا أنه لا يمكن المساعدة عليه، بل إن الأقوى أن مسعدة بن صدقة ثقة لما ذكرناه في بحث حجية خبر الثقة في الموضوعات من إتحاده مع مسعدة بن زياد، وعليه فيكون ثقة. نعم هذا في خصوص مقام الصناعة مجزوم به، إلا أنه يصعب الجزم به في مقام الفتوى، والله العالم.   

ولا يخفى أن الجواب عنها هو عين الجواب عن سابقتها، فلاحظ.

 

[1] مفتاح الكرامة ج1 ص143.جواهر الكلام ج2 ص457.
[2] أشار لذلك العلامة الأستاذ الشيخ هادي آل راضي، مجلة المنهاج العدد 47 ص 63.
[3] كشف اللثام ج 1 ص 48.
[4] مجلة المنهاج العدد 47 ص 63-64.
[5] المصدر السابق.
[6] أشير لهكذا جواب في كلمات بعض أساتذنا(حفظه الله)مجلة المنهاج العدد 47 ص 66.
[7] الكافي ج 2 ص 387 ح 14.
[8] مفتاح الكرامة ج 1 ص 245.
[9] وسائل الشيعة ب2 من أبواب مقدمة العبادات ح10.
[10] مصباح الفقيه ج 7 ص 279.
[11] مجلة المنهاج العدد 47 ص 76.
[12] تنقيح العروة ج 3 ص 62.
[13] تنقيح العروة ج 3 ص 63.
[14] بحوث في شرح العروة ج 3 ص295.
[15] مجلة المنهاج العدد 37 ص 77.
[16] وسائل الشيعة ب2 من أبواب مقدمة العبادات ح11.