19 مارس,2024

الاصلاح الحسيني(2)

اطبع المقالة اطبع المقالة

الاصلاح الحسيني(2)

 

الإصلاح من المفاهيم القيمية:

ثم إنه بعد الفراغ عن تحديد حقيقة الإصلاح الوارد ذكره في كلمات الإمام الحسين(ع)، وأنه المعنى اللغوي المأخوذ من مادة الصلاح، بقي الإشارة إلى كيفية إحرازه في الخارج، وتحققه، وأنه مختص بزمان أو مكان، أو فئة خاصة، أو أنه عام لا يختص بشيء من ذلك.

ومن الواضح أن تحديد ذلك يستدعي بداية تحديد أنه من أي نوعي المفاهيم الموجودة، ذلك أن المفاهيم إما أن تكون عناوين خارجية، أو تكون عناوين قيمية.

 

والمقصود من العناوين الخارجية: الأشياء الموجودة في الخارج.

وأما العناوين القيمية، فهي ما ينبغي إيجاده في الخارج، أو ما لا ينبغي وجوده، والمقصود من (ينبغي) عبارة عن كل فعل حسن لابد من القيام به، وأما ما (لا ينبغي)، فإنه يقصد منه كل فعل قبيح لا ينبغي القيام به.

ووفقاً للتميـيز المتقدم بين المفاهيم القيمية والخارجية، سوف يندرج مفهوم الصلاح والإصلاح تحت المفاهيم القيمية، لأنه من الأمور التي ينبغي وجودها، ويلزم الحرص على تحقيقها في الخارج، ويقابله الفساد، فإنه الشيء الذي لا ينبغي فعله، ولابد من الحيلولة دون وجوده ووقوعه.

 

الإصلاح من المفاهيم القيمية العامة:

وتنقسم المفاهيم القيمية إلى قسمين، مفاهيم قيمية خاصة، ومفاهيم قيمية عامة.

أما المفاهيم القيمية الخاصة، فهي التي تكون محدودة بزمان، أو مكان، أو فئة معينة، ولا تكون جارية في كافة الحيثيات والجوانب، ولذا تستعمل في مورد خاص لا مطلقاً.

وهذا بخلاف المفاهيم القيمية العامة، فإنها لا تكون محدودة بمورد خاص، بل تكون واسعة فتشمل جميع الأفعال الحسنة، أو جميع الأفعال القبيحة، وهي لا تختص بزمان، ولا مكان، ولا فئة خاصة، بل تكون جارية في كافة الأزمنة والأماكن، وعلى جميع الأفراد.

 

وقد تضمنت الآيات القرآنية الإِشارة إلى مجموعة من المفاهيم القيمية العامة، مثل مفهومي المعروف والمنكر، فإنهما عامان شاملان لكافة الأزمنة والأماكن، والأفراد، فلا يختص جريانهما بعصر النبي الأكرم محمد(ص)، دون عصرنا، أو أنهما لا يجريان في العصور القادمة قبل قيام الساعة، كما أن المعروف الذي كان في عصر رسول الله(ص)، لا زال معروفاً إلى قيام الساعة، والمنكر الذي كان يمنع أصحابه عن إتيانه، هو نفسه لا زال منكراً إلى يوم القيامة.

 

وبالجملة، إن المعروف هو كل فعل حسن، والمنكر هو كل فعل قبيح.

ومن ذلك أيضاً مفهوما الخير والشر، فإنه يجري فيهما ما قدمنا ذكره بالنسبة إلى مفهومي المعروف والمنكر دون فرق بينهما. وكذا أيضاً مفهوما الصلاح والفساد.

 

ميزة المفاهيم القيمية:

وتختلف المفاهيم القيمية عن المفاهيم الخارجية، في أنها لا تحرز من خلال التجربة الحسية العينية، بخلاف المفاهيم الخارجية، فإن طريق إحرازها يكون من خلال ذلك، فيمكن إحراز حرارة الجو من خلال تصبب العرق من جسم الإنسان، ليكون ذلك كاشفاً عن الحرارة، كما أن إصابة الإنسان بالقشعريرة والارتجاف يكشف عن برودة الجو.

ومثل ذلك لو أخبرك شخص بأن المكان مضيء، فإنه يمكن التأكد من صحة ذلك وعدمه، وكذا لو قال لك شخص أن السماء ماطرة، فإنه يمكن الوقوف على ذلك والتحقق من صدقه وعدمه.

 

أما المفاهيم القيمية، والتي قد عرفت أن ضابطتها كون الفعل حسناً، أو قبيحاً، فإن إدراك حسن الفعل، أو قبحه لا يخضع للتجربة الحسية العينية، فلا يمكن إحراز حسن فعل أو قبحه من خلال القياس والتجربة، وإنما يخضع ذلك لمتابعة النظام القيمي للمجتمعات، لأن الأفراد والمجتمعات تتمتع بنظام قيمي يجعلها تعتبر مجموعة من الأفعال حسنة، وأخرى قبيحة.

 

ويمكن تقسيم رؤية المجتمعات للمفاهيم القيمية إلى قسمين:

الأول: ما يكون موضع اتفاق عندهم جميعاً، فلا يوجد اختلاف بين أفراد المجتمعات وفي كل الأزمنة والعصور على انطباق عنوان الحسن أو القبح على الفعل المعين، فجميعهم يتفقون على حسن الشفقة على اليتيم، وحسن العدل، وحسن الصدق، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، ومساعدة الفقراء، كما أنهم يتفقون على قبح الظلم، والكذب، وضرب اليتيم بدون مبرر، والخيانة، وعقوق الوالدين، وغير ذلك.

 

الثاني: ما يكون موضع اختلاف بينهم في انطباق عنوان الحسن والصلاح عليه وانطباق عنوان القبح والفساد، فقد تبني بعض المجتمعات على كونه أمراً حسناً، بينما يبني مجتمع آخر على كونه أمراً قبيحاً، وهذا يوجب الوقوف على الضابطة المعيارية التي يستند إليها في وصف فعل ما بالصلاح والإصلاح ليندرج تحت ضابطة ما ينبغي فعله فيكون حسناً، أو لا ينبغي فعله فيكون فساداً، ولنقرب ذلك ببعض الأمثلة:

1-الحرية، فإن المجتمعات الغربية تجد أن إفساح المجال للإنسان في العمل وفق ما يرغب وفي كل المجالات من الأمور الإصلاحية، كما أنها تعتبر التدخل في شؤونه من الفساد والإفساد، فلا يحق لأحد أن يجبر شخصاً على اتباع عقيدة معينة أو دين محدد، بل إن له مطلق الحرية في انتخاب الدين أو العقيدة التي يرغب الالتـزام بها.

 

كما أن له حرية ممارسة ما يريد ممارسته، فيحق له أن يقيم علاقة مع شخص من نفس جنسه، فيتزاوج ذكران ببعضهما، أو ترتبط أنثى بعلاقة حميمية مع أنثى أخرى، وهذا يعد من الحرية الشخصية، فكما أن الإنسان حر في انتخاب اللباس الذي يريد لبسه، كذلك له الحرية في انتخاب شريك حياته.

وعلى العكس تماماً، فإن الرؤية الإسلامية تعدّ جميع ما ذكر من المفاسد والفساد والإفساد، فإنه ليس للإنسان حرية انتخاب الدين الذي يود الانتماء إليه، وإنما يكون ذلك وفق ضوابط معينة، وعند متابعة الدليل، يلزمه اتباع الرسالة المحمدية، لأنها التي قام الدليل عليها اليوم، وأنها تمثل الدين الذي به النجاة في الآخرة، وعليه لابد أن يكون الإنسان خاضعاً لأحكامها التي تضمنته، وأكثر ما يدعى أنه من الحرية الشخصية المسوغ للإنسان ممارستها مرفوض في الشريعة الإسلامية لمنافاته لأحكامها.

 

2- مجموعة من التشريعات الإسلامية، مثل حد السرقة، ومثل قتل المرتد الفطري، فإن المجتمع الغربي، ومنظمات حقوق الإنسان ترفض هذه الأمور، وتعتبرها وحشية وعمليات إرهابية، وما شابه، وعلى عكس ذلك يعتبرها الشارع المقدس نحواً من أنحاء الإصلاح الاجتماعي.

ومن ذلك أيضاً حجاب المرأة وسترها، ومسألة تعدد الزوجات، ومقدار الميراث للمرأة، وديتها مقابل دية الرجل، وهكذا.

 

3-قراءة الدين، فإن هناك من يضيق دائرته فاعليته في الحياة الإنسانية ليحده بخصوص البعد الروحي، فيجعل الدين مجرد مجموعة من الطقوس العبادية التي يمكن للإنسان من خلالها التقرب إلى الله سبحانه وتعالى ونيل بعد روحي معنوي يفرغ عليه جراء ذلك، ويمنع أن يكون للدين دور في الحياة الإنسانية في أبعادها الأخرى، من الجوانب الاقتصادية، والتربوية والاجتماعية، والسياسية والفكرية وغير ذلك.

وهذا ما يفرضه الطرح الإسلامي للدين، فإنه يجعل الدين عنواناً شاملاً لأكثر مفاصل الحياة الإنسانية، وفعاليته فيها.

 

ولا تنحصر موارد الخلاف في تعيـين صلاح وفساد بعض المفاهيم الخارجية في هذين الموردين، بل يمكن للقارئ العزيز أن يقف على غيرهما.

والحاصل، إنه ومع وجود هذا الاختلاف الحاصل بين الأفراد لابد من وجود معيار يحكم للبناء على تحديد أيها يكون من الصلاح والإصلاح ليكون مشمولاً بالخطاب الحسيني، وبالتالي يكون داخلاً ضمن مشروعه الإصلاحي(ع)، وما ليس ذلك.

 

معيارية الإصلاح:

إن التدقيق في عبارة الإمام الحسين(ع) التي جاءت في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية يوم خروجه من المدينة المنورة، وكذا ملاحظة بقية كلماته الأخرى التي صدرت عنه، تشير إلى المعيار المتبع في تحديد قيمية الإصلاح، وهو الدين الذي جاء به النبي الأكرم محمد(ص)، فقد جاء في وصيته(ع): وأسير بسيرة جدي وأبي.

 

ومن الواضح جداً أن سيرة رسول الله(ص)، وكذا أمير المؤمنين(ع)، هي المنبثقة من الشريعة المحمدية السمحاء التي جاء بها المصطفى(ص) فيكون المعيار في وصف فعل من الأفعال بكونه صلاحاً وإصلاحاً أو فساداً وإفساداً من خلالها، فمتى قررت الشريعة المحمدية أنه من الصلاح والإصلاح رتب على ذلك الأثر، وحكم عليه بذلك، ومتى كان الحكم الصادر منها أنه فساد وإفساد كان متبعاً.

 

ويتضح هذا المعنى أكثر من خلال الخطاب الذي ألقاه الإمام الحسين(ع) في أصحاب الحر بن يزيد الرياحي يوم التقاهم، فقد جاء فيه: إن رسول الله(ص) قد قال في حياته من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغير بفعل ولا قول كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله، وقد علمتم أن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتولوا عن طاعة الله وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله وأني أحق بهذا الأمر.

 

ومنه يتضح أن كثيراً من العناوين التي يطرحها المجتمع الغربي، ويسمعها بأنها عملية إصلاحية لابد أن تعرض على الشريعة الإسلامية، فإن وافقت صدق العنوان المذكور عليها، كانت من الإصلاح فعلاً، أما لو لم تكن كذلك، عدت عندها أنها من الإفساد، وتكون منافية لمشروع الإمام الحسين(ع) الإصلاحي، لأنها تتضمن تحليلاً لما حرم الله سبحانه وتعالى، وتعطيلاً لحدود الله عز وجل، وغير ذلك مما تمت الإشارة إليه في كلامه(ع)[1].

 

 

 

 

[1] بارقة من سماء كربلاء ص 155-171(بتصرف).