29 مارس,2024

ثنائية الدين(3)

اطبع المقالة اطبع المقالة
ثنائية الدين(3)

 

الإكراه تكويني أم تشريعي:

وكما وجد محتملان في الحكم الوارد في الآية الشريفة، فهنا محتملان أيضاً في مدلول الآية المباركة، وأنه مسألة كلامية، فيكون نفي الإكراه الوارد فيها نظير ما ورد عنهم(ع): لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين[1]. وعليه، تكون الآية مشيرة إلى أمر تكويني، ويكون الحكم المتفرع عليها حكماً إرشادياً. فتكون الآية الشريفة مشيرة إلى حكم كلامي، وليس حكماً فقهياً، ويكون مفادها أن المسائل العقدية والقلبية وموضوع الحق والباطل، لا يكون بالإكراه، فإنه بعد تحقق المقدمات العلمية، وقيام البراهين، سوف يكون التصديق العلمي من ذاته، فيلحظ عندها التزام العالم بالتصديق بقلبه وبطيب خاطر منه، فيتولد لديه التصديق القلبي والإيمان.

 

أو أنه مسألة فقهية، فيكون نظير ما ورد عنه(ص): لا ضرر ولا ضرار في الإسلام[2]، و: لا رهبانية في الإسلام[3]. وهذا يعني أن الجملة الخبرية لغرض الانشاء، فيكون الحكم المتفرع عنها حكماً تكليفياً[4].

والحاصل، إن الجملة الخبرية تخبر عن تلك الواقعة التكوينية وهي أن الإيمان حالة قلبية لا تقبل الإكراه عليه، بخلاف الجملة الانشائية، فإنها تفيد مطلباً آخر، وهو الحرمة الشرعية على الإكراه.

 

وكيف ما كان، فهناك احتمالان في المقام، بل قولان:

الأول: البناء على أن الاكراه الموجود في المقام هو الإكراه التكويني منه سبحانه وتعالى، وهو ما يقابل الاختيار، واستعماله في هذا المعنى كثير جداً، ففي حديث الرفع عن الإمام الصادق(ع) قال: قال رسول الله(ص): رفع عن أمتي تسعة: الخطأ والنسيان، وما أكرهوا عليه[5]. وبناء عليه يكون معنى قوله تعالى:- (لا إكراه في الدين)، يعني أن دين الله لا يتدين بإكراه وإلجاء تكويناً، مثل قوله تعالى:- (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً)[6]. وقد جاء في تفسيرها عن أبي عبد الله(ع) قال: عرفناه إما آخذاً وإما تاركاً[7]. ويشير إليه أيضاً قوله تعالى:- (لو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)[8].

 

وقد أختار هذا المعنى غير واحد من الأعلام، كبعض الأعاظم(ره)، فذكر أن الجملة خبرية، وليست إنشائية، فيكون مفادها حكماً تكوينياً، وليس تشريعياً، وعليه سوف يكون الحكم الوارد فيها حكماً إرشادياً، وليس حكماً مولوياً[9].

الثاني: ما أختاره العلامة الطباطبائي(ره)، من أن الإكراه الوارد فيها هو الإكراه التشريعي، وأنه حكم إنشائي، ومفاده النهي عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرهاً، وهو نهي متكٍ على حقيقة تكوينية[10]. ويدل على ذلك التعليل الذي جاء بعده:- (قد تبين الرشد من الغي)[11].

 

ومقتضى ما أفاده(ره) أن يكون مؤدى النهي القرآني هو الحرمة الشرعية، وعليه لا يكون مفاد الآية: بأن إكراه الناس على العقائد الدينية أمر غير ممكن، لأنها من الأمور الجوانحية، فإن ذلك مفروغ منه، وإنما تريد أن تقرر أن أصل الإكراه محرم، لأنه يؤدي إلى اقصاء حرية الانسان واختياره، والسر في تحريم الإكراه أنه إنما يشرع ويقبل حال العجز عن إيصال الحقائق والبيانات والآيات إلى الإنسان فنكرهه حرصاً منا على إيصاله للكمال المطلوب منه، لكننا غير عاجزين عن إيصاله إليه. نعم من لم يستطع رؤية الطريق، ولم يتضح له، يجوز توجيهه حتى تتضح له معالم الدين ومبادئه العامة والبراهين الحقة، لكن بعد ذلك لا يجوز إكراهه على قبول الدين مطلقاً، كالطفل الذي يجب إرشاده وتعليمه ويتولى أمره حتى يبلغ أشده وبعد ذلك لا يصح إجباره، أو إكراهه على شيء.

والحاصل، إنه بعد الكتب والصحف وبعث الأنبياء والرسل ونصب الأئمة وتزويد الإنسان بعقل يميز فيه الحق من الباطل، وهو قوله تعالى:- (قد تبين الرشد من الغي)[12]، لم يبق مجال لاحتجاج الانسان على الله، لذلك لا يجوز الاكراه في حقه، بل لا يجوز مطلقاً.

 

الاستدلال بالآية للمدعى:

ولا يذهب عليك أنه حتى يصح الاستدلال بالآية الشريفة على حرية العقيدة كما يصوره هؤلاء، لابد أن تكون الجملة الخبرية الواردة فيها لغرض الانشاء، وأنها تفيد حكماً تشريعياً، وهو الحرمة وليس المستفاد منها حكماً تكوينياً. وهذا يعني أنه إنما يصح الاستدلال بها وفقاً لمختار العلامة الطباطبائي(ره)، لقوله بأن المستفاد من الآية الشريفة هو حكم ولوي، يفيد أن الإكراه التكويني ممكن لكنه محرم. ولا يجري ذلك لو بني على مختار بعض الأعاظم(ره)، ومن وافقه من الأعلام من أن مدلول الآية المباركة هو حكم تكويني وليس تشريعياً، فيكون الحكم الوارد فيها حكماً إرشادياً، وليس حكماً مولوياً.

 

مختار الأعلام في دلالة الآية:

والمعروف بين الأعلام، البناء على أن مفاد الآية الشريفة هو حكم تكويني، وليس حكماً تشريعياً، والذي دعاهم إلى القول بذلك دون البناء على كونه تشريعياً، ما ذكروه من أنه يعتبر في الأحكام المولوية إمكان تحقق موضوعها، فالكذب مثلاً لم يكن منشأ النهي عنه مجرد كونه خلقاً بذيئاً، بل نهي عنه لأنه ممكن الوقوع، وإلا فمع عدم إمكان وقوعه خارجاً لا معنى للنهي عنه، ولهذا لم نجد في كلمات الفقهاء الفتوى مثلاً بحرمة السكن في كوكب الشمس، لأن ذلك لغوي، بسبب أنه غير ممكن عادة.

كما أنه نقض على حمل دلالة الآية الشريفة على الحكم التشريعي، ومن ثمّ الحرمة والحكم المولوي، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه إكراه على الدين، وليس إكراهاً في الدين[13].

 

نسخ الآية الشريفة:

ثم إنه لو سلم تمامية مختار العلامة الطباطبائي(ره)، من دلالة الآية الشريفة على كون الإكراه المنفي فيها هو الإكراه التشريعي، وأنها تفيد حكماً مولوياً، وهو حرمة إكراه أحد على اتباع دين أو عقيدة، فإنه يرد في البين إشكال، وحاصله: وقوع التناقض بين الآية محل البحث، والآيات الخاصة بالجهاد، مثل قوله تعالى:- (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم)[14]، وقوله تعالى:- (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين)[15]، وقوله عز من قائل:- (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم)[16].

 

وقد اختلفت العلاجات المذكورة في كلمات الأعلام علاجاً للمناقضة المذكورة، فجعل بعضهم آيات الجهاد ناسخة لآية نفي الإكراه على الدين، ورافعة لحكمها، فلم يعد نفي الإكراه على الدين محرماً، بل أصبح أمراً سائغاً وجائزاً شرعاً بعد نزول آيات الجهاد.

وأختار آخر عكس ذلك، بمعنى تحكيم آية نفي الإكراه على الدين، وذلك لانتفاء موضوع آيات الجهاد في عصر الغيبة المظلمة، لأن الجهاد مختص بعصر رسول الله محمد(ص)، وبعصر حضور الإمام صاحب الزمان(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، وليس له موضوع في عصر الغيبة المظلمة، فلا يوجد معارض لآية نفي الإكراه على الدين.

 

وقد ذكر بعض الأعاظم(ره)، نفي نسخ الآية الشريفة، بل بطلان القول بذلك، واستند لأمور ثلاثة:

الأول: إنه لا دليل على ذلك.

الثاني: إن الدين أعم من الأصول والفروع، وذكر الكفر والإيمان بعد ذلك ليس فيه دلالة على الاختصاص بالأصول فقط.

الثالث: إن البناء على النسخ لا يناسب التعليل الوارد ذكره في ذيل الآية الشريفة بقوله سبحانه:- (قد تبين الرشد من الغي)[17].

 

ومثله قال السيد الطباطبائي(ره) في الميزان، فقد جعل قوله تعالى:- (قد تبين الرشد من الغي)[18]، سبباً رئيساً لنفي النسخ، لأن الناسخ ما لم ينسخ علة الحكم لم ينسخ نفس الحكم، فإن الحكم باقٍ ببقاء سببه، ومعلوم أن تبين الرشد من الغي في أمر الإسلام غير قابل للارتفاع بمثل آية السيف، فإن قوله:- (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) مثلاً، أو قوله:- (وقاتلوا في سبيل الله)، لا يؤثران في ظهور حقية الدين شيئاً حتى ينسخا حكماً معلولاً لهذا، وبعبارة أخرى: الآية تعلل قوله:- (لا إكراه في الدين)، بظهور الحق، وهو معنى لا يختلف حاله قبل نزول حكم القتال وبعد نزوله، فهو ثابت على كل حال، فهو غير منسوخ[19].

 

وعالج بعض الأساتذة(دام موفقاً)، شبهة النسخ من خلال ملاحظة الهدف من آيات الجهاد، فأشار إلى أنه لو كان الهدف من الجهاد هو إكراه الناس على قبول الدين، كان ذلك منفياً بآية نفي الإكراه. أما لو كان لها هدف آخر، فلابد من ملاحظة ذلك الهدف والنظر في أنه ينسجم وآية نفي الإكراه، أو أنه يختلف وإياها، فلو كان منافياً لها لزم إيجاد حل ومعالجة لذلك. أما لو كان منسجماً معها، فلا حاجة للمصير للقول بالنسخ، فضلاً عن العمد لإيجاد الحل.

وعند التأمل في آيات الجهاد، نجد أنها تهدف إلى رفع الفتنة المانعة من دخول المستضعفين في الدين الإسلامي، وليست بصدد الحديث عن إكراه الناس على الدين، وعليه لا توجد أدنى منافاة بين آيات الجهاد، وآية نفي الإكراه على الدين[20].


 

 

—————————–

[1] أصول الكافي ج 1 ص 160.

[2] من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 334.

[3] بحار الأنوار ج 65 ص 319.

[4] تفسير تسنيم ج 12 ص 190-193(بتصرف).

[5] التوحيد ص 353.

[6] سورة الدهر الآية رقم 4.

[7] التوحيد ص 411.

[8] سورة يونس الآية رقم 99.

[9] البيان في تفسير القرآن ص 307، كما أختاره أيضاً آية الله الشيخ محمد باقر الملكي الميانجي في كتابه مناهج البيان في تفسير القرآن ج 3 ص 17-18.

[10] الميزان في تفسير القرآن ج 2 ص 342.

[11] سورة البقرة الآية رقم 256.

[12] سورة البقرة الآية رقم 256.

[13] مناهج البيان في تفسير القرآن ج 3 ص 19(بتصرف).

[14] سورة التوبة الآية رقم 73.

[15] سورة البقرة الآية رقم 193.

[16] سورة التوبة الآية رقم 5.

[17] البيان في تفسير القرآن ص 307.

[18] سورة البقرة الآية رقم 256.

[19] الميزان في تفسير القرآن ج 2 ص 343-344.

[20] منطق فهم القرآن ج 2 ص 343-346(بتصرف).