28 مارس,2024

فورية الذهاب للحج

اطبع المقالة اطبع المقالة

المعروف بين أصحابنا أن وجوب الحج بعد تحقق شروطه فوري، بمعنى أنه تجب المبادرة من المكلف لأداء المناسك مباشرة في سنة الاستطاعة، ومتى ترك ذلك كان عاصياً.

هذا ولما كانت المسألة من المسائل الأصلية، لا بأس بنقل جملة من كلمات الأصحاب فيها:

قال الشيخ في الخلاف : الحج وجوبه على الفور دون التراخي وبه قال مالك وأبو حنيفة والمزني وليس لأبي حنيفة فيه نص وقال أصحابه : يجيء على قوله أنه على الفور كقول أبي يوسف . وقال الشافعي : وجوبه على التراخي ومعناه أنه بالخيار إن شاء قدم وإن شاء أخر والتقديم أفضل وبه قال الأوزاعي والثوري ومحمد.

دليلنا : إجماع الفرقة فإنهم لا يخـتلفون وأيضاً طريقة الإحتياط تقتضيه وأيضاً فقد ثبت أنه مأمور به والأمر عندنا يقتضي الفور على ما بيناه في أصول الفقه. وروي عن ابن عباس أن النبي (ص) قال : من أراد الحج فليعجل. فقد أمر بتعجيـله. وأيضاً روى أبو اسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي (ع) أن النبي (ص) قال : من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى الحج ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً. فتوعده على التأخير فلولا أنه يقتضي الفور لم يتوعده على تأخيره.[1]

أقول : هذا النوع من تعبيرات الشيخ (ره) في الإجماع يمكن الإعتماد عليه ما لم يكن هنا مانع آخر كما فصلنا ذلك في الأصول.

وفي السرائر بعدما ذكر شروط صحة أداء حجة الإسلام وعمرته قال : ووجوبهما على الفور دون التراخي بغير خلاف بين أصحابنا.[2]

وفي الشرائع : وتجب على الفور والتأخير مع الشرائط كبيرة موبقة.[3]

وقال في المعتبر : وتجب حجة الإسلام وجوباً مضيقاً وبه قال مالك وأصحاب أبي حنيفة . وقال الشافعي تجب موسعاً.[4]

وفي التذكرة : ووجوب الحج والعمرة على الفور لا يحل للمكلف بهما تأخيره عند علمائنا أجمع وبه قال علي (ع) ومالك وأحمد والمزني وأبو يوسف وليس لأبي حنيفة فيه نص ومن أصحابه من قال : هو قياس مذهبه لقوله تعالي : (ولله على الناس حج البيت من استطاع) الآية مقتضاه الأمر وهو للفور عند بعضهم. وما رواه العامة عن ابن عباس عن النبي (ص) أنه قال تعجلوا الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له. وعن علي (ع) عن رسول الله (ص) أنه قال : من وجد زاد أو راحلة تبلّغه البيت فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً.

ومن طريق الخاصة : ما رواه الحلبي-في الصحيح-عن الصادق (ع) قال : إذا قدر الرجل على ما يحج به ثم دفع ذلك وليس له شغل يعذر به فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام. ولأنها عبادة لها وقت معلوم لا يفعل في السنة إلا مرة واحدة فيجب على الفور كالصوم.

وقال الشافعي : إنه لا يجب على الفـور بل يجوز له تأخيره إلى أي وقت شاء-ونقله العامة عن ابن عباس وجابر وأنس ومن التابعين : عطاء وطاوس ومن الفقهاء الأوزاعي والثوري- لأن فريضة الحج نزلت سنة ست من الهجرة وقيل: سنة خمس وأخّره النبي (ص) من غير مانع فإنه خرج إلى مكة سنة سبع لقضاء العمرة ولم يحج وفتح مكة سنة ثمان وبعث الحاج سنة تسع وحج هو (ع) سنة عشر وعاش بعدها ثمانين يوماً ثم قبض (ص).

والجواب: المنع أولاً من تمكنه من الحج فإنه (ع) أحرم بالعمرة عام الحديبية فأحصر.

وثانياً: بالمنع من تأخير النبي (ص) عن عام الوجوب فإن الآية نزلت-وهي قوله تعالى:-(ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً) الآية-سنة تسع وقيل: سنة عشر، فبادر رسول الله (ص) بالحج من غير تأخير.[5]

أقول: ما ذكره (قده) في الجواب عن الشافعي لا يخلو عن نظر ظاهر فلاحظ.

وقال في المنـتهى: يجب على كل مكلف هو مستطيع للحج متمكن من المسير من ذكر وانثى وخنثى وجوباً مضيقاً على الفور قال علمائنا به أجمع. وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف ونقله الكرخي وغيره عن أبي حنيفة.[6]

وكيف كان فقد استدل على فوريته بوجوه:

الأول: الإجماع الذي قد سمعت دعواه من الخلاف والتذكرة والمنـتهى.

وفيه: ان هذا الإجماع لا يخلو عن إحتمال المدركية فيه مما يمنع عن تحقق الكشف عن قول المعصوم.

الثاني: لا ريب في حكم العقل بالفورية متى ما استجمع المكلف الشرائط المعتبرة فيه وصار الوجوب منجزاً فيستدعي الإشتغال اليقيني الفراغ اليقيني، فلا عذر له في التأخير وعدم الفورية مع احتمال الفوت احتمالاً عقلائياً، ولا يتوهم رجوع ذلك لدلالة صيغة الأمر بالدلالة المطابقية على الفورية لأن المحقق في محله منع ذلك بل منشأه حكم العقل بذلك.

إن قلت: كما يجوز التأخير في الصلاة يجوز ذلك في الحج.

قلت: إن جواز ذلك فيها ناشئ من الإطمينان ببقاء الوقت غالباً وتحققه هذا في مثل الحج صعب جداً للفصل الطويل المانع من تحققه فلا يسوغ التأخير.[7]

أقول: مقتضى هذا الدليل هو الإلتزام بالتفصيل بأن يقال: إذا أحتمل إحتمال عقلائياً بعدم البقاء في العام القادم وجب عليه الفور وإلا فلا يجب عليه ذلك.

ولا يخفى أن المدعى غير ذلك مما يعني عدم تمامية هذا الدليل على المدعى.

الثالث: دلالة النصوص الواردة في التسويف على الفورية لدلالته على حرمته. وهي على طائفتين:

الأولى: ما يستفاد منها حرمة التسويف إذا أوجب ترك الحج إلى آخر العمر والموت:

منها: صحيحة معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل له مال ولم يحج قط؟قال : هو ممن قال الله تعالى:- (ونحشر يوم القيامة أعمى) قال: قلت: سبحان الله أعمى ؟ قال: أعماه الله عن طريق الحج.[8]

أقول: لا يخفى أن للشيخ (ره) طريقين لكتب موسى بن القاسم في الأول ابن أبي جيد وتبتني وثاقته على تمامية كبرى وثاقة مشايخ النجاشي الذي قد عرفت منا في محله المنع عنها مما يفيد سقوط السند عن الإعتبار.

وأما الطريق الثاني فقد اشتمل على جماعة عن ابن بابويه مما يعني احتمال وجود شبهة إرسال في المقام. وكيف كان فحتى لو تمت هذه الدعوى فإنها لا تمنع من صحة الرواية لما ذكرناه في فوائدنا الرجالية من كبرى نظرية التعويض فيستند لها لتمامية طريق الشيخ إلى ابن بابويه كما فصلناه غير مرة فلاحظ.

كما أنه يمكن إجراء التعويض في الطريق الأول من خلال الصغار بعد تعويض طريق الشيخ الأول له فتدبر.

ومنها: صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله «ع» قال : إذا قدر الرجل علي ما يحج به ثم دفع ذلك وليس له شغل يعذره به فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام. [9]

ومنها: خبر أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن قـول الله عزوجل (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً) قال: ذلك الذي يسوف نفسه الحج يعني حجة الإسلام حتى يأتيه الموت.[10]

أقول: في سندها علي بن أبي حمزة.

قال في الجواهر بصحة الإستدلال بها لأنه لو كان التأخير جائزاً ولم تكن الفورية واجبة لا مجال للعذاب بما ذكره وأنه يعد تاركاً لشريعة من شرائع الإسلام وأنه المراد بالأعمى في الآية المباركة.[11]

ويلاحظ عليه: إن لمستفاد من النصوص أن تسويفه كان بمعنى عزمه على عدم الإتيان به مطلقاً وعليه لا تدل على المنع عمن كان عازماً على الإتيان به في العام القادم وإن شئت فقل لا إطلاق لها لتدل على وجوب الفورية بحيث لا يجوز التأخير لمن كان عازماً على الإتيان به من قابل.وبعبارة ثالثة : إن صدق عنوان التأخير عاماً واحداً بعد الإستطاعة محل تأمل بل منع فلا تدل الأخبار حينئذٍ على المدعى.

الطائفة الثانية: ما يدل على حرمة عنوان التسويف ولو وقع الحج منه في العام القابل مما يمنع عن مجرد التأخير:

منها: صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (ع) قال : قال الله تعالى:- (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً) قال: هذه لمن كان عنده مال وصحة وإن كان سوفه للتجارة فلا يسعه وإن مات على ذلك فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام إذا هو يجد ما يحج به.[12]

والإنصاف أنه لا ظهور لها في غير ما دلت عليه الطائفة الأولى وقد عرفت جوابها.

ومنها: أبي الصباح عن أبي عبد الله (ع) قال : قلت له: أريت الرجل التاجر ذا المال حين يسوف الحج كل عام وليس يشغله عنه إلا التجارة أو الدين. فقال: لا عذر له يسوف الحج إن مات وقد ترك الحج فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام.[13]

ولا يخفى عدم ظهورها في المدعى بل المستفاد منها حرمة التسويف بلحاظ ترتب الترك عليه حتى يموت فتكون موافقة لروايات الطائفة الأولى.

ومنها: خبر زيد الشحام قال: قلت لأبي عبد الله (ع): التاجر يسوف الحج ؟ قال: ليس له عذر فإن مات فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام.[14]

أقول: في سندها أبو جميلة المفضل بن صالح وهو ضعيف ولا يكفي لوثاقته رواية أحد المشايخ الثلاثة كما فصلناه في محله فراجع.

ولا يخفى أن دلالتها كسابقتيها خصوصاً بملاحظة تفريع الموت عليه. ودعوى أن التفريع ليس علي التسويف وإنما هي على أحد فرديه.[15] غير واضحة.

فتحصل رجوع الطائفتين لطائفة واحدة كما عليه الفقيه صاحب الجواهر (ره) ولا دلالة لها على المطلوب فتقسيمه لطائفتين كما عن بعض المعاصرين (دام ظله)[16] في غير محله.

الرابع: ما مال له في الجواهر من التمسك بالنصوص المانعة عن النيابة للمستطيع:

منها: صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (ع) في رجل صرورة مات ولم يحج حجة الإسلام وله مال قال: يحج عنه صرورة لا مال له.[17] وتقريب دلالتها: إن قوله يحج عنه صرورة لا مال له. يكشف عن وجوب الفورية على المستطيع وإلا كان منع الصرورة المستطيع لغوي.[18]

وأورد عليه بعض المعاصرين: بإن هناك إحتمالاً آخر وهو إشتغال ذمة المستطيع الصرورة بالحج وثبوت التكليف في حقه فيتلائم مع الإشتراط ولا مرجح لأحد الإحتمالين[19].

وضعفه واضح لأن إشتغال ذمته يعني تنجز التكليف في حقه فإن قيل فوراً ثبت المطلوب وإن لم يقل بالفورية بمعني التوسعة فلا معنى للإحتمال المذكور أصلاً.

والتحقيق في الجواب: إن هذه النصوص تدل على المدعى بمفهوم اللقب المحقق في محله عدم حجيته.

الخامس: النصوص الواردة في الحج البذلي :

منها: صحيح محمد بن مسلم قال : قلت لأبي جعفر (ع)-في حديث-فإن عرض عليه الحج ما ستحيى؟ قال: هو ممن يستطيع الحج ولم يستحيي؟ ولو على حمار أجدع أبتر قال : فإن كان يستطيع أن يمشي بعضاً ويركب بعضاً فليفعل.[20]

ومنها: صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (ع)-في حديث-قال : فإن كان دعاه قوم أن يحجوه فاستحيى فلم يفعل فإنه لا يسعه إلا أن يخرج ولو على حمار أجدع أبتر.[21]

وتقريب دلالتها: إن النصوص ظاهرة في وجوب الإتيان بالحج فوراً وفي عام البذل لأنه قد تحقق عنده حينئذٍ الإستطاعة فيتنجز في حقه التكليف فيكون الوجوب في حقه فورياً فيثبت المطلوب ويلاحظ عليه: لو سلم التقريب المتقدم لدل على وجوب الفورية في الحج البذلي لا مطلق الحج فيحتاج التعدي عنه إلى قرينة وهي مفقودة في المقام. خصوصاً مع عدم احراز التساوي بينه وبين غيره.

ثانياً: إن ظهور النصوص في تنجز التكليف وتحقق الإستطاعة لا ينكر إلا أنه لا ظهور لها في وجوبه فوراً في العام الذي تحققه فيه ذلك بحيث أنه لو أخره للعام القابل كان عاصياً.

السادس: التمسك على فوريته بما دل على أن الإستخفاف بالحج من الكبائر كما ورد ذلك في كتاب العلل لابن شاذان فيما كتبه مولانا الرضا (ع) للمأمون في تعداد الكبائر وقد عدّ منها الإستخفاف بالحج فمتى كان التأخير معصية بل كبيرة كانت الفورية واجبة كما لا يخفى.

ويلاحظ عليه: مضافاً للضعف في السند والمصدر كما نقح ذلك في كتاب التقليد بالمنع من صدق الإستخفاف بمجرد عدم الإتيان به في عام الإستطاعة.

السابع: إن الفورية من الأمور الإرتكازية عند المتشرعة قديماً وحديثاً فنراهم يذمون تارك الحج متى ما استطاع ما لم يكن له عذر مسوغ للترك والتأخير. ويمكن التعبير عن هذا الوجه بالإجماع الإرتكازي.

ويلاحظ عليه: إن السيرة المتشرعية المعتبرة إنما هي المحرز إتصالها بزمان المعصوم بحيث تكون واصلة لنا يداً بيد. على أنه من المحتمل جداً أنها سيرة إحتياطية. مضافاً إلى أنه ذمهم لمن أخره للعام القادم مع الإحتمال العقلائي على التمكن منه غير محرز.

فتحصل إلى هنا أن وجوبه الفوري شريطة أن لا يكون مطمئناً من نفسه بالإتيان به في السنوات المقبلة وإلا فوجوبه فوراً في السنة الأولى لا دليل عليه والله العالم بحقائق الأمور.

——————————————————————————–

[1] – الخلاف ج2 ص257.

[2]- السرائر ج1 ص515.

[3]- شرائع الاسلام ج1 ص

[4]- المعتبر ج ص

[5]- التذكرة ج7 ص17.

[6]- المنتهى ج2 ص642.

[7]- معتمد العروة ج1 ص16.

[8]- الوسائل ب6 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح2.

[9]- المصدر السابق ح3.

[10]- المصدر السابق ح5.

[11]- جواهر الكلام ج6 ص337.

[12]- المصدر السابق ج1.

[13]- المصدر السابق ح4.

[14]- المصدر السابق ح6.

[15]- تفصيل الشريعة ج1 ص24.

[16] المصدد السابق ص 23.

[17]- الوسائل ب5 من أبواب النيابة ح2.

[18]- جواهر الكلام ج6 ص337.

[19]- مصباح الشريعة ج1 ص25.

[20]- الوسائل ب10 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح1.

[21]- المصدر السابق ح3.