16 أبريل,2024

حكم ما لا فلس له من الأسماك(3)

اطبع المقالة اطبع المقالة

[size=6][/size]
[font=arial]ومنها: قوله تعالى:- (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيـباً)[1]. وتقريب الاستدلال بها على المدعى، أن يقال: إن المراد من الحلال في الآية كما ذكره غير واحد من المفسرين، يعني الأمر المباح مقابل الأمر الممنوع والمحظور، والأمر الوارد فيها لا مجال لحمله بحسب الظاهر على الوجوب، بل يحمل على الإباحة بالمعنى الأهم الشامل لغير المحرم من الأحكام الخمسة، فيستفاد منها حينئذٍ أن كل ما في الأرض مما له قابلية الأكل سائغ ومباح يجوز للإنسان تناوله.[/font]

وهذا يعني استفادة قاعدة كلية من الآية الشريفة مفادها حلية تناول كل شيء في الأرض من دون استـثناء، لأن مقتضى كون الآية في مقام البيان إفادتها هذا المعنى كما لا يخفى.

وعليه تكون الآية الشريفة شاملة لجميع الموجودات البحرية، بما في ذلك الأسماك التي لا فلس لها، كما لا يخفى.

إن قلت: إن التقريب المذكور لا مجال للالتزام، وذلك لأن مقتضى الإطلاق المستفاد من الآية هو الالتـزام بجواز أكل كل شيء فيها، من دون تقيـيد بكونه مما له قابلية الأكل، ولما كان التالي باطل، فالمقدم مثله.

قلت: إن ما ذكر يصح لو لم يكن في الآية ما يشير إلى تخصيص الأكل فيها بما يكون فيه قابلية الأكل، وذلك لأن(من) الواردة فيها تشير إلى التبعيض، فيستفاد حينئذٍ إباحة بعض ما في الأرض لا كل ما في الأرض، وهو لا يخلو عن أحد أمرين:

الأول: أن تكون الآية بصدد بيان أن الموجودات التي في الأرض بعضها محلل الأرض وبعضها غير محلل، فيكون التبعيض حينئذٍ متعلقاً بالحلية.

وبناءاً على هذا المحتمل، لن تكون الآية الشريفة نافعة للاستدلال بها على المدعى، ضرورة عدم ثبوت إطلاق فيها يمكن التمسك به لإثبات المدعى كما لا يخفى.

الثاني: أن يكون التبعيض متعلقاً بالأكل، بمعنى أن الموجودات الأرض عامة، كلها مباحة، لكن بعضها يصلح للأكل، والبعض الآخر لا يصلح له، فيكون المستفاد منها حيئنذٍ هو الحكم بحلية كل الموجودات الأرضية، وحلية أكل كل ما كانت له قابلية الأكل منها.

وبناءاً على هذا التقريب سوف تكون الآية مشيرة لخصوص ما كانت فيه قابلية الأكل، ومفيدة لحلية أكله، لكنها لا تمنع ثبوت الحلية لبقية الموجودات.

بل لو قيل بعدم إفادتها للحكم بحلية بقية الموجودات، لم يكن في ذلك مجازفة، لأن المتصور عرفاً من الحلية هو قابلية الأكل، فلا معنى للحكم بحليتها ما دامت لا قابلية فيها للأكل، فتأمل.

وبالجملة المستفاد من الآية الشريفة، هو حلية كل شيء من الموجودات الأرضية مما كانت فيه قابلية الأكل، وعليه يثبت عندنا إطلاق يصلح التمسك به والرجوع إليه عند إعواز الدليل، نـتيجة تساقط الدليلين بعد استقرار التعارض، أو نتيجة فقدانه، أو إجماله.

اللهم إلا أن يقال: بأن الآية الشريفة محط البحث دليل على أصالة الإباحة الشرعية، وهذا يعني عدم صلوحها لتكون إطلاقاً يصلح الرجوع إليه، والنكتة في كونها تفيد أصالة الإباحة الشرعية ما ورد في سبب نزولها، إذ ذكر صاحب مجمع البيان(ره) عن ابن عباس أنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني عامر بن صعصعة وبني ملج لما حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة، فنهاهم الله عن ذلك[2].

ومن الواضح أنها طبقاً لسبب النـزول هذا سوف تكون بصدد إثبات الإباحة الشرعية، بمعنى أن كل شيء مباح حتى يرد فيه نهي من الشارع، وأن التحريمات الصادرة من بعض الأفراد لا مجال لقبولها، فيكون وزانها وزان قوله تعالى:- ( قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه)، فتأمل.

ومنها: قوله تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون*إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم)[3]. وقد قرب دلالتها على المدعى بعض الأعلام(دام ظله): بأنه قد تضمنت الآية النص على تحريم جملة من الأشياء بواسطة أداة الحصر، فيستفاد حينئذٍ منها حلية ما عدا ذلك مما لم يذكر ما دام ينطبق عليه عنوان الطيـبات[4].

لا يقال: إن (من) في المقام تبعيضية، وهي تقتضي البناء على حلية بعض الأفراد مما خلق في الأرض من الطيب، فلا يستفاد منها إطلاق يصلح التمسك به في المقام.

فإنه يقال: قد تقدم منا الإشارة إلى أن (من) هنا وإن كانت تبعيضية، لكنها تشير إلى ما فيه قابلية الأكل، لا أنها تشير إلى حلية أكل كل شيء، بل هي تقرر حلية ما كانت فيه قابلية الأكل كما هو واضح.

والظاهر أن الإشكال الذي قدمناه في الآية السابقة من كونها بصدد بيان أصالة الحل الشرعية غير وارد في المقام، لأن مقتضى البيان الذي حكيناه عن بعض الأعلام(حفظه الله) أن الآية الشريفة بصدد البيان بالنسبة لما يحل وما يحرم، وعليه تكون مفيدة لحلية كل ما لم يكن من المذكورات التي وردت في الآية، وعندها تصلح دليلاً اجتهادياً يصح الرجوع إليه للتمسك بإطلاقه عند الحاجة.

نعم في البين إشكال أشار له بعض الأعلام(حفظه الله) يمنع من قبول دلالة الآية الشريفة على المدعى، وهو: أن جعل الحصر الوارد في الآية حصراً حقيقياً يستوجب تخصيص الكثير أو الأكثر المستهجن.

وقد أجاب عنه(دامت بركاته) بجوابين:

الأول: أن يقال بأن ما ثبتت حرمته يكون خارجاً عن إطلاق الحصر بعنوان كلي كالمسوخ أو السباع.

الثاني: أن التحريم الوارد بعد ذلك لم يكن مشرعاً حين نزول الآية، أو أنه تم تشريعه من قبل النبي(ص) بإذن من الله سبحانه وتعالى، وهو لا يتنافى مع الإطلاق القرآني.

هذا وقد تقدمت منا الإجابة عن الثاني فيما مضى عند الحديث عن قوله تعالى:- ( قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه).

ومنها: قوله تعالى:- (وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيـباً)[5].

والظاهر أنه يأتي فيها الكلام الذي قدمناه في آية سورة البقرة رقم 168، لتقارب اللسان، واتحاد المضمون، فيجري فيها ما ذكرناه في تلك الآية الشريفة، فراجع.

ومنها: قوله تعالى:- (فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون* إنما حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أُهل به لغير الله به فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فإن الله غفور رحيم)[6]. وقد قرب دلالتها على المدعى بعض الأعلام(دام ظله) بعين ما سبق تقريـبه لآية سورة البقرة فيما حكيناه عنه[7]، فراجع.

وقد أشار أيضاً إلى إشكال تخصيص الكثير أو الأكثر المستهجن، وأحال في الجواب عنه بما تقدم منه الجواب عنه.

والحاصل، إن قُبل دفع الإشكال بتخصيص الأكثر المشار إليه بما أفاده بعض الأعلام(دام ظله) أمكن القول بأن هناك آيتين تصلحان للدلالة على المدعى، بحيث تكونان بمثابة الإطلاق الذي يمكن الرجوع إليه، وعندها يثبت عندنا قاعدة كلية مفادها البناء على حلية كل شيء، لا من خلال أصالة الحل الشرعية، بل من خلال دليل اجتهادي يمكننا أن نتمسك به كما لا يخفى. أما لو قلنا بعدم تمامية ما أفاده(دامت بركاته) فالظاهر هو عدم ثبوت إطلاق في البين يمكننا الرجوع إليه، وليس لنا حينئذٍ إلا خصوص أصالة الحل الشرعية يرجع لها بعد فقد الأدلة الاجتهادية الخاصة إذا لم يكن هناك ما يمنع من الرجوع إليها، بعد عدم تمامية ما سيأتي التعرض له من الآيات الشريفة، فلاحظ.

ومنها: قوله تعالى:- (ويحل لهم الطيـبات ويحرم عليهم الخبائث)[8]. وتقريب الاستدلال يـبتني على أن يكون المراد من الطيب كل ما تميل النفس إليه ولا تستقذره، ويراد من الخبيث كل ما تـتنفر عنه الطباع وتـتنـزه منه، فعندها يكون مفاد الآية الشريفة: أنه سبحانه وتعالى قد أحل لكم كل ما تميل النفس إليه وترغب فيه، وحرّم عليكم ما تـتنفر منه الطباع.

وعلى هذا نستطيع أن نستفيد من الآية الشريفة قانونين في المقام:

الأول: البناء على حلية كل ما كان طيـباً.

الثاني: حرمة كل ما كان خبيثاً.

والآية بهذا المقدار تصلح دليلاً على المدعى يتمسك به في كل مورد كان من الطيـبات بالمعنى الذي عرفت، فيحكم بحليته، وفي كل مورد كان بمعنى الخبيث فيحكم بحرمته.

وقد أجيب عن الاستدلال بالآية الشريفة بجوابين:

الأول: إن لفظة (الطيب) مجملة، لتعدد المعاني الواردة فيها، ولا مجال لحملها على واحد من المعاني الواردة بالنسبة إليها من دون قرينة تشير إلى ذلك، حيث أنه قد استعملت هذه اللفظة في القرآن الكريم في معاني متعددة:

منها: الحلال، كما في قوله تعالى:- (كلوا من طيبات ما رزقناكم) أي من الحلال.

ومنها: الجيد، كما في قوله تعالى:- ( يا أيها الذين آمنوا انفقوا من طيـبات ما كسبتم).

ومنها: الطاهر، كقوله تعالى:- ( فتيمموا صعيداً طيـباً).

ومنها: ما لا أذى فيه، كقوله تعالى:- (بلدة طيـبة ورب غفور).

ومنها: ما فيه الخير والبركة، كقوله تعالى:- (كلمة طيـبة كشجرة طيـبة).

ومنها: ما تستطيـبه النفس ولا تـتنفر منه، كقوله تعالى:- ( قل أُحل لكم الطيـبات).

الثاني: بعد الإغماض عن الإشكال السابق، فإن الاستدلال بالآية الشريفة يعتمد على ثبوت مفهوم الوصف، المقرر في محله من الأصول عدم ثبوته[9].

هذا وقد ناقش في دلالة الآية الشريفة على المدعى بعض الأعيان(قده) بكونها ليست في مقام البيان لما يحل وما يحرم، بل هي ناظرة إلى شيء آخر، قال(قده): إن الآية الشريفة ليست بصدد بيان تحريم الخبائث، بل بصدد الإخبار عن أوصاف النبي(ص) بأنه يأمرهم بالمعروف، وليس المراد أن النبي(ص) يحرم عنوان الخبائث أو ذاتها، ويحل الطيـبات أو ذاتها، بل بصدد بيان أنه يحل كل ما كان طيـباً، ويحرم كل ما كان خبيثاً بالحمل الشائع، ولو بالنهي عن أكله وشربه، فإذا نهى عن شرب الخمر، وأكل الميتة، ولحم الخنـزير، وهكذا، يصدق أنه حرّم الخبائث، فلا دلالة للآية على تحريم عنوان الخبائث وهو ظاهر[10].

وحاصل كلامه(ره) أن عنوان الخبائث عنوان مشير إلى ما يحرمه رسول الله(ص) من العناوين الخاصة تدريجاً، وهذا يعني أنه لا يوجد في البين حكم تحريمي منطبق على عنوان الخبائث.

ويلاحظ عليه: بأن الخبائث، جمع محلى باللام، وقد ثبت في محله من الأصول أن الجمع المحلى باللام يفيد العموم، وهذا يقتضي أن الآية بمقتضى ثبوت العموم فيها سوف يكون مفادها حينئذٍ حكاية تشريع الحرمة على كل ما يكون مصداقاً للخبيث عرفاً أو شرعاً، فتقرر أن كل ما انطبق عليه عنوان الخبيث عند العرف، فإنه سوف يكون محرماً بمقتضى الآية الشريفة.

ومما ذكرنا يتضح اندفاع الأشكال الأول الذي حكيناه عن بعض الأعلام(دام ظله) من كون الآية الشريفة لا تخلو عن إجمال بسبب تعدد استعمال لفظة الطيب في القرآن الكريم، ولا قرينة معينة. وجه الاندفاع:

بعدما ثبت أن الآية الشريفة بصدد بيان حرمة ما كان خبيثاً عند العرف أو الشرع، والخبيث من العناوين الواضحة، فسوف يكون ذكره في الآية بمقتضى المقابلة قرينة على أن المراد منها هو خصوص المعنى الأخير من المعاني التي ذكرها(حفظه الله)، وعليه لن يكون في البين إجمال أصلاٍ.

نعم لو قيل كما عن بعض الأعاظم(قده) بأن المراد من الخبيث كل ما كانت فيه مفسدة ورداءة ولو كان في الأفعال المذمومة، كما يشهد لذلك إطلاق لفظ الخبيث على العمل القبيح في قوله تعالى:- ( ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث)، ويساعده العرف واللغة[11].

فلن يصلح الاستدلال بها على المدعى، لأن الحرمة سوف تكون منصبة على المعنى الأعم كما لا يخفى، وبالتالي لن تكون في البين قرينة تعين على كون المراد من الطيب ما ذكرناه.

بل إنه(قده) ذكر في موضع آخر أن متعلق التحريم في قوله تعالى:- (ويحرم عليهم الخبائث) هو خصوص العمل الخبيث والفعل القبيح.

إن قلت: إن مقتضى الالتـزام بكون المراد من الخبيث هو العمل القبيح، يستدعي الالتزام بالتقدير، وهو خلاف الظاهر من الآية.

قلت: بأنه لا موجب لذلك، لكون الخبيث بمعنى العمل القبيح كما أثبتنا صحة إطلاق ذلك عليه بدون عناية، وخصوصاً بقرينة قوله تعالى:- (ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث)، فإن المراد من الخبائث فيها اللواط[12].

أقول: ومراده(ره) بما أثبته ما تقدمت منا الإشارة إليه من أن استعمال الخبيث في العمل القبيح أو الردئ، يساعده العرف واللغة، خصوصاً وقد استعمل في القرآن الكريم بهذا المعنى كما هو في الآية الشريفة.

هذا والحاصل، أنه(قده) يقرر أن متعلق التحريم في الآية الشريفة هو الأفعال، ولا يشمل الأعيان، وعليه سوف يكون الموصوف بكونه طيـباً أو خبيثاً هو خصوص العمل، وبالتالي لن توصف الأعيان بكونها طيـبة أو خبيثة. ومن الواضح أن هذا سوف يجعل الآية أجنبية عن المقام تماماً كما لا يخفى.

وهذا المعنى هو ما جزم به شيخنا التبريزي(دامت أيام بركاته)، حيث ذكر أن المراد من الخبيث في الآية الشريفة هو خصوص الأعمال القبيحة وذوات المفاسد، والمراد من الطيـبات ما يكون خلافها[13].

أقول: لابد لتحقيق الحق في معنى الخبيث في الآية الشريفة من ملاحظة بعض كلمات اللغويـين في المقام، فنقول:

قال في ترتيب العين: خبث الشيء خباثة وخبثاً فهو خبيث. وأخبث فهو مخبث: صار ذا خبث وشر. والخابث: الردئ. وأخبث القول ونحوه. والخبيث: نعت كل شيء فاسد، خبيث الطعم، وخبيث اللون[14].

أقول: مقتضى ما ذكره هو صحة اتصاف الأعيان بالخبيث، لأنه عبر عنه بالشيء الفاسد مما يكون له طعم خبيث، وهذا واضح في الأعيان، وليس في الأفعال.

جاء في مفردات الراغب: الخبث الخبيث: ما يكره رداءة وخساسة، محسوساً كان أو معقولاً، وأصله الرديء-إلى أن قال-وذلك يتناول الباطل في الاعتقاد، والكذب في المقال، والقبيح في الفعال، قال عز وجل:- (ويحرم عليهم الخبائث) أي: ما لا يوافق النفس من المحظورات، وقوله تعالى:- (ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث)، فكناية عن إتيان الرجال. وقال تعالى:- (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب)، أي: الأعمال الخبيثة من الأعمال الصالحة، والنفوس الخبيثة من النفوس الزكية، وقال تعالى:- (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب)، أي: الحرام بالحلال، وقال تعالى:- (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات)، أي: الأفعال الردية والاختيارات المبهرجة لأمثالها، وكذا:- (الخبيثون للخبيثات)، وقال تعالى:- (قل لا يستوي الخبيث والطيب)، أي: الكافر والمؤمن، والأعمال الفاسدة، والأعمال الصالحة، وقوله تعالى:- (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة)، فإشارة إلى كل كلمة قبيحة من كفر وكذب ونميمة وغير ذلك، وقال(ص): المؤمن أطيب من عمله، والكافر أخبث من عمله. ويقال: خبيث مخبث، أي فاعل الخبث[15].

أقول: نقلنا كلامه بطوله لكونه قد أشتمل على عدة أمور مهمة، نشير لبعض منها:

الأول: لقد تعرض لنقل عدة آيات، تدل على أن الحرمة والحلية كما تتعلق بالأفعال تـتعلق بالأعيان أيضاً، كما أن وصف الخبيث كما يطلق على الأفعال، يطلق على الأعيان، وهذا يستدعي أن ما ورد في كلمات بعض الأعاظم(قده) وشيخنا التبريزي(دامت بركاته) من تخصيصه بخصوص الأفعال، لا يمكن المساعدة عليه.

الثاني: مقتضى ما ذكره في مطلع حديثه في مقام بيان حقيقة الخبيث وماهيته، أنه من المعاني المطلقة ذات المجال الواسع، حيث أنه جعله بمعناه شاملاً للفعل والعين، وهذا يعني أنه لا مانع من التمسك بالآية الشريفة لإثبات حرمة كل ما يكون فيه رداءة وخساسة من الأطعمة، فيصلح الاستدلال بها على المدعى.

وجاء في القاموس المحيط: الخبيث ضد الطيب، خبث ككرم، خبثاً وخباثة[16].

أقول: إذا كان الطيب من المعاني الواضحة المحددة، فإنه يمكننا حينئذٍ تعيـين المراد من الخبيث، لأنه جعل تميـيز حقيقة الخبيث من خلال كونه ضد الطيب.

والإنصاف، لا يـبعد القول بكون لفظ الخبيث والطيب من الألفاظ العرفية التي لا تحتاج في معرفة حقيقتها إلى مزيد بيان، فالمراد من الخبيث بحسب المتبادر العرفي هو كل ما تستقذره النفس وتـتنفر منه الطباع، وتمجه، ويقابله معنى الطيب، وهو ما تميل النفس إليه وتستلذه وتعشقه.

نعم لا يـبعد أن يقال: بأنه ليس ما استقذره العرف، قد أمضاه الشارع، وليس كل ما أستطيـبه العرف، قد أمضاه الشارع، بل ربما أمضى الشارع بعض القضايا المستقذرة عرفاً وأشار إلى قبولها، وربما استقذر الشارع عرفاً أمور استطيـبها الشارع، ولذا بمجرد نهي الشارع المقدس عنها، فإنه سوف تكون من الخبائث تعبداً لأنه لا يتصور صدور النهي من الشارع إلا لترتب مفسدة متصورة في البين فيها.

بقي أن يشار في الختام في الحديث عن الآية الشريفة، أن المرجع في تشخيص كون هذا الشيء من الطيب، ليحكم بحلية أكله، وبين كونه من الخبيث ليحكم بحرمته، هو العرف الذي لا يكون مفرطاً ولا مفرطاً، لأننا قد قررنا أن هذين العنوانين من الموضوعات العرفية التي تدخل الشارع المقدس فيها في الجملة، فيكون الرجوع في تحديدها للعرف.

والأنصاف تمامية الآية الشريفة للدلالة على المدعى، لولا الإشكال الثاني الذي سبقت الإشارة إليه عن بعض الأعلام(دام ظله) من كون دلالتها تعتمد على ثبوت المفهوم للوصف، وقد قرر في محله عدم ثبوته، والله العالم بحقائق الأمور.

——————————————————————————–

[1] سورة البقرة الآية رقم 168.

[2] مجمع البيان ج 1 ص 324.

[3] سورة البقرة الآية رقم 172.

[4] مجلة فقه أهل البيت العدد الأول ص 43.

[5] سورة المائدة الآية رقم 89.

[6] سورة النحل الآية رقم 114-115.

[7] مجلة فقه أهل البيت العدد الأول ص 48.

[8] سورة الأعراف الآية رقم 157.

[9] فقه الصادق ج 24 ص 96.

[10] المكاسب المحرمة ج 1 ص 51.

[11] مصباح الفقاهة ج 1 ص 57.

[12] مصباح الفقاهة ج 1 ص 173.

[13] إرشاد الطالب ج 1 ص 37.

[14] ترتيب العين ج 1 ص 456.

[15] مفردات ألفاظ القرآن ص 272.

[16] القاموس المحيط ج1 ص 268.