- موقع سماحة العلامة الشيخ محمد العبيدان القطيفي - https://www.alobaidan.org -

السنة الشريفة بين التدوين والوضع

السنة الشريفة بين التدوين والوضع

 

 

قال تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول).

تمثل السنة الشريفة المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، وقد أوجب ذلك العناية والاهتمام بها عند المسلمين، ومع ما لها من الأهمية والمكانة الخاصة عند المسلمين، إلا أنها قد تعرضت لمجموعة من الهجمات قديماً وحديثاً، فبعد المستشرقين، جاء الحداثويون، فقد تعددت شبهاتهم حولها، كشبهة عدم حجيتها، وقد تعرضنا لذلك مفصلاً في العام الماضي.

 

ومن الشبهات التي يذكرونها حولها أيضاً، إنكار الثبوت التاريخي للسنة، والحديث عن ذلك يكون ضمن محاور:

المحور الأول: عرض الشبهة:

يدعي الحداثويون عدم صدور الروايات عن النبي محمد(ص)، وأنه لم يقلها، وإنما قد نسبت إليه من الذين جاءوا من بعده من الصحابة والتابعين، ومن جاء بعدهم، وقد جمعت في مصنفات سميت بعد ذلك بكتب السنة، أو كتب الأخبار، أو الحديث أو السيرة النبوية، ونسبت بعد ذلك إلى النبي محمد(ص) وأعطيت التقديس لتصبح من الأسس التي يقوم عليها النموذج الإسلامي وحضارته.

 

أدلة الشبهة:

وقد استند أصحاب هذه الشبهة إلى أمور أبرزها أمران:

الأول: تأخر تدوين السنة إلى ما بعد المائة من وفاة النبي الأكرم محمد(ص)، وقد أدى هذا أن تفقد السنة قيمتها الثبوتية بسبب عدة إشكاليات أوجبت فقدان الثقة بها.

الثاني: تضخم حركة الوضع في الحديث وازدياده.

 

ويعتبر الأمر الأول العنصر الأساس الذي يركز عليه هؤلاء، نعم قد يجد المتابع لكلماتهم تفاوتاً في ابتداء تدوين السنة، فبعضهم يجعل البداية بعد مضي مائة سنة من رحلة النبي الأكرم محمد(ص)، ويقول آخرون أن ذلك كان بعد مرور القرن الثاني من الهجرة.

وقد برر هؤلاء التدوين للسنة بدافع سياسي بأمر من السلطة وتوجيه من الحكام.

وقد ترتب على تأخر التدوين للسنة بنظرهم نتائج عديدة:

منها: صعوبة التحقق من مصداقية السنة، وهذا يجعلها أقرب إلى التحريف من الضبط.

ومنها: دخول الحديث في الموضوع بشكل كبير جداً، وهو ما أوجد هذا العدد الهائل من الأحاديث.

ومنها: اختلاط الحديث بما صدر عن الصحابة شفاهة.

 

وقد تمسك هؤلاء في دعواهم بتأخر التدوين بأمور نذكر اثنين منها لأنها أهم أدلتهم.

1-نهي النبي(ص) عن تدوين الحديث وكتابة سنته، فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله(ص) قال: لا تكبتوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه.

2-عدم قيام أحد من الصحابة بتدوين الأحاديث الصادرة عن رسول الله(ص).

 

المحور الثاني: تدوين السنة:

وهي من النقاط المهمة وتعدّ من المسائل المختلفة بين المسلمين شيعة وسنة، وحتى لا يطول بنا المقام أحيل القارئ العزيز إلى كتابين مهمين في هذا الجانب، وهما:

1-منع تدوين الحديث للعلامة الجليل السيد علي الشهرستاني حفظه الله.

2-تدوين السنة، للعلامة السيد محمد رضا الجلالي حفظه الله.

 

فإنهما ينفعان كثيراً في هذا الجانب، وسوف أعتمد في ما أعرض على رسالة في تدوين الحديث تقريراً لأبحاث المرجع الديني الأعلى للطائفة الإمام السيد السيستاني(دامت أيام بركات وجوده)، ويمكن عرض ما أفاده(أطال الله في عمره الشريف) بشكل نقاط لما ذكره:

الأولى: إن أحد المناصب الثابتة للنبي الأكرم محمد(ص)، هو منصب تعليم الناس، ويشير لذلك قوله سبحانه وتعالى:- (ويعلمهم الكتاب والحكمة).

ومن المعلوم أن محور التعليم الأساس هو الكتابة، ولذا نجد الأمم المتمدنة وذات الحضارات تسعى لمحو الأمية حتى يتمكن أهلها من الكتابة.

الثانية: إن الطريق لحفظ الأمور المهمة والوثائق وكل ما هو نافذ المفعول يكون من خلال الكتابة حتى يستفيد من ذلك الأجيال القادمة في مستقبل الأيام.

الثالثة: لقد تضمنت بعض النصوص الأمر بالكتابة، فقد جاء مثلاً: قيدوا العمل بالكتابة. وجاء أيضاً: القلب يتكل على الكتابة.

الرابعة: لقد تضمن القرآن الكريم في بعض آياته على الحث على كتابة الأمور المهمة، كالدين مثلاً، فقال سبحانه وتعالى:- (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل). وهذا يكشف عن مدى أهمية الكتابة وعناية الشارع المقدس بها.

 

ومن الواضح أن الدين المأمور بكتابته في الآية الشريفة، لا يصل لأهمية التعاليم الشرعية الصادرة من النبي محمد(ص)، فيستكشف من ذلك أهمية تدوينها وكتابتها.

ومع ملاحظة النقاط المتقدمة، لا ريب في أن مقتضى الحكمة يستدعي أن يأمر النبي الأكرم محمد(ص) بكتابة السنة التي هي ركن من أركان الدين.

ومع ملاحظة ما تقدم ذكره بياناً لثبوت التدوين للسنة الشريفة، يأتي السؤال التالي: هل تم تدوين السنة الشريفة في عهد رسول الله(ص)، بحيث قام الصحابة جميعاً، أو بعضهم بكتابة الحديث النبوي وتدوينه؟

ربما يدعى عدم تحقق عملية التدوين للسنة في حياة رسول الله(ص)، وأنه لو ثبت التدوين لها فإنه في مرحلة زمنية متأخرة، كما سمعت دعوى الحداثويـين، إلا أن المراجعة للمصادر التاريخية ولكتب الفهارس تكشف خلاف ذلك، وتفيد أنه قد تمت عملية التدوين للسنة الشريفة في حياة النبي محمد(ص).

 

مصنفات المسلمين في أيام النبي:

ويمكن تصنيف ما كتبه المسلمون في حياة رسول الله(ص) لأحاديثه إلى صنفين:

الأول: ما كتبه أمير المؤمنين(ع):

إن غالب ما كتبه أمير المؤمنين(ع)، قد كان إملاء من رسول الله(ص) وخطه(ع)، وقد استشهد الأئمة الأطهار(ع) بتلك الكتب والصحف في موارد كثيرة، ويمكن تسمية هذه الصحف بصحف رسول الله(ص)، لأنها من إملائه(ص)، كما يمكن تسميتها بصحف الإمام علي(ع)، لأنها بخطه الشريف.

 

ويظهر من الروايات أن تلك الكتب كانت متعددة، وقد كان الأئمة الأطهار(ع) يستندون إليها، ولنشر إلى بعضها:

منها: صحيفة رسول الله، فقد ورد في الكافي بسنده عن أبي عبد الله(ع)، قال: وجد في ذؤابة سيف رسول الله(ص) صحيفة مكتوب فيها لعنة الله والملائكة على من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً، ومن أدعي إلى غير أبيه فهو كافر بما أنزل الله عز وجل.

وقد عنون هذا الكتاب في مصادر المسلمين بصحيفة علي(ع)، كما جاء ذلك في مفتاح كنوز السنة نقلاً عن البخاري وأحمد بن حنبل، وذكر ذلك مفصلاً في كتاب أضواء على السنة المحمدية.

 

ومنها: صحيفة الفرائض، وهي مذكورة في رواياتنا كثيراً كما في صحيحة محمد بن مسلم وزرارة وأنها كانت من إملاء رسول الله(ص)، وخط علي(ع).

ومنها: الجامعة، وقد كانت من إملاء رسول الله(ص) وخط علي(ع)، وفيها كل حلال وحرام، وتدل على ذلك نصوص متعددة كما في ذيل رواية عبد الله بن سنان، ورواية ابن أبي عمير، وغيرهما.

ومنها: الجفر، وله إطلاقان، أحدهما ما هو مورد البحث وهو ما كان من الجلد ويكتب عليه، وثانيهما أنه جلد ثور تحفظ فيه الكتب.

 

وقد ذكر النصوص الدالة على ذلك السيد البروجردي(ره) في مقدمة كتابه جامع أحاديث الشيعة.

ومنها: مصحف فاطمة(ع)، وقد جاء في نصوص عدة أنه كان بخط علي وإملاء رسول الله(ص)، وقد أشير لبعض تلك النصوص في مقدمة جامع أحاديث الشيعة.

ومع وجود نصوص أخرى تشير إلى تفسير آخر لمصحف فاطمة(ع)، إلا أن هذه النصوص أكثرها، وهذا يوجب تقدم هذا التفسير على غيره.

ومنها: كتاب علي والروايات المنقولة عن هذا الكتاب كثيرة.

 

الثاني: ما كتبه بعض الصحابة:

فمن الكتب التي دونت في زمن رسول الله(ص) صحيفة عمرو بن حزم الأنصاري، وقد ذكر الشيخ الطوسي(ره) في العدة أنها من إملاء رسول الله(ص). ويعدّ كتاب عمرو من الكتب المعتبرة، وقد نقل عنه علماء المسلمين، كما أشير لذلك في الموطأ.

ومنها: ما كتبه سعد بن عبادة الأنصاري، فقد ذكر أنه جمع فيها طائفة من أحاديث الرسول الأكرم محمد(ص)، وسنته.

ومنها: ما كتبه جابر بن عبد الله الأنصاري، وقد ذكر مسلم في صحيحه أنه في مناسك الحج.

 

والمتحصل مما تقدم، وجود تدوين الأحاديث الشريفة في حياة رسول الله(ص)، كما يمكن الاستدلال بذلك على ثبوت التدوين بروايات الإحراق التي وردت في مصادر المسلمين للسنة، لأنه لا يتصور أن يكون الإحراق إلا لشيء موجود فعلاً.

المحور الثالث: وضع الأحاديث والكذب:

وقد عرفت تشبث الحداثويـين بذلك خصوصاً مع دعواهم تأخر التدوين، وقد عرفت جوابه.

وقد تمسكوا لمدعاهم بالنصوص الصادرة عن النبي محمد(ص)، والتي تشير إلى وجود الكذب على النبي محمد(ص)، أثناء حياته، وبعد وفاته، مثل: قوله(ص): من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار. ومن الواضح أنه لولا وقوع الكذب عليه(ص)، لم يكن ليقول هذا الكلام، ويتحدث بمثل هذا الحديث.

وكذلك استندوا إلى دعوى تأخر تدوين الحديث.

 

وما ذكروه يندفع بملاحظة أمرين:

الأول: موجبات القبول بحجية خبر ما:

فإن القبول بأي خبر من الأخبار رهين ملاحظة جانبين، نقده سنداً، ونقده متناً، والأول منهما يوجب دراسة أحوال الرواة الواقعين في السند، بمعرفة أحوالهم من حيث الوثاقة وعدمه حتى يمكن الركون إلى إخباراتهم والتعويل على أخبارهم أو لا.

وأما الثاني، فإنه يوجب التدقيق في متن الخبر وذلك من خلال عرضه على قاعدتين:

1-القاعدة الشرعية، وهي عرض الخبر على الكتاب العزيز، وملاحظة مدى انسجامه معه، فإنه لو كان مخالفاً للكتاب كان ذلك موجباً لرفع اليد عنه، وعدم العمل على وفقه.

2-القاعدة العقلية، وهي تستدعي عرض الرواية على مجموعة من الامور، مثل القضايا العلمية المسلمة ككروية الأرض مثلاً، ومثل القضايا التاريخية الثابتة، ومثل القضايا العقائدية الأساسية مثل مسألة العصمة وعدم السهو والنسيان والخطأ، وعليه لو كان الخبر مخالفاً لشيء مما ذكر كان ذلك مانعاً من الاستناد إليه والتعويل عليه.

 

ومنه يتضح أنه ليس كل خبر منقول عن المعصوم(ص) يعمل به ويعول عليه، وإنما هناك عملية تمحيصية يتم من خلالها التدقيق قبل التسليم بالخبر والقبول به.

الثاني: طريقة التصنيف والتأليف للكتب، وما تضمنته:

فإن المراجع للدور الكبير الذي قام به علماء الحديث في تأليفهم الكتب يكشف عن أن هناك عملاً تمحيصياً جباراً قد قاموا به، فإن استغراق تأليف كتاب كالكافي عشرين سنة وزيادة من قبل الشيخ الكليني(ره)، لم يكن لمجرد نقل رواية من كتاب لآخر، وإنما هذا يشير إلى الجهد المبذول من قبله(ره) في عملية التمحيص والتدقيق في الروايات قبل قيامه بنقلها وتدوينها في كتابه.

 

ومن الطبيعي أن عملية التدقيق كانت تتم من خلال ملاحظة عرض الرواية على القاعدتين التي تمت الإشارة إليهما في الأمر السابق من جهة، وأيضاً ملاحظة قواعد المذهب وأصوله، بل ملاحظة قواعد الشريعة المحمدية وأصولها، ولذا نجد أن بين ما ألفه الشيخ الكليني(ره) وما ألفه الشيخ الصدوق(ره) اختلافاً لأن كل واحد منهما قد عمد إلى إعمال أدواته الاجتهادية التي أوجبت وجود هذا الاختلاف.

بل يظهر من كلمات المرجع الأعلى الإمام السيستاني(دامت أيام بركاته وجوده)، أن أصحاب الأئمة الأطهار(ع) كانوا لا يدونون في كتبهم النصوص الصادرة تقية، لأنهم يعرفون أن الإمام(ع) يتكلم بنحو المراد الجدي أو لا، وهذا يشير إلى أن الكتب التي وصلت إلى علماء الطائفة كالكليني(ره) وغيره خالية من النصوص الصادرة تقية ولو في الجملة لا بالجملة.

 

والحاصل، إن التدقيق في عملية التأليف والتصنيف الحاصلة من الأعلام تكشف عن عملية التمحيص والتميـيز للنصوص الموضوعة، ما يوجب عدم تمامية الإشكال المذكور للمنع من حجية السنة وفعليتها.

وأضعف من ذلك منعهم من السنة لكونها أحاديث قد نقلت بالمعنى، ومنشأ الضعف أن ذلك يعود للاحتياط وشدة التحرز في عملية النقل.

 

وقد كان أرباب التصنيف والتأليف ملتفتين إلى ذلك، ولذا تجد أن علماء الدراية قد صنفوا الأحاديث إلى أصناف، فذكروا: المصحّف، والمدرج، والمضطرب، والشاذ، والمعلل.

وقد ميز نقاد الحديث بين الروايات المروية بالمعنى عن الروايات المروية باللفظ من خلال عملية النقد وجمع طرق الحديث.