29 مارس,2024

الفرق بين المسألة الأصولية والقاعدة الفقهية

اطبع المقالة اطبع المقالة

[size=6][/size]
[font=arial]لا ريب ولا إشكال في أهمية القواعد الفقهية للفقيه، لكن وقع الكلام بين الأصحاب في كيفية التفريق بينها وبين المسألة الأصولية، ضرورة أن كل واحد منهما يتصور كونه عنصراً مشتركاً في الاستنباط، من هنا ذكرت عدة وجوه من قبل الأصحاب في التفريق بينهما:[/font]

منها: ما يستفاد من كلمات الشيخ الأعظم(ره) وتبعه المحقق النائيني(قده)، وحاصله:

إن نتيجة المسألة الأصولية نافعة للمجتهد فقط بخلاف القاعدة الفقهية، فإنها تنفع المقلد أيضاً، وهذا يعني أن القاعدة الفقهية يشترك إعمالها بين المجتهد والمقلد[1].

ومن الواضح أن ما أفاداه(ره) ينحل إلى دعويـين:

الأولى: اختصاص المسألة الأصولية بالمجتهد، بحيث لا يمكن للمقلد أن يستفيد منها.

الثانية: أن القواعد الفقهية مشتركة بين المقلد والمجتهد، بمعنى أنه كما يمكن للمجتهد الاستفادة منها في مقام التطبيق والاستنباط، فكذلك المقلد، يمكنه أن يستفيد منها أيضاً.

وأورد عليه بعض الأعاظم(قده) بأنا نسلم اختصاص المسألة الأصولية بالمجتهد، فليس للمقلد إعمالها، إلا أننا لا نسلم اشتراك القاعدة الفقهية في النتيجة بين المجتهد والمقلد، فمثلاً قاعدة: ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، ليس للمقلد القدرة على معرفة كون البيع من العقود التي يكون في صحيحها الضمان، ومثلاً قاعدة الصلح جائز بين المسلمين إلا ما خالف كتاب الله، فمن أي سبيل يتوجه المقلد أن هذا لشرط هل هو موافق للكتاب أو مخالف له[2].

وبعبارة أخرى، إننا نسلم بالدعوى الأولى، وهي كون المسألة الأصولية من المختصات بالمجتهد، إلا أننا لا نسلم بالدعوى الثانية، فنلتزم باختصاص القواعد الفقهية بالمجتهد أيضاً لأنه القادر على تشخيص موارد جريانها من عدمه، إذ لا قدرة للمقلد على معرفة موارد جريانها من عدمه،

وهذا يعني أن إجراء المقلد للقواعد الفقهية ليس على إطلاقه، بل في خصوص المصاديق المعلومة، أما بالنسبة للمشكوكة فإنه يرجع فيها إلى المجتهد.

وقد تابع بعض الأعاظم(ره) في الإشكال على المحقق النائيني(ره) شيخنا التبريزي(دامت أيام بركاته)، فلاحظ[3].

هذا والظاهر أن إيراده(ره) غير وارد عليهما، توضيح ذلك:

إن المقصود من ون النتيجة نافعة للمقلد، بمعنى أنه قادر على التطبيق، ومعنى هذا أن المقلد بعد السؤال والفحص عن أن البيع من العقود التي يكون في صحيحها ضمان، يمكنه تطبيق القاعدة، ويحكم بأن في فاسدها الضمان أيضاً.

وإن شئت فقل إن الحديث عن إمكانية التطبيق متى ما توفرت مقتضيات التطبيق التي من مصاديقها الدراية بالجريان وعدمه، لا مع عدم توفر ما هو المطلوب في التطبيق، فلاحظ.

ومنها: ما ذكره المحقق النائيني(قده) من أن القواعد الأصولية متضمنة للأحكام الكلية التي لا ربط لها بالعمل بلا واسطة، بخلاف القاعدة الفقهية فإنها وإن كانت متضمنة للحكم الكلي، إلا أنها لا تصلح لاستفادة الأحكام الجزئية منها في الموارد الجزئية، فمثلاً قاعدة ما يضمن بصحيحه تكون صالحة لاستفادة الضمان منها في البيع الشخصي المعين الفاسد.

وبعبارة أخرى، إن الفرق بينهما من باب الفرق بين الكلية بمعنى عدم التعلق بالعمل بلا واسطة ، والجزئية بمعنى التعلق بالعمل بلا واسطة.

ويلاحظ عليه: بأن التفريق المذكور غير مختص بالفرق بين المسألة الأصولية والقاعدة الفقهية، ضرورة كونه شاملاً للتفريق أيضاً مع المسألة الفقهية.

ولا يخفى أن مقامنا ليس مورد التفريق بين القاعدة الأصولية والفقهية فقط، بل في مقام بيان الملاك لكون القاعدة فقهية، وما ذكره(ره) جارٍ في المسألة الفقهية مع أنها ليست قاعدة فقهية.

وبكلمة، إن المراد من بيان الفرق في المقام هو الإشارة إلى ضابطة وحد تام في بيان معنى القاعدة الفقهية، بحيث يكون جامعاً مانعاً، وما أفاده(ره) لم يف بذلك، فلاحظ.

ومنها: ما ذكره المحقق العراقي Q من أن الفرق بينهما بكون الأولى مستعدة بذاتها لأن تقع في طريق استكشاف كل وظيفة عملية في أي باب من أبواب الفقه بخلاف الثانية لاختصاص كل واحدة منها بباب من أبواب الفقه لا تتجاوزه لغيره.

وما يتصور من العمومية في قاعدتي لا حرج ولا ضرر ممنوع بعدم وقوع شيء منهما في طريق استكشاف الوظيفة العملية الكلية كما هو شأن المسألة الأصولية[4].

وإن شئت فقل، إن القاعدة الفقهية تختص في موارد جريانها بمورد دون آخر، بخلافه في المسألة الأصولية، فإنه لا اختصاص له باب دون آخر.

ولا يخفى أنه غير فارق، لأن النـتيجة كلية في موردهما أيضاً فلا يدل على كون النـتيجة شخصية كون الملاك في القاعدتين المذكورتين شخصيتين.

ومنها: ما ذكره بعض الأعاظم(قده) من أن استفادة الأحكام الشرعية من المسألة الأصولية يكون على نحو التوسيط والاستنباط، وهذا بخلاف القاعدة الفقهية فإن الأحكام الشرعية تستفاد منها على نحو التطبيق، أي تطبيق الكلي على الجزئي[5].

وقد أختار هذا شيخنا التبريزي(دامت أيام بركاته)، وأوضحه، قال(حفظه الله): إن القواعد الفقهية بأنفسها أحكاماً شرعية عملية تكليفية كانت أم وضعية، وضمها إلى صغرياتها من قبيل تطبيق الكبرى الشرعية على صغراها، لا من الاستنباط، وتوضيح ذلك: أن القواعد الفقهية على قسمين:

الأول: ما يكون مدلولها حكماً فرعياً ثابتاً لعنوان تندرج تحته الجزئيات الخارجية فقط، كما في نجاسة الخمر وحرمة شربه، ولا مورد لتوهم النقض في هذا القسم، حيث لا يثبت بضمها إلى صغراها إلا الحكم الجزئي الفرعي، لا الكلي.

الثاني: ما يكون مدلولها حكماً شرعياً ثابتاً لعنوان تندرج تحته العناوين الكلية، كقاعدة: ما يضمن وما لا يضمن، فإن موضوعها العقد، ويندرج تحته البيع والإجارة والقرض والمصالحة وغير ذلك من أنواع العقود، فتكون النتيجة في هذا القسم بعد تطبيقها على صغرياتها ثبوت الحكم الكلي، ولكن هذا من باب التطبيق لا من باب الاستنباط، فإن الملازمة على تقدير ثبوتها، شرعية بمعنى أن الشارع قد أخذ في موضوع حكمه بالضمان في العقد الفاسد، ثبوت الضمان في صحيحه، نظير الملازمة بين وجوب القصر على المسافر ووجوب الإفطار، فإن مرجعها إلى أن الشارع قد جعل السفر الموضوع لوجوب القصر موضوعاً لوجوب الإفطار أيضاً، إلا ما استـثني، وهذا بخلاف الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته، فإنها أمر واقعي قد كشف عنه العقل أو هي بنفسها حكم العقل، ولذا يكون القول بها مصححاً لاستنباط حكم شرعي كلي بقياس استثنائي، أو قياس حملي تكون نتيجته الملازمة بين الأمر بالصلاة في أوقاتها والأمور بمقدماتها[6].

وأورد بعض الأكابر(قده) على هذا التفريق بإيرادين:

الأول: إن مسألة الاستنباط موجودة في بعض القواعد الفقهية، فلا تختص بالقواعد الأصولية، فهناك قواعد يقررها الفقيه ويستند لها في استنباط الحكم الشرعي كقاعدة الطهارة الجارية في الشبهات الحكمية، وقاعدة ظهور الأمر بالغسل في الإرشاد إلى النجاسة.

نعم الداعي لخروجها عن المسألة الأصولية، وعدم كونها من مسائل علم الأصول يعود لعدم كونها عنصراً مشتركاً في الاستنباط، ضرورة أنها تختص ببعض الأبواب الفقهية، وقد عرفت في تعريف علم الأصول أخذ قيدية الاشتراك.

الثاني: أنه لو كان ملاك الفرق بينهما من هذه الجهة، للزم أن يكون الخلاف بينهما ناشئاً من اختلاف كيفية طرح البحث في قاعدة، فمثلاً قاعدة إن النهي عن الشيء هل يقتضي الفساد، لو طرحت بعنوان البحث عن الاقتضاء لكان البطلان مستبطناً من الاقتضاء، وأما لو صيغت بأنه هل العبادة المنهي عنها باطلة أم لا، فتأتي مسألة التطبيق.

وبالجملة، إن الفرق بينهما جوهري، نعم الاستنباط والتطبيق يكونان من آثاره[7].

ولا يخفى أن الجواب من كلامه(ره) مستفاد مما ورد في كلام المحقق العراقي(ره)، حيث أنه ذكر أن منشأ خروج قاعدة الطهارة عن مسائل الأصول مرده إلى كونها مختصة وغير مشتركة[8].

هذا وقد يدفع الإشكال الأول الوارد في كلامه(قده) على بعض الأعاظم(ره) بأن بعض الأعاظم لا يرى أخذ قيدية الاشتراك في المسألة الأصولية، فقد ذكر ذلك جواباً عن كلام الآخوند في أن الداعي لخروج قاعدة الطهارة عن علم الأصول، كون قاعدة الطهارة قاعدة عامة غير جارية ومطردة في جميع الأبواب الفقهية، قال(ره): إن الميزان في كون المسألة أصولية هو أن تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الفرعي، ولا يعتبر جريانها في جميع أبواب الفقه، وإلا لخرجت جملة من المباحث الأصولية عن علم الأصول، لعدم اطرادها في جميع أبواب الفقه، كالبحث عن دلالة النهي عن العبادة على الفساد، فإنه غير جارٍ في غير العبادات من سائر أبواب الفقه[9].

هذا وقد اقتصر شيخنا الأستاذ في نقده لمقالة المحقق العراقي(ره) التي حكيناها قبل قليل، على النقض فقط دون الحل، فنقض بمسألة الملازمة بين النهي والفساد، إذ أنها تختص بباب العبادات فقط، فلاحظ[10].

وكيف ما كان، فلا يخفى أن جواب بعض الأعاظم(ره) قد أشتمل على نقض وحل، أما النقض، فبقوله: إن هناك جملة من المسائل الأصولية ليس مشتركة ومطردة في الأبواب الفقهية، بل هي خاصة بباب العبادات، فلا تشمل المعاملات، وذلك مثل مسألة أن النهي عن العبادة مفسد لها أو لا.

وأما الحل، فبأنه لا يعتبر في ميزان المسألة الأصولية كونها مشتركة في مجال الاستنباط، بل يكفي لكونها كذلك أن تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعي.

وقد يجاب عن نقضه(ره) بأن مسألة اقتضاء النهي عن العبادة من العناصر المشتركة في مجال الاستنباط، ضرورة أن باب العبادات ليس باباً فقهياً واحداً، بل هو شامل لكل ما يكون مشروطاً بقصد القربة، فيدخل فيه باب الطهارة، وباب الصلاة، وباب الصوم، وباب الحج، وغيرهما مما يكون مشروطاً بقصد القربة، ومن الواضح أن هذا التعدد يعطي صبغة الاشتراك، فلا يرد النقض المذكور[11].

وأما الحل، فقد يكفي للمنع عنه ما ذكر في تعريف علم الأصول من أن جعل الميزان لعلم الأصول هو ما ذكر، غير تام، كما بين في محله، فراجع.

نعم قد يمنع الجواب عن النقض، بأن يقال: إن الفقه إنما هو أبواب ثلاث، عبادات وعقود وإيقاعات، وما تحت كل واحد من هذه الأبواب إنما هي مصاديق لتلك الأبواب، وبالتالي لاحظ الاشتراك لابد أن يكون من خلال التعدد في الأبواب الثلاثة، أو في بابين منها، أما التعدد في المصاديق لما تحت الباب الواحد فإنه لا يعطي صفة الاشتراك، فتأمل.

وقد يجاب عن الإيراد الثاني، بأن مسألة اقتضاء النهي عن العبادة سواء أكانت مطروحة بصيغة البحث عن الاقتضاء، أم كانت مطروحة بصيغة البحث عن أن العبادة المنهي عنها باطلة، فلا إشكال في كونها مسألة أصولية، لأنه لو كنا نختار الشق الأول، فكونها مسألة أصولية واضح جداً، إذ لا يختلف أحد بأنها متى ما طرحت بهذه الكيفية تكون من المسائل الأصولية.

وكذا لو أختير الشق الثاني فإنها تكون أيضاً مسألة أصولية، وذلك لكونها تستبطن في الضمن أن البحث عن حمل البطلان على العبادة إنما هو بواسطة اقتضاء النهي المتعلق بها لا بواسطة ومباشرة، وعليه فمجرد البحث فيها يؤول لا محالة إلى البحث عن اقتضاء النهي المتعلق بالعبادة بالبطلان، لأنه لا معنى للبحث عن نتيجة المسألة الأصولية ابتداءاً في الأصول، بل لابد أن يكون البحث عما ينتج هذه النتيجة، فإذن لا فرق بين الصيغتين إلا من حيث الصياغة، أما في المعنى فالبحث في كلتيهما، بحث في الحقيقة عن المسألة الأصولية[12].

ومنها: إن المسألة الأصولية يستعان بها في جميع الأبواب الفقهية، بخلاف القاعدة الفقهية، فإنها تختص بموارد وأبواب معينة.

ولا يخفى أن هذا الوجه ينحل إلى دعويـين:

الأولى: عمومية وشمولية المسألة الأصولية، بحيث أنها لا تختص بباب دون آخر، وهذا يستفاد من تعريف المسألة الأصولية.

الثانية: خصوصية القاعدة الفقهية، بحيث أنها لا تجري في كل باب من الأبواب الفقهية، بل هي منحصرة في بعضها دون بعض، كقاعدة الطهارة، فإنها جارية في خصوص باب الطهارة، وقاعدة لا تعاد مثلاً منحصرة في باب الصلاة، وقاعدة لا شك لكثير الشك، تختص بباب الخلل من الصلاة، وهكذا.

ويلاحظ عليه: بأن هناك جملة من القواعد الفقهية الجارية في كافة الأبواب الفقهية، مثل قاعدة لا تنقض السنة الفريضة، وهي الواردة في لسان المشهور بقاعدة لا تعاد، فإنها من القواعد العامة التي تجري في كافة الأبواب الفقهية من دون فرق بين باب وآخر، وكذا أيضاً قاعدة الفراغ، فلا إشكال في كونها جارية في باب من أبواب الفقه، كالطهارة، والصلاة والحج، وكذا قاعدة لا ضرر.

نعم ما لا يمكن إنكاره، أن هناك جملة من القواعد الفقهية يختص جريانها ببعض الأبواب الفقهية، وليس عاماً، كقاعدة الطهارة مثلاً فإنها تختص بباب الطهارة دون غيره.

ومنها: ما ذكره بعض الأعيان(قده) من أن القواعد الأصولية آلية، بخلاف القواعد الفقهية، فإنها استقلالية.

——————————————————————————–

[1] فوائد الأصول ج 1 ص 19.

[2] المحاضرات ج 1 ص 10.

[3] دروس في مسائل علم الأصول ج 1 ص 22.

[4] بائع الأفكار ج 1 ص 26.

[5] المحاضرات ج 1 ص 8.

[6] دروس في مسائل علم الأصول ج1 ص 20-21.

[7] بحوث في علم الأصول ج 1 ص 22، وص 26.

[8] نهاية الأفكار ج 1 ص 20-21.

[9] مصباح الأصول ج 2 ص 250.

[10] حكي ذلك عنه في كتاب تحقيق الأصول ج 1 ص 52.

[11] المباحث الأصولية ج 1 ص 20.

[12] المباحث الأصولية ج 1 ص 25.