- موقع سماحة العلامة الشيخ محمد العبيدان القطيفي - https://www.alobaidan.org -

القرض الاستثماري مع الزيادة(3)

القرض الاستثماري

مع الزيادة(3)

 

الثالث: البناء على صحة استعمال الحرمة في الآية في المعنيـين:

وقد اتفق أصحاب هذا القول على ذلك وفقاً للدلالة الوضعية، كما أشار لذلك بعض الأعاظم(ره)، لأن معنى الحل في اللغة هو الاطلاق والإرسال، ويقابله التحريم، الذي هو بمعنى المنع والحجر، ومن الواضح أن الحل بهذا المعنى يناسب الحلية الوضعية والتكليفية معاً، فيصح استعماله في كلتيهما معاً، ويختلف ذلك حسب اختلاف الموارد والقرائن، وهكذا الحال في لفظ التحريم الذي هو مقابل الحل، فإنه يعمّ التحريم الوضعي والتحريم التكليفي كليهما، وإرادة خصوص أحدهما دون الآخر من ناحية القرائن الحالية أو المقالية[1] [1].

 

نعم حسب الدلالة التصديقية وتحديد مراد الشارع المقدس من الحلية والحرمة في الآية، وتحديد المراد، فإنه سوف يختلف الحال عندها، ولذا أختلف القائلون بهذا القول على أراء:

أحدها: ما يظهر من صاحب العروة(ره) في حاشيته على المكاسب، من حمل الحلية والحرمة في الآية الشريفة على القدر المشترك الجامع بين التكليفية والوضعية، فيكون المقصود من الحلية التكليفية الجواز، والوضعية الصحة في نفس الوقت[2] [2].

ثانيها: ما أختاره بعض الأعاظم(ره)، من أن صحة الاستعمال في تحديد أي الحليتين أو الحرمتين تختلف حسب اختلاف الموارد والقرائن، فيختلف الأمر باختلاف المتعلق حسب مناسبات الحكم والموضوع، فإذا أسند في كلام الشارع إلى الأفعال أو الموضوعات الخارجية أريد به الحل من حيث التكليف، وعدم العقاب، أما لو أسند إلى الاعتبارات العرفية كالبيع، أريد به الصحة والنفوذ بمناسبة الحكم والموضوع، ومثل ذلك الحال في الحرمة أيضاً[3] [3].

ولبعض الأعيان(قده) كلام قد يستظهر منه بناؤه على هذا المعنى أيضاً، قال(ره): وليعلم أن كلاً من الأمر والنهي والوجوب والحرمة له من المعنى في تعلقه بهذه العناوين ما له في تعلقه بشرب الخمر مثلاً، فالنهي عن الربا وشرب الخمر قد استعمل في الزجر على السواء، غير أنه إذا تعلق بأمر نفسي تبادرت منه كراهة وجوده وتحققه، وإذا تعلق بما يرتبط بغيره تبادرت منه المانعية له، هكذا يفهم العرف في كلا المقامين، وليقس عليه حال الأوامر والوجوبات والتحريمات.

بعبارة أخرى: إن المستعمل فيه واحد في كل مقام، وإنما تكون الخصوصيات من اختلاف المتعلقات[4] [4].

 

ثالثها: ما أختاره بعض الأعلام(ره) من تعين الحرمة الوضعية في الآية حتى وإن كانت الحلية والحرمة فيها شاملة للأمرين التكليفي والوضعي، وذلك بسبب وجود قرينة في المقام وهي المقابلة بين حلية البيع وحرمة الربا، فيكون المعنى أن البيع نافذ، والربا غير نافذ، ومقتضى هذه القرينة المقامية يستدعي أن تكون الحلية في الآية والحرمة وضعية[5] [5].

والصحيح من هذه الأقوال هو القول الثالث، والمتعين منه هو الرأي الثاني، لأن المتأمل يقف على أن الحلية والحرمة يستعملان في الكتاب والسنة في المعنى الجامع للتكليف والوضع، ويكون تعين أحدهما بحسب الموضوع والقرائن، وعليه، فالمقصود من حلية البيع هي صحته ونفوذه شرعاً، والمقصود من حرمة الربا فساده وعدم نفوذه. نعم ينبغي الالتفات إلى أن الحل والحرمة في الآية قد تعلقا بنفس عنواني البيع والربا، فأريد منه في البيع الوضع وهو صحته وترتيب الآثار، وأريد منه في الربا الفساد وعدم ترتيب الآثار عليه.

ووفقاً لما تقدم، لن يكون للآية ربط بمحل الكلام، لأنها سوف تكون ناظرة إلى فساد المعاملة الربوية، وعدم حصول النقل والانتقال للمال من الدافع إلى الآخذ، ولا دلالة لها على الحرمة.

 

تحديد المقصود من الربا في الآية:

ثم إنه بعد الفراغ عن كون المقصود من الحرمة الواردة في الآية أنها الحرمة الوضعية، يقع الكلام في تحديد المقصود من الربا فيها، وأنه الربا المعاوضي، أو الربا القرضي؟

ذكر بعض الأساطين(ره) أن الآية الشريفة لا تخلو عن إجمال من هذه الجهة، لأنه ليس المراد من الربا فيها معناه اللغوي، كما أن المعنى الشرعي للربا ليس ظاهراً منها، وهذا يمنع من صلاحيتها للمرجعية في إثبات العموم للمنع[6] [6].

والمستفاد من كلام الشيخ الطبرسي(ره) في مجمع البيان أن المقصود من الربا في الآية هو ربا الدين، والذي كان يعرف بالربا الجاهلي، قال(قده): أحل الله البيع وحرم الربا، أي أحل البيع الذي لا ربا فيه، وحرم البيع الذي فيه الربا، والفرق بينهما أن الزيادة في أحدهما لتأخير الدين، وفي الآخر لأجل البيع، وأيضاً فإن البيع بدل البدل، لأن الثمن فيه بدل المثمن، والربا زيادة من غير بدل للتأخير في الأجل، أو زيادة في الجنس[7] [7]. ويساعد على ما ذكره(ره) قوله تعالى حكاية عنهم:- (ذلك بأنهم قالوا  إنما البيع مثل الربا)، لأنه ظاهر في ربا النسيئة، وهو المعروف بربا الجاهلية كما تقدمت الإشارة إليه. مضافاً لما نقله هو والراوندي عن ابن عباس، وقد تقدمت الإشارة إليه عند تقريب دلالة الآية على المدعى.

 

وقد يستدل لكون المقصود من الربا في الآية  هو الربا القرضي، ببعض النصوص مثل خبر عمر بن يزيد المتقدم، لأن الإمام(ع) قد طبق الآية الشريفة على ربا النسيئة، إلا أنه في غير محله، لأن المورد من صغريات الجري والتطبيق، وهذا لا يمنع من شمولها للربا المعاوضي.

نعم يمنع من الاستناد إليها ما ذكره بعض الأعيان(ره) من عدم ثبوت إطلاق إليها، لوجود مانعين يمنعان من ذلك:

الأول: إن الظاهر من الآية الشريفة أنها بصدد نفي التسوية بين البيع والربا، وليست بصدد بيان حلية البيع وحرمة الربا، في مقابل من قال بالتسوية بينهما، كما يشير لذلك قوله تعالى:- (إنما البيع مثل الربا)، فتكون أجنبية عن المدعى، لأنها بصدد بيان حكم آخر، فلا تصلح للتمسك بإطلاقها.

الثاني: كونها بصدد الإخبار عن حكم سابق، وليست بصدد إنشاء فعلي للحرمة، فيحتمل أن يكون الحكم المجعول سابقاً بنحو خاص، فلا يظهر حال ما جعل من حرمة للربا من حيث السعة والضيق. بقرينة قوله:- (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا)، فلابد أن يكون حكم البيع مجعولاً سابقاً حتى يتوجه التعبير والتوعيد على القائل بالتسوية.

 

فظاهر الآية أن الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كذا لأجل قولهم خلاف قوله تعالى حيث قالوا:- (إنما البيع مثل الربا)، مع أن الله أحل البيع وحرم الربا، فقولهم هذا صار موجباً للعذاب والعقاب الأخروي، فلا تكون الآية بصدد بيان الحل والحرمة، بل بصدد الإخبار عن حلية وحرمة سابقتين، فلا إطلاق لها لاحتمال أن يكون الحكم المجعول سابقاً بنحو خاص، فلا يظهر حال المجعول هل كان مطلقاً، أو مقيداً[8] [8].

وقد منع إطلاقها أيضاً، بعض الأعلام(ره) متمسكاً بمقتضى السياق، قال(قده): سياق الآية الشريفة لا يناسب ورودها لبيان حلية البيع وحرمة الربا وتشريعهما، ليكون مقتضى إطلاقهما عموم الحلية والحرمة المذكورتين، بل ورودها لاستنكار تشبيه البيع بالربا استهواناً بتحريم الربا ورداً له، بعد الفراغ عن حرمة الربا وحلية البيع، فلا يكون لها لإطلاق في ذلك، بل لا تدل إلا على حلية البيع وحرمة الربا في الجملة، ولو بلحاظ الأفراد الشائعة منهما[9] [9].

ووفقاً لما تقدم، لن تصلح الآية الشريفة للدلالة على حرمة مطلق القرض الربوي، لما عرفت من أنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة.

 

وقد منع بعض الأعلام(ره) دلالة الآية الشريفة على حرمة الربا الاستثماري، واختصاصها بالربا الاستهلاكي بأمرين:

الأول: إن الله تعالى يريد أن يقدم جواباً تعبدياً لآكلي الربا، فليس هو سبحانه بصدد وضع حدود فاصلة تميز ما بين البيع والربا، الأمر الذي يخالف العادة القرآنية في بيان الأحكام، ذلك أن النص القرآني يسعى جاهداً على الدوام لإقناع مخاطبه إلى جانب إبلاغه بالحكم الشرعي، وكمثال على ذلك عندما يتحدث الله تعالى عن وجوب الصيام يرفق حديثه ببيان فلسفته، فيقول:- (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، وهكذا الحال عندما تحدث عن وجوب الحج، أشار إلى منافعه وعوائده الخيّرة على الإنسان، فقال:- (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً)، مضيفاً في آية أخرى:- (ليشهدوا منافع لهم)، وعلى المنوال نفسه حكم القرآن بوجوب إقامة الصلاة، حيث عدّ المنع عن المنكرات والفحشاء فلسفة لها، فقال:- (وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر).

 

وبذلك يتبين أن الله تعالى إنما كان يدعو الناس إلى مرتكزاتهم عندما ميّز بين البيع والربا، وهذا معناه أن الناس يدركون بأنفسهم أن هناك اختلافاً بين بيع بضاعة نسيئة مع زيادة في القيمة وبين إقراضهم شخصاً مشترطين عليه بداية الزيادة، أو عجز المقترض عن تسديد المستحَق في الموعد فيأخذون منه مبلغاً مقابل منحه فرصة أخرى، وهكذا. والسبب أن الصورة الثانية قبيحة ومنكرة، أما الصورة الأولى فليس حالها كذلك.

الثاني: إنه ربا، ينبعث من الاستغلال السيء للفقر والعجز الذي يواجهه ضعفاء الناس، فيشترط مبلغاً إضافياً مقابل دفع القرض، وهو ما لا يساعد على تقدم الحضارة الإنسانية، لا بل يقف سداً عالياً ومنيعاً أمامه.

وبذلك يتبين أن الربا الاستهلاكي، ولا تشمل بأي وجه من الوجوه أنواع الربا الانتاجي الاستثماري[10] [10].

 

وقد عرفت تمامية المانع الأول عند الحديث عن عدم وجود إطلاق للآية الشريفة. وأما المانع الثاني، وهو الذي يقوم على الالتـزام بأن المنشأ لتحريم الربا كونه ظلماً بنظر العقلاء بما هم عقلاء، ولا ربط لذلك بالشارع المقدس، فيكون التحريم الصادر منه إمضاء لما عليه العقلاء، وحكم العقل بقبحه، وليس ذلك راجعاً لوجود مصلحة أو مفسدة واقعية في ذلك، ولذا سوف تختص الحرمة عندها بالربا الاستهلاكي دون الانتاجي الاستثماري، لعدم انطباق عنوان الظلم عليه، فلا موجب للبناء على حرمته، فسوف يأتي البحث عنه فأنتظر.

 

 

 

[1] [11] مصباح الفقاهة ج 2 ص 105.

[2] [12] حاشية المكاسب ج 1 ص 240.

[3] [13] موسوعة الإمام الخوئي ج 36 ص 77.

[4] [14] البيع تقرير السيد حسن الظاهري الخرّم آبادي ج 1 ص 115.

[5] [15] هدى الطالب إلى شرح المكاسب ج 1 ص 378-379.

[6] [16] مستمسك العروة ج 12 ص 148-149.

[7] [17] مجمع البيان ج 1 ص 360.

[8] [18] كتاب البيع ج 1 ص 59-61.

[9] [19] مصباح المنهاج كتاب التجارة ج 1 ص 14.

[10] [20] رسالة الربا الاستثماري ص 32.