- موقع سماحة العلامة الشيخ محمد العبيدان القطيفي - https://www.alobaidan.org -

الاصطفاء والمصطفون(1)

الاصطفاء والمصطفون(1)

 

من المفاهيم التي تكررت في القرآن الكريم مفهوم الاصطفاء، فقد ورد في غير واحدة من آياته المباركة، فقال تعالى:- (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين* ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم)[1] [1]. وقال سبحانه:- (الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس)[2] [2]، وقال عز من قائل:- (ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين)، وقال أيضاً:- (إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين)، وقال:- (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم)، وغير ذلك من الآيات التي يقف عليها من يقرأ المصحف الشريف.

 

ويكشف هذا التركيز القرآني على هذا المفهوم عن كونه ذا مداليل عظيمة، ويساعد على حل العديد من إشكالات المعرفة الدينية التي يواجهها المكلف شرط حصول الفهم الصحيح لهذا المفهوم والإحاطة التامة بالمصطفين الربانيـين.

ومن الواضح أن هذا لا يكون إلا بالإحاطة بالمقصود من الاصطفاء الإلهي، وتحديد النسبة بينهم وبين مفهوم الاجتباء الذي ذكر في بعض الآيات، وسوف نركز البحث على قوله تعالى:- (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين* ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم).

 

حقيقة الاصطفاء:

وسوف يكون تحديد المقصود من الاصطفاء بلحاظ ما تضمنته كتب اللغة حول هذه المفردة، والاستعمال الديني لها، سواء ما جاء في الآيات القرآنية، أم ما جاء في النصوص.

أما في اللغة، فإن المستفاد من كلمات أهل اللغة، أخذ مفهوم الاصطفاء من أحد معنيـين:

الأول: من الصفاء والصفو، وهو يعني الخلوص من الشوائب في مقابل الكدر، فيقال ماء صافٍ، بمعنى خالص، أو سماء صافية أي بدون غيوم.

ووفقاً لهذا المعنى، فإن الاصطفاء يعني الاستخلاص من كل الكدورات والشوائب.

 

الثاني: من الاصطفاء، وهو بمعنى الاختيار، وهو مأخوذ من صفوة الشيء، وهو اختياره.

وقد ذكر المعنيان في كلمات الراغب الاصفهاني في المفردات، قال: أصل الصفاء خلوص الشيء من الشوائب، ومنه الصفا للحجارة الصافية، قال تعالى:- (إن الصفا والمروة من شعائر الله)، والاصطفاء تناول صفو الشيء، كما أن الاختيار تناول خيره، والاجتباء تناول جبايته.

ووفقاً لما تقدم، يكون المقصود من الاصطفاء هو الإرادة والرغبة في جعل شيء أو أحد ما خالصاً صافياً، ومعنى اصطفى الله يعني شاء الله أن يكون شيء أو أحد مُخلصاً صافياً.

وهذا إنما يتم حال توفر أمور:

1-التوفيق من الله تعالى.

2-التأيـيد منه سبحانه.

3-تهيئة أسباب الهداية للسائرين في صراط الحق[3] [3].

 

ولم يختلف الاستعمال القرآني لهذا المفهوم عن معناه اللغوي، فاستعمل في العديد من الآيات بمعنى الانتخاب والاختيار، وبمعنى الاستخلاص من التلوث والكدورة، وذلك من خلال وصفه تعالى المصطفين في الآيات بصفات الخير والصلاح والطهارة، قال تعالى:- (ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين)، وقال سبحانه في حديثه عن السيدة مريم:- (يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين).

وبنفس هذا المعنى أيضاً استعمل هذا المفهوم في الروايات، فقد روى الصدوق(ره) بسنده في كتابه الخصال عن أبي الحسن الأول(ع)، قال: قال رسول الله(ص): إن الله اختار من كل شيء أربعة: اختار من الملائكة جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت(ع)، واختار من الأنبياء أربعة للسيف: إبراهيم وداود وموسى وأنا، واختار من البيوتات أربعة، فقال:- (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين)، فقد فسر(ص) الاصطفاء الوارد في الآية المباركة بالاختيار والانتخاب.

 

تصنيف الجنس البشري:

ومن خلال الإحاطة بحقيقة الاصطفاء ومعناه، يمكن تصنيف الجنس البشري إلى صنفين:

الأول: الصافي النفي وهم المصطفون.

الثاني: الكدر الملوث المظلم النجس.

ومن الواضح أن سبب هذا التصنيف هو ما يملكه كل صنف من عقائد وأخلاق وأعمال، فالذين يتبعون المنهج السماوي يكونوا من أهل الصفوة والصفاء، أما الذين يتبعون مدارس الالحاد فإنهم من النجس.

 

بين الاصطفاء والاجتباء:

ورد في القرآن الكريم استعمال مفهوم الاجتباء، وربما تصور البعض كونه مساوياً لمفهوم الاصطفاء وأن كليهما يدل على الاختيار، وأن الله سبحانه وتعالى قد أختار وانتخب المصطفى والمجتبى، إلا أن التدقيق في موارد استعمال مفهوم الاجتباء في القرآن يفيد أنه أخص من الاصطفاء إذ ليس كل مجتبى مصطفى، نعم كل مصطفى مجتبى، فلاحظ قوله تعالى:- (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا ونوحاً من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين* وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين* وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضلنا على العلامين* ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم)، فقد ورد الوصف لمن ذكروا في الآية بالاجتباء والتفضيل على غيرهم من العالمين.

 

وبعد أن ذكر الباري عز وجل أسماء من الأنبياء في سورة مريم، قال سبحانه:- (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيـين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً)[4] [4].

نعم قد يكون المجتبى مصطفى، إلا أنه ليس بذات الاصطفاء الوارد ذكره في قوله تعالى:- (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين)، لأن الاصطفاء الوارد في الآية يختلف عن بقية الاصطفاءات والاختيارات الأخرى التي ذكرت في القرآن الكريم بحيث أن آدم(ع) قد أعطي شيئاً تساوى فيه مع أولي العزم من الرسل الذين فضلوا على غيرهم مع أنه(ع) ليس صاحب شريعة.

 

أقسام الاصطفاء:

إن المستفاد من الآيات القرآنية أن هناك قسمين للاصطفاء:

الأول: الاصطفاء النفسي، ويعبر عنه بالاصطفاء الذاتي، وهو الذي يكون الشيء مصطفى ومخلَصاً في نفسه وحدّ ذاته، ويشير لهذا القسم قوله تعالى:- (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين)، وقوله سبحانه:- (واذكر عبادنا إبراهيم واسحاق ويعقوب وأولي الأيدي والأبصار* إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار* وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار)، فإن الاصطفاء المذكور لهذه الشخصيات من الاصطفاء النفسي.

 

الثاني: الاصطفاء النسبي، وهو الذي يحصل من خلال مقايسة الشيء بغيره فيرجح على الغير، مثل ما ورد في اصطفاء طالوت، قال تعالى:- (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم). ومثل ذلك قوله سبحانه:- (يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين).

 

وقد يجعل من هذا القسم قوله تعالى:- (إن الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير)، بلحاظ أن تنوع الأدوار والوظائف الثابتة لكل فئة من الملائكة تشير لنحو اصطفاء لفئة منهم لهذا العمل لتقوم به دون غيرها من الملائكة، فتأمل.

وقد اجتمع القسمان الاصطفاء النفسي والاصطفاء النسبي في قوله تعالى:- (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين)، فإن الاصطفاء الأول نفسي، بينما الاصطفاء الثاني نسبي، لأنه قد تضمن اصطفاء السيدة مريم(ع) على العالمين.

والظاهر من كلمات المفسرين البناء على أن الاصطفاء الوارد في قوله تعالى:- (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين)، من القسم الثاني، وهو الاصطفاء النسبي، واستندوا في ذلك إلى وجود حرف الجر على، فإنه يفيد الاستعلاء، وهو لا يكون إلا بوجود فئة قد اصطفي المصطفى عليها، نعم لو كان الاصطفاء ذاتياً لاستخدم سبحانه وتعالى حرف الجر(من)، وكان التعبير عندها: من العالمين.

 

ووفقاً لما ذكر، لن يكون الحصر الوارد في الآية الشريفة حصراً حقيقياً، بل سوف يكون حصراً إضافياً. نعم إن كل اصطفاء نسبي لابد وأن يكون مسبوقاً باصطفاء نفسي، إذ لا يتصور تحقق الاصطفاء النسبي إلا بعد أن يكون المصطفى قد اصطفي اصطفاء نفسياً.

ولو بني على أن الاصطفاء من القسم الأول لم يكن بعيداً، وذلك بملاحظة أن الحصر الوارد في الآية حصر حقيقي، وليس حصراً إضافياً، ووجود حرف الجر(على) لا ينافي أن يكون الاصطفاء ذاتياً، لأن المفروض أن للاصطفاء موضوعاً قد أوجب أن يصطفى المصطفى لسببه، وهذا ما سوف يتضح في ما يأتي.

 

وبكلمة، لما كان الاصطفاء في الآية المباركة كاشفاً عن وجود خصوصية في المصطفى، حصر الله سبحانه الاصطفاء في خصوص من تضمنتهم الآية دون غيرهم، فلم يذكر أحداً سواهم من الأنبياء والمرسلين والأوصياء الذين كانوا بين آدم ونوح مثل: هبة الله، وشيث، وإدريس، وغيرهم

 

 

 

 

[1] [5] سورة آل عمران الآيتان رقم 33-34.

[2] [6]

[3] [7] التحقيق في مفردات ألفاظ القرآن الكريم(بتصرف يسير)

[4] [8]