19 مارس,2024

أبعاد الزيارة المعنوية

اطبع المقالة اطبع المقالة

أبعاد الزيارة المعنوية

 

اختلفت ألسنة النصوص الشريفة التي تتحدث عما يناله الزائر لقبر الإمام الحسين(ع)، فوردت فيها تعبيرات مختلفة، فجاء في بعضها أنه يغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقد جاء عن الإمام الكاظم(ع) أنه قال: من زار قبر الحسين(ع) عارفاً بحقه غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر[1]. بل جاء عنه(ع) أن هذا هو أدنى ما يثاب به زائره(ع)، قال(ع): أدنى ما يثاب به زائر الحسين(ع) بشط الفرات إذا عرف حقه وحرمته وولايته أن يُغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر[2].

وقد اشتملت بعض النصوص أن غفران ذنوبه يكون بأول خطوة يخطوها في طريق الزيارة، فعن أبي عبد الله(ع) قال: إن الرجل ليخرج إلى قبر الحسين(ع) فله إذا خرج من أهله بأول خطوة مغفرة من ذنوبه ثم لم يزل يُقدّس بكل خطوة حتى يأتيه، فإذا أتاه ناجاه الله، فقال: عبدي سلني أُعطك، ادعني أجبك، اطلب مني أُعطك، سلني حاجتك أقضيها لك، قال: وقال أبو عبد الله(ع): وحق على الله أن يعطي ما بذل[3].

وعنه(ع) أنه قال: إن لله ملائكة موكلين بقبر الحسين(ع) فإذا هم الرجل بزيارته أعطاهم الله ذنوبه، فإذا خطا محوها، ثم إذا خطا ضاعفوا حسناته، فما تزال حسناته تضاعف حتى توجب له الجنة[4].

وجاء في قسم آخر من النصوص التي تتحدث عما يناله الزائر لقبر الإمام أبي عبد الله الحسين(ع) أنه يزاد في رزقه ويمدُ في عمره، ويدفع مدافع السوء، فقد ورد عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين(ع)، فإن إتيانه يزيد في الرزق ويمد في العمر، ويدفع مدافع السوء، وإتيانه مفترض على كل مؤمن يقر للحسين بالإمامة من الله[5]. بل جاء في بعض النصوص أن ترك زيارته عاماً يوجب نقصان العمر، فقد ورد عن أبي عبد الله(ع) أنه قال: من لم يزر قبر الحسين(ع) فقد حرم خيراً كثيراً، ونقص من عمره سنة[6].

وجاء في قسم ثالث من النصوص أن زائر الإمام الحسين(ع) يزور الله في عرشه، ويكون في أعلى عليـين، فعن زيد الشحام، قال: قلت: لأبي عبد الله(ع) ما لمن زار قبر الحسين(ع)، قال: كان كمن زار الله في عرشه[7]. وعنه(ع) أنه قال: من أتى قبر الحسين(ع) عارفاً بحقه كتبه الله في أعلى عليـين.

وتصور عدم وجود فرق بين النصوص المتقدمة، وإن اختلفت ألسنتها في بيان ما يعطاه الزائر من الثواب والأجر، لأنها تشير إلى شيء واحد وهو الثواب والأجر الذي يلقاه ويعطاه من قبل الله تعالى، في غير محله، وذلك لأن كل واحد من هذه الألسن يشير لشيء يختلف عما يشير إليه الآخر، ويتضح ما ذكرناه بملاحظة التالي.

 

آثار الزيارة:

إن التدقيق في ألسنة النصوص المتعرضة لما يناله الزائر عند زيارته لقبر الإمام الحسين(ع) يفيد أن هناك آثاراً ثلاثة للزيارة قد يحصل الزائر على أحدها فقط، وقد يحصل على اثنين منها، وقد يحصل على الثلاثة جميعاً، وتوضيح ذلك:

إن النصوص التي تقدمت الإشارة إليها تشتمل على موضوعات مختلفة فيدل كل قسم منها على أثر معين يناله الزائر، وتلك الآثار هي:

 

الأول: الجزاء:

وهو الأجر والثواب الذي يعطاه كل من يقصد قبر الإمام الحسين(ع)، وهذا تفضل من الله تعالى على عبده، لأنه لا يستحق عليه شيئاً، ويشير لهذا الأثر النصوص التي تحدثت عن غفران الذنوب ومحوها.

 

الثاني: الآثار الوضعية المترتبة على الزيارة:

والتي يحصل عليها الزائر نتيجة زيارته، من سعة الرزق وطول العمر ودفع مدافع السوء، وقد تضمن القسم الثاني من النصوص هذا الأثر، ومن ذلك أيضاً ما جاء في بعض النصوص أن أيام زيارته لا تحسب من عمره.

وهذه الآثار نوعان:

1-آثار تكوينية، لا تنفك عن العمل وتكون ملازمة له، كملازمة العلة للمعلول، والسبب للمسبب.

2-آثار جعلية اعتبارية، بأن يجعلها الله سبحانه وتعالى تكريماً لزوار الإمام الحسين(ع).

 

الثالث: المقامات والدرجات التي ينالها الزائر:

بعد زيارته الإمام الحسين(ع) وهذا مثل التعبير بزار الله في عرشه، أو كان في أعلى عليـين، فإن هكذا تعبير ليس من الثواب في شيء، وليس من الآثار الملازمة بحسب الظاهر، وإنما هو مقام يعطاه الزائر ودرجة ينالها جراء زيارته للإمام الحسين(ع).

وقد اتضح مما تقدم، أن كل قسم من النصوص يتحدث عن أثر من الآثار المترتبة على الزيارة.

ومن المعلوم تفاوت الزوار في الحصول عليها، فليس كل الزائرين يحظون بالآثار الثلاثة، فإن بعضهم يحظى بالأثر الأول، وهم كثيرون، وقد ينال فريق الأثر الثاني، إلا أن الحاصلين على الأثر الثالث هم من القلة بمكان.

وحتى يتحصل الزائر على الآثار الثلاثة ولا أقل الأثرين الأول والثاني، فإنه يحتاج شروطاً لابد من توفرها عنده.

 

وسائل تحصيل المقام الخاص للزيارة:

إن الحصول على الآثار الثلاثة التي تضمنتها النصوص الشريفة لزيارة الإمام الحسين(ع)، رهين توفر شروط وصفات عند الزائر ما لم تكن عنده، فلن يحصل على شيء منها، وهي:

 

الأول: المعرفة الحسينية الحقة:

وذلك بصحة المعتقد في الإمام الحسين(ع)، وفق منهج الوسطية في ذلك، فلا إفراط ولا تفريط، فلا يعتقد الزائر فيه(ع) عقيدة الغلاة، ولا يكون معتقده فيه عقيدة المقصرين، بل يكون وسطياً، فيعتقد به وفقاً للمقام الذي أعطاه الله تعالى إياه وجعله له، ويعتقد بإمامته وخلافته عن الله سبحانه وتعالى، ويشير إلى ذلك ما تضمنته زيارة عاشوراء: لعن الله أمة أزالتكم عن مقامكم، والمقصود بالمقام هو مقام الخلافة الإلهية الذي جعله الله تعالى للأئمة الأطهار(ع)، وهذا قد يفسر سر التأكيد الدائم في نصوص الزيارة على أن يكون الزائر عارفاً بحقه.

 

ولم يختص القيد المذكور بزيارة الإمام الحسين(ع)، بل ورد ذلك في زيارة بقية المعصومين(ع)، وهذا يشير إلى أن هناك حقاً عاماً يحتاج الزائر معرفته، وهناك حقاً خاصاً لكل واحد من المعصومين(ع)، لابد من معرفته أيضاً، لبلوغ المقامات ونيل الدرجات، ولما كان الحديث عن المولى الحسين(ع) فلنشر إجمالاً للمقام الخاص به اللازم معرفته، ونتمنى التوفيق لعرض ذلك في مقال آخر بصورة مفصلة:

 

إن للإمام الحسين(ع) حقاً على الله سبحانه وتعالى، كما أن له حقاً على الرسول الأكرم محمد(ص)، والأئمة الطاهرين(ع)، فأما حقه على الله عز وجل، فإنه لولاه(ع) لما عبد الله على وجه الأرض، ولأنمحى دينه فقد كان بنو أمية يسعون إلى ذلك.

وأما حقه على الرسول الكريم، والأئمة الطاهرين(ع)، فإنه كان سبباً لبقاء ذكرهم، وهذا هو الفرق بين الإمام الحسين(ع) وبقية المعصومين(ع)، فإنه بهم(ع) قد عُرف الله، ولكن بالإمام الحسين(ع) بقيت عبادة الله، ويستكشف هذا المعنى من الزيارة: لقد قتلوا بقتلك الإسلام، وعطلوا الصلاة والصيام، ونقضوا السنن والأحكام وحرفوا آيات القرآن. فقد كان هذا هو الهدف الذي يسعى له الأمويون إلا أن الدم الزاكي الذي أريق على أرض كربلاء كان سبباً موجباً لبقاء ذلك كله.

كما أن له(ع) حقاً على مسلم ومسلمة، لأنه حفظ دينهما، وأكمل إنسانيتهما، بل له حق على البشرية جمعاء، لأنه قد عرفها نهج العزة والكرامة، والتخلص من الذل والهوان، كما علمها محاربة شياطين النفوس والجبابرة، وأن الدين أغلى من كل شيء حتى النفس والأولاد.

 

الثاني: طهارة المال والبدن:

بأن يكون ما يصرفه الزائر في زيارته من المال الحلال الخالص، وليس مشتبهاً، فضلاً عن أن يكون مالاً حراماً، فإن صاحب المال المشتبه وإن حصل على ثواب الزيارة، بل ربما حصل أيضاً على بعض آثارها المادية، إلا أنه لن ينال شيئاً من المقامات الخاصة بالزائرين.

وكما يلزم أن يكون مال الزائر طاهراً، لابد وأن يكون بدنه كذلك أيضاً، وهذا يستدعي حاجة الإنسان لمجاهدات عديدة حتى يتمكن من الوصول إلى هذه المرحلة وبلوغها، فإن الوصول لأن يكون الزائر محدثاً[8] لله في عرشه كما في الرواية عن الإمام الرضا(ع) لا يكون لكل أحد، بل يختص ذلك بمن كان طاهر المال والبدن.

واعتبار هذا الشرط من الواضحات، إذ لا ريب في منع المال الحرام والجسد الحرام صاحبهما من الحصول على المقامات والدرجات الخاصة بالزائرين.

 

الثالث: تفريغ النفس للزيارة:

وذلك بأن يفرّغ الزائر نفسه لذلك من حين خروجه من داره قاصداً أرض كربلاء المقدسة حتى يبلغ الحائر الحسيني، ويوفق للثم العتبات الطاهرات واستلام الضريح المبارك.

والمقصود من تفرغه لذلك أن لا يكون مشغولاً خلال تلك الفترة بشيء غير الله تعالى، فيكون لسانه لهجاً مشغولاً طيلة ذلك بالذكر والاستغفار والعبادة، وهكذا، ويكون منصرفاً عن الدنيا وهمومها.

ويمكن استفادة هذا المعنى مما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر(ع) قال: قلت له: إذا خرجنا إلى أبيك أفلسنا في حج، قال: بلى، قلت: فيلزمنا ما يلزم الحاج، قال: يلزمك حسن الصحبة لمن يصحبك، ويلزمك قلة الكلام إلا بخير، ويلزمك كثرة ذكر الله، ويلزمك نظافة الثياب، ويلزمك الغسل قبل أن تأتي الحير، ويلزمك الخشوع وكثرة الصلاة على محمد وآل محمد، ويلزمك التحفظ عما لا ينبغي لك، ويلزمك أن تغضى بصرك من المحرمات والمشتبهات، ويلزمك أن تعود على أهل الحاجة من إخوانك إذا رأيت منقطعاً والمواساة أن تناصفه نفقتك، ويلزمك التقية التي وقام دينك بها، والورع عما نهيت عنه، وترك الخصومة وكثرة الإيمان والجدال الذي فيه الإيمان، فإذا فعلت ذلك تم حجك وعمرتك، واستوجبن من الذي طلبن ما عنده نفقتك واغترابك عن أهلك ورغبتك فيما رغبت أن تنصرف بالمغفرة والرحمة والرضوان.

 

علامات تحصيل المقامات المعنوية للزيارة:

ويمكن للزائر أن يدرك حصوله على المقامات والدرجات المعنوية من خلال علامات ثلاث:

الأولى: طريقة المجيء للزيارة:

من الواضح أن هناك اختلافاً بين الناس في مجيئهم لزيارة الإمام الحسين(ع)، فيجيء بعضهم بصورة عادية، بينما يجيء آخر وهو يعيش حالة التلهف والشوق لزيارته، فإذا كان مجيء الإنسان للزيارة بالنحو الثاني وهي الزيارة بلهفة وشوق كان ذلك علامة كاشفة عن بلوغه مقام العروج الروحي.

 

وأعلم أن الشوق قسمان:

1-الشوق الاختياري، وهو الذي يكون بيد الإنسان بأن يخرج من بيته قاصداً الزيارة منشغلاً بها عن كل شيء، وفي قلبه شوق للزيارة.

2-الشوق القهري، وهو الذي يحصل للإنسان في قلبه من غير اختياره، وهذا يكون مبنياً على ألطاف وعنايات إلهية، وذلك بأن يطلبه الإمام الحسين(ع) إليه ليضيفه، نظير استضافة الله سبحانه وتعالى عباده خلال أيام شهر رمضان المبارك وخلال موسم الحج، وأول علامات الضيافة الحسينية أنه يلقي الشوق في قلبه.

ويحتاج حصول هذا القسم من الشوق إلى مقدمات، على رأسها صفاء النية، وخلوص العقيدة، والمساهمة في إحياء ذكر الإمام الحسين وإحياء أمره(ع).

 

ولا ينحصر اعتبار وجود الشوق عند الزائر في خصوص القدوم لزيارة الإمام الحسين(ع)، بل يكون ذلك أيضاً حال توديعه والخروج من عنده، فيودعه الزائر وكله شوق إلى عدم الخروج من حرمه الشريف وروضته المباركة، بل كله شوق للعودة إليه سريعاً وفي أقرب فرصة، ولهذا نجد التأكيد على هذا المعنى في بعض الزيارات من أن لا تكون هذه الزيارة آخر الزيارات، فيقول الزائر: اللهم ولا تجعله آخر العهد مني لزيارته.

 

الثانية: تجديد العلاقة مع الله:

وذلك من خلال التوبة بعد الإقرار لله سبحانه وتعالى بذنوبه وخطاياه، ومعاصيه، ويكون عازماً على عدم العودة إليها مرة أخرى في حرم الإمام الحسين(ع)، وعند أبي عبد الله(ع)، ويعاهده على عدم العودة إلى ذلك.

الثالثة: تغيّر حاله بعد العودة من الزيارة:

وذلك بالمقارنة بين ما كان عليه قبل الذهاب إلى الزيارة، وما يفترض أنه صار إليه بعدها، فلو كان هناك تغير بين الحالين، بأن كان حاله بعد الزيارة أفضل مما كان عليه قبلها، كان ذلك كاشفاً عن بلوغه البعد الروحي، وحصوله على المقامات والدرجات، أما لو لم يتغير حاله، فإنه لم يحصل على شيء. نعم هذا لا يعني عدم حصوله على الأجر والثواب.

وينبغي الالتفات إلى أن العلامات المأخوذة ليست مأخوذة بنحو مانعة الجمع، بل مأخوذة بنحو مانعة الخلو، بمعنى أن وجود واحدة منها توجب حصول الزائر على شيء من تلك المقامات والرتب والقرب من الله سبحانه وتعالى. نعم وجودها جميعاً يعطي أعلى الرتب، ويوجب نيل أعلى الدرجات والحصول على الكثير من الثواب.

 

 

 

 

 

 

 

 

[1] كامل الزيارات ح 1 ص 262.

[2] المصدر السابق ح 4 ص 263.

[3] كامل الزيارات ح 2 ص 286-287.

[4] المصدر السابق ح 3 ص 287.

[5] كامل الزيارات ح 1 ص 284.

[6] كامل الزيارات ح 3 ص 285.

[7] كامل الزيارات ح 1 ص 278.

[8] يمكن قراءة النص المذكور بقراءتين، فيحتمل أن يكون الزائر هو المتحدث، والله تعالى هو المُحدث من قبل الزائر، ويحتمل أن يكون الزائر هو المُحدث والله تعالى هو المتحدث.